ملاحظة المحرّر
هذه مجموعة من المقابلات أجراها عدد من الصحفيين من مختلف المشارب مع نعوم تشومسكي، وذلك خلال الشهر الأول الذي تلا الهجمات في 11 سبتمبر (أيلول) 2001م، على مركز التجارة العالمي والبنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية). وقد أجريت معظم هذه المقابلات عبر البريد الإلكتروني، وكان الكثير من الصحفيين أجانب، يتكلمون اللغة الإنكليزية ويكتبونها لغة ثانية. ومع أن بعض المقابلات قد تمّت بعد ثمانية أيام فقط من حدوث الهجمات، إلاّ أن عمليات التنقيح والإضافة والمراجعة قد استمرّت لتتلاءم مع آخر الأخبار المتسارعة، إلى أن تمّ إرسال الكتاب إلى المطبعة في 15 تشرين الأول. ومن ثم، فإن المقابلات المؤرَّخة في سبتمبر (أيلول) قد تحتوي على إشارات لأحداث جرت في تشرين الأول (أكتوبر). إضافة إلى ذلك، فقد تمّ أثناء عملية تنقيح المقابلات اقتطاع الأجزاء التي تكرّرت فيها بعض الأسئلة وأجوبتها. إلاّ أننا تركنا عن عمدٍ بعض الحقائق والنقاط التي تكرّرت أحياناً، وذلك بقصد تأكيدها.
وقد كتب لي تشومسكي خلال فترة التحرير والتنقيح قائلاً:
((لقد انْتُزِعت هذه الحقائق من التاريخ، وعلى المرء بشكل خاص أن يصرخ بها ويعلنها على رؤوس الأشهاد)).
غريغ روجيرو (مدينة نيويورك)
مقدمة
لقد تمّت بشكل موسَّع مناقشة الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر (أيلول)، لأنها غيّرت العالم بأسلوب دراماتيكي، ولأنّه لاشيء سيبقى على حاله، فيما العالم يدخل في (عصر الإرهاب)؛ وهذا العنوان هو عنوان مجموعة مقالات جامعية، قام بإعدادها طلاب جامعة ييل وآخرون، وهي تهتم بالهجمات الإرهابية بالجمرة الخبيثة (the anthrax)، إذ إنها هجمات تنذر بالسوء أكثر من ذلك بكثير.
مما لاشكّ فيه أن فظاعات 11 سبتمبر (أيلول) شكّلت حدثاً ذا أهمية تاريخية؛ ويؤسف لذلك ليس بسبب حجم هذه الفظاعات، وإنما بسبب اختيار ضحاياها من بين الأبرياء. لفترةٍ من الزمن، كان من المسلَّم به أن القوى الصناعية قد تفقد احتكارها المفترض للعنف، محافِظةً فقط على رجحان سيطرتها العظيم. ولم يستطع أحد على الإطلاق التخمين مسبقاً بالطريقة الخاصة التي ستتمّ فيها التوقّعات، ولكنّها أُنجزتْ بها. وللمرّة الأولى في التاريخ الحديث، كانت أوربة ومَنْ تفرّع عنها، هدفاً، في عقر دارهم، لهذا النوع من الفظاعات التي كانوا ينفّذونها بشكل مكرور معتاد، في أماكن أخرى.
لابدّ أن التاريخ معروف ومألوف لدرجة من الصعب عليه إجراء المراجعة، وبالرغم من أن الغرب ربما اختار ازدراء التاريخ، إلاّ أن الضحايا لايفعلون ذلك. فالانقطاع الحَدَثي الحادّ في النمط التقليدي السائد على الساحة، يصف يوم 11 سبتمبر بالتأكيد بأنه حدث تاريخي، والنتائج ستكون بالتأكيد ذات مغزى هام.
