تخطي إلى المحتوى
الكتب الضائعة الكتب الضائعة > الكتب الضائعة

الكتب الضائعة

كل من يقرأ أو يدرس يعرف أن النهضة المصرية الحديثة بدأت مع محمد علي الذي تولى حكم البلاد عام 1805. طبعا كانت هناك مقدمات للنهضة من مفكرين وأحداث، لكن معه صارت النهضة من أهداف الحكم نفسه. شرح ذلك يطول. من أبرز ما فيه إرسال البعثات إلى فرنسا وأوروبا لتلقي العلوم العصرية، والعودة بأفكارها إلى الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية.
أعرف جيدا أن محمد علي وأبناءه كانوا غير راحمين لعموم المصريين، من ظلم وسخرة ومصادرة الأملاك وغير ذلك كثير، لكني لا أقوم الآن بتقييم الحكم والحكام، وهذا لا ينفي اتساع مساحة النهضة، بل وانفجارها في كل مجال. النهضة التي تتعرض إنجازاتها في البناء والحدائق الآن إلى تشويه، ليست وراءه معرفة بقيمتها، ولا دراية بمعنى الثقافة في جانبها المادي.
وبحكم العمر أستطيع أن أقول راضيا وواثقا مما أقول، إن قراءاتي الأولى أيام الصبا والشباب، كانت في إنتاج صناع النهضة من مفكرين وسياسيين وأدباء، وإنني الآن أعود لهذه الكتب لأهرب مما حولي من تدهور في الحياة، أولئك المفكرون الذين أرى كتبهم غائبة الآن عن الأجيال الجديدة بسبب ارتفاع أسعار الكتب الجنوني، هناك طبعا أسعار غير مرتفعة لكتب تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة أو الهيئة المصرية للكتاب لكن بأعداد قليلة من النسخ، كما أن العدد الأكبر من الكتب عامة تصدره دور النشر الخاصة، ومن ثم ففرصة انخفاض سعر الكتاب شبه معدومة. سأبتعد عن ارتفاع أسعار الكتب التي كتبت واقترحت طرقا لتخفيضها أكثر من مرة ولا فائدة، وإن كانت الأسعار أحد أسباب تفكيري في ما أكتب الآن.
أحب أن أشير إلى الكتب التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين، خاصة بعد ثورة 1919. الثورة التي لا تغيب عني. ليس لأن شهر مارس/آذار يأتي كل عام، وفيه انطلقت الثورة بعد القبض على سعد زغلول ورفاقه ونفيهم خارج البلاد أول مرة، لكن لأنها الثورة التي بدأت بعدها النهضة تتسع في كل مجال. حتى في سنوات حكم أحزاب الأقلية الموالية للملك والاستعمار الإنكليزي، فحزب الأغلبية الذي هو حزب الوفد، لم يفز بالحكم منذ 1919 حتى 1952 غير ثلاث مرات، كلها تصل تقريبا إلى سبع سنوات. قبل ثورة 1919 ومنذ بعثات محمد علي وأبنائه إلى فرنسا وأوروبا، وعودة المبعوثين بأفكار مهمة في الثقافة والتعليم والبناء والشوارع والحدائق، وطريق النهضة لم ينقطع. اتسع هذا الطريق رغم الاحتلال البريطاني 1882، واتسع أكثر مع ثورة 1919. ملاحظة بسيطة مثل سؤال لماذا كان مفكر مثل طه حسين، يكتب في الفكر والترجمة والرواية معا؟ لماذا رغم أنه كان معلما وسياسيا ومفكرا، كتب الرواية ومارس الترجمة؟ الإجابة التي أقولها دائما إنه كان يحاول أن يبعث بالنهضة في كل أشكال الفكر والإبداع كما فعل في التعليم. الأمر نفسه حدث مع العقاد الذي أقام الدنيا مع إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري من أجل تجديد الشعر، في ما سمي بمدرسة الديوان، ولم ينقطع عن الكتابة الفكرية. كتب رواية واحدة حقا هي «سارة» ربما لهذا السبب أراد أن يبعث بالنهضة في كل مجال، وشعر بأنه غير موفق فيها فابتعد عنها. الأمر نفسه مع توفيق الحكيم الذي كتب الرواية الرائعة مبكرا، كما كتب في المسرح والفكر.
ورغم النهضة الأدبية كانت مساحة الكتب الفكرية هي الأكبر، فالفكر طريق النهضة. قرأت في صباي وشبابي لكتّاب يطول الحديث عنهم. غير طه حسين والعقاد. قرأت لمحمد لطفي جمعة وإسماعيل أدهم ومحمد فريد وجدي وعبد الرحمن الرافعي ومصطفى صادق الرافعي وسلامة موسى وإسماعيل مظهر ومحمد حسين هيكل وأحمد لطفي السيد وعلي مبارك ومصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق وقاسم أمين، ومحمد فريد أبو حديد وفخري أبو السعود وصبحي وحيدة وعبد الرحمن فهمي وطبعا قبلهم جميعا رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، وغيرهم من رواد النهضة الفكرية والسياسية أيضا، ومن بعدهم ممن عاصروهم أيضا مثل حسين مؤنس وعبد العزيز الأهواني ودراساتهما عن الأندلس، وعبد الرحمن بدوي ومؤلفاته الفلسفية وترجماته الأدبية والفكرية وروائعه المئة التي لم تكتمل في كل مجال، وشوقي ضيف ومحمد غنيمي هلال ومحمد مندور ومحمد كامل حسين وبدر الدين أبوغازي وفتحي رضوان ومؤسس الدراسات الشعبية عبد الحميد يونس، ومن بعدهم مثل حسن حنفي وفؤاد زكريا وشوقي عبد الحكيم وزكي نجيب محمود ورؤوف عباس وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم ولويس عوض ورمسيس عوض وعلي سامي النشار وأحمد أبو زيد ويونان لبيب رزق ونعمات أحمد فؤاد وعبد الوهاب المسيري وعبد العظيم رمضان ومراد وهبة وطارق البشري ونوال السعداوي، حتى نصل إلى رفعت السعيد وصلاح عيسى وسيد القمني وأجيال بيننا مثل أحمد زكريا الشِّلق ومحمد أبو الغار وعمار علي حسن وإيهاب الملاح ومصطفى عبيد وممدوح النابي وطارق النعماني وغيرهم كثيرون يستحقون الإشادة. هناك دور نشر قليلة. ربما واحدة أو اثنتان هي من تُعني بإعادة نشر أعمال لهؤلاء، وبصفة خاصة الرواد الأوائل للنهضة الذين طبعا لن يسعوا لنشر أعمالهم! وكونها دور نشر خاصة تكون الكتب مرتفعة السعر بسبب أسعار الورق والطباعة. هنا يأتي حديثي الموجه إلى وزارة الثقافة. أن تقوم أجهزتها بطباعة كل مؤلفات الرواد واحدا بعد الآخر. لا تختار بينها، ولا تكتفي بكتاب أو اثنين حظيا بشهرة كبيرة لكاتب، فما أكثر الكتب المهمة التي لم تحظ بالشهرة مثل غيرها، رغم أنها تركت أثرا كبيرا في قرائها من جيلي أكثر من غيره، حيث كانت المكتبات مفتوحة، وكنا نزورها، وهذه الزيارات قلت الآن. خذ جولة مثلا في مكتبات قصور الثقافة التي تشمل كل البلاد تجدها تقريبا تنعى من بناها، فضلا عن سهولة الاستعارة من المكتبات من قبل، أو غواية الاستعارة للكتب النادرة. الكتب التي صنعت نهضتنا من الفكر كم نحن في حاجة إلى إتاحتها بأسعار بسيطة لا يتجاوز الكتاب منها عشرين جنيها، وأتمنى أن أقول عشرة. هذا سيحتاج دعما من الوزارة التي هي ناقصة الدعم، فعلى الحكومة أن تدعمها بما يمكن أن يجعلها تفتح الطريق واسعا لإعادة طبع أعمال هؤلاء، خصوصا منذ النهضة وما بعد ثورة 1919. قد تجد كثيرا، أو شيئا من هذه الكتب على المواقع الإلكترونية مسروقا، أو في مواقع جيدة مثل «أبجد» أو «مؤسسة هنداوي»، لكنك لن تجد كل الكتب ولا أكثرها خاصة لرواد النهضة، فضلا عن أنه ليس كل الناس تقرأ على السوشيال ميديا، فما زالت للكتاب الورقي فتنته، بدليل زحام معارض الكتب في مصر وكل العالم العربي. فهل لا تستحق الأجيال الجديدة أن تكون هذه الكتب في متناول يدها بأسعار بسيطة. لن أكون مغاليا حين أقول إن ما سيصدر من هذه الكتب مدعوما من الدولة، سينفد في يوم واحد، كما كان يحدث مع مكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع، سنوات الفنان فاروق حسني وزيرا للثقافة وسمير سرحان رئيسا لمجلس إدارة هيئة الكتاب، برعاية سوزان مبارك. مكتبة الأسرة كانت تُعنى أكثر بكتب الأحياء، وكان الإبداع فيها والفكر معا، لكني أركز حديثي على الكتب الفكرية. في مكتبة الإسكندرية مشروع جميل وراءه المفكر أحمد زايد رئيس المكتبة، وهو سلسلة تراث الإنسانية للناشئة، وهو كتابة بلغة سهلة عن بعض المشاهير أو القضايا الفكرية، لكن تظل الكتب الأصلية كاملة هدفا، ولا أعتقد أني أو جيلي من القراء لن يتكرر، فما أكثر القراء الآن، بل هم أكثر من أيامنا بحكم زيادة السكان، ورغم قلة وانهيار التعليم.

المصدر: 
القدس العربي