لقد ألقيت عدة أسئلة بارزة بشكل قاطع في الحال:
1- من هو المسؤول؟
2- ماهي الأسباب؟
3- ماهي ردّة الفعل الملائمة؟
4- ماهي النتائج على المدى الأبعد؟
بخصوص السؤال الأول، فبشكل معقول ظاهرياً، يبدو أن الجماعات المذنبة كانت متمثِّلة ببن لادن وشبكته المدعوة بالقاعدة. فلا أحد يعرف عن هؤلاء الناس أكثر من الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، التي قامت بالتعاون مع مثيلاتها من بين حلفاء الولايات المتحدة، بتجنيد الإسلاميين الراديكاليين من مختلف البلدان ونظّمتهم ضمن قوات عسكرية وإرهابية؛ ليس لمساعدة الأفغان في مقاومة العدوان الروسي، وهذا من الممكن أن يكون هدفاً شرعياً، ولكن من أجل أسباب طبيعية لدى الدولة، أدّت إلى نتائج مخيفة على الأفغان بعد أن سيطر المجاهدون على الأوضاع. من المؤكّد أن الاستخبارات الأمريكية تتبّعت المآثر الأخرى لهذه الشبكات عن قرب، منذ عملية اغتيال الرئيس المصري أنور السادات قبل عشرين عاماً مضت، وبشكل مبالَغ به أكثر، منذ محاولة تفجير مركز التجارة العالمي وأهداف كثيرة أخرى في عملية إرهابية طموحٍ جداً في العام 1993. ومع ذلك، وبالرغم من أن التحقيق ينبغي أن يكون أكثر عمليات التحقيق الاستخباراتي الدولي كثافةً في التاريخ، فقد كان من الصعب إيجاد دليل إثبات فيما يتعلّق بمرتكبي جريمة 11 سبتمبر (أيلول). وبعد ثمانية أشهر من التفجير، استطاع مدير مكتب التحقيق الفيديرالي (FBI) روبيرت مولر أن يشهد أمام الكونغرس، أن الاستخبارات الأمريكية الآن (تعتقد) أن المكيدة قد دُبِّرَتْ في أفغانستان، مع أنه تمّ التخطيط لها وإنجازها في مكان آخر. وبعد فترة طويلة من تحديد مصدر الهجوم المنفَّذ بالجمرة الخبيثة، والذي تمّ في المخابر الحكومية للأسلحة في الولايات المتحدة، فإنه مع ذلك لم تُعْرَف بالتحديد ماهيته.
إنها الدلائل على مدى صعوبة مجابهة الأعمال الإرهابية التي تستهدف الأغنياء والأقوياء في المستقبل.
ومع ذلك، وبالرغم من هزالة دليل الإثبات، فإن الاستنتاج الأولي، فيما يتعلّق بأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، من المحتمل أن يكون صحيحاً.
وبالالتفات إلى السؤال الثاني، فالدراسات مُجْمِعة نظرياً على أخذ كلمات الإرهابيين بحذافيرها، إذ إنها تطابقت مع أفعَالهم خلال السنوات العشرين الماضية: فهدفهم، حسب مصطلحاتهم التي يستخدمونها، هو طردُ الكفّار من أراضي المسلمين، وقَلْبُ الأنظمة الفاسدة التي فرضوها ومازالوا يدعمونها، والتأسيس للوجه المتطرِّف للإسلام.
والأمر الأهمّ من ذلك والأخطر، على الأقل بالنسبة إلى أولئك الذين يأملون بالحدّ من حدوث المزيد من الجرائم المحتمَلة وذات الطبيعة المشابهة لما حدث، هي الشروط التي تتحكّم بالخلفيّة التي تنشأ من خلالها المنظمات الإرهابية، والتي تمدّها بخزّان كبير من التفهّم المتعاطف على الأقلّ مع أجزاء من رسالتها، ويحصل ذلك حتى بين أولئك الذين يحتقرون تلك المنظمات ويخافونها.
في كلمات جورج بوش الشجيّة، والتي تساءل فيها ((لماذا يكرهوننا؟))، نجد أن السؤال ليس جديداً، وليس من الصعب إيجاد الأجوبة له. فمنذ خمسة وأربعين عاماً مضت، ناقش الرئيس أيزنهاور مع معاونيه ماأسماها (حملة الكراهية الموجَّهة ضدّنا) في العالم العربي، وهي (ليست نابعة من الحكومات ولكن من الشعب). لقد أشار مجلس الأمن القومي، ناصحاً، إلى أنّ السبب الرئيسي هو الاعتراف بأنّ الولايات المتحدة تدعم الحكومات الفاسدة والفظّة التي تقف حائلاً في وجه الديمقراطية والتقدّم؛ وتقوم الولايات المتحدة بذلك بسببب قلقها المتلخِّص (في حماية مصالحها المتمثِّلة بالسيطرة على النفط في الشرق الأدنى).
وحين قامت جريدة وول ستريت بالتحرّي عن مواقف المسلمين الغربيين الأغنياء بعد 11 سبتمبر، وجدت أكثر من ذلك، فشعورهم الآن أكثر إيغاراً على سياسات الولايات المتحدة الخاصة والواضحة فيما يتعلق بالحالة الإسرائيلية-الفلسطينية وأيضاً بالعراق.
يفضّل المعلِّقون بشكل عام جواباً أكثر ملاءَمةً لهم، ألا وهو حنق [المتطرِّفين] المتجذِّر بالحقد على حرّيتنا وحبّ الديمقراطية لدينا، وإخفاقات ثقافتهم التي تعود إلى العديد من القرون، وعدم مقدرتهم على المشاركة بشكلِ (العولمة)، (مع أنهم يساهمون فيها بسرور)، وكذلك اختلافات أخرى من هذا النوع. قد يكون هذا الجواب أكثر ملاءَمةً، ولكنه ليس أكثر فطنةً وحكمةً.
وماذا بشأن ردّة الفعل الملائمة، والسؤال الثالث؟
تسبِّب الأجوبة النزاع بلا ريب، ولكنْ على الأقل، يجب على ردّة الفعل أن تلتقي بأكثر المقاييس أوليةً وأخلاقيةً: فبشكل خاص، لو أنّ عملاً ما صحيح ومناسب لنا، فهو مناسب للآخرين أيضاً؛ ولو أنه يسبِّب ضرراً للآخرين، فهو يسبِّب الضرر لنا أيضاً. فهؤلاء الذين يرفضون هذا المقياس يصرِّحون ببساطة بأن القوّة تبرِّر هذه الأفعال؛ إضافة إلى ذلك، يمكن تجاهلهم في أي مناقشة تدور حول ملاءَمة العمل، إن كان صحيحاً أو يسبِّب الضرر. يمكن للمرء أن يتساءل عماذا يتبقّى من سيل التعليقات على السؤال الثالث (كالمناظرات حول (الحرب المشروعة)، إلخ...) فيما لو تمّ تبنّي هذا المعيار.
ولتوضيح الأمر باستعراض بعض الحالات التي لاتقبل الجدال، نذكر بأنه قد مرَّت أربعون سنة على إصدار الرئيس كنيدي أمره القائل بأن (الإرهاب على الأرض) يجب أن ينصبَّ على كوبا حتى تتخلّص من زعمائها، الذين انتهكوا النموذج الجيد بنجاح مقاومتهم لغزو الولايات المتحدة الدائر. كانت الأعمال الإرهابية خطيرة جداً، واستمرت أيضاً خلال التسعينيات.
ومضتْ عشرون سنة على إطلاق الرئيس ريغان حربه الإرهابية ضد نيكاراغوا، التي أُديرت بصبّ فظاعات بربرية وتهديم واسع على البلاد، فخلَّفت عشرات الآلاف من القتلى، وتركت البلاد مدمَّرة بحيث إنه قد يستحيل بناؤها فيما بعد؛ كما أنها أدّت إلى إدانة الولايات المتحدة بجريمة الإرهاب الدولي من المحكمة الدولية ومن مجلس الأمن في الأمم المتحدة (وذلك بإصدار قرار دولي، قابلته الولايات المتحدة بحق النقض الفيتو). ولكن لا أَحد يعتقد بأن كوبا أو نيكاراغوا لها الحق بقصف واشنطن أو نيويورك بالقنابل أو باغتيال الزعماء السياسيين في الولايات المتحدة.
ومن السهل جداً إضافة الكثير من الحالات الأقسى بكثير، حتى في هذا الزمن الحاضر.
بناءً على ذلك، فإنّ أولئك الذين يقبلون المقاييس الأولية والأخلاقية، عليهم أن يبذلوا جهوداً حثيثة كي يُظْهروا أنّ الولايات المتحدة وبريطانية كانت لديهما المبرّرات لقصف الأفغان، من أجل إجبارهم على تحويل الشعب عن موقفه، وهو الذي تشتبه به الولايات المتحدة، بأنه مرتكب الفظاعات الإجرامية، وهذا هو الهدف الرسمي للحرب الذي أعلنه الرئيس حين بدأ القصف؛ أو من أجل قَلْبِ حكّامهم وإسقاطهم، وهذا هو هدف الحرب المعلَن بعد مضي أسابيع عدّة على الحرب.
يمكن للمقياس الأخلاقي ذاته أن يُطبَّق على اقتراحات أقلّ وضوحاً، فيما يتعلّق بالردّ المناسب على الفظاعات الإرهابية. إذ يقترح المؤرِّخ العسكري المرموق، ميكائيل هوارد، وهو إنكليزي-أمريكي، مايلي:
((تنظيم عملية بوليسية تحت إشراف الأمم المتحدة... ضد المؤامرة الإجرامية، إذ يجب ملاحقة أعضائها وإلقاء القبض عليهم وتقديمهم إلى المحكمة الدولية، حيث سيلقون محاكمة عادلة، وإذا وُجِدوا مذنبين، فإنهم سيُجازَوْن بالحكم المناسب)) (الغارديان، الشؤون الخارجية). يبدو هذا معقولاً، بالرغم من أننا قد نتساءل عن ردّة الفعل التي قد تحدث على الاقتراح إذا ما طُبِّق بشكل عالمي. فهذا لايمكن التفكير فيه، وفيما لو تمّ العمل بهذا الاقتراح، فإنه سيثير غضباً عظيماً وفزعاً مخيفاً.
وتلقى أسئلة مشابهة فيما يخصّ (نظرية بوش) عن (الضربة الوقائية) ضد التهديدات المشتبه بحدوثها.
والجدير بالملاحظة أن هذه النظرية ليست جديدة. فالمخطِّطون ذوو المقام العالي هم في معظمهم ينحدرون من إدارة ريغان، وفي محاوراتهم يقولون بأن قصف ليبية كان مبرَّراً بالاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة، حيث يُعتَبَر (دفاعاً عن النفس ضد هجوم مستقبلي). وكذلك نصح مخططو إدارة كلينتون بإجراء (ردّ فعل وقائي)، (بما في ذلك استخدام الضربة الأولى النووية). وهذه النظرية لها سوابق مبكِّرة. ومع ذلك، فإن التصريح الجريء بمثل هذا الحق وتأكيده، هو أمرٌ جديد، ومعروف تماماً ضد مَنْ سيتوجّه التهديد، وهذا ليس سرّاً خافياً على أحد. وتؤكد الحكومة وكذلك المعلِّقون بصوت جهوري وبوضوح، أنهم ينوون تطبيق هذه النظرية على العراق. إذن، يبدو أن المقياس الأوليّ للشمولية يبرِّر ضربة إرهابية وقائية عراقية ضد الولايات المتحدة. ولكن، لاأحد يقبل بالطبع هذا الاستنتاج. ومرّة أخرى، فيما لو شئنا تبنّي المبادئ الأولية الأخلاقية، فهناك أسئلة واضحة ستُلْقَى، ويجب أن يواجهها أولئك الذين يدافعون ويتسامحون تجاه النسخة الانتقائية (للرد الوقائي)، الذي يضمن الحق في تطبيقه لِمَنْ يملكون القوة الكافية التي تخوّلهم استخدامه، دون أدنى اهتمام لما سيكون عليه رأي العالم أجمع بذلك. وعبء البرهان على هذا ثقيل جداً، كما أنه واضحٌ دائماً حين يكون التهديد أو استخدام العنف مدافَعاً عنه ومسموحاً به.
هناك بالطبع ردّ مضاد على مثل هذه الحجج البسيطة: من المؤكد أننا خيِّرون، وبالطبع هم الأشرار. يُبْطِل هذا المبدأ المفيد نظرياً مفعول أي حجّة. وتكشف دراسة التعليق وكذلك الكثير من الدراسات أن جذور ذلك تكمن عادةً وراء هذا المبدأ الهام والقاطع، الذي لايقبل النقاش بل هو مؤكَّد أحياناً، ولكنْ نادراً ماتحاول بعض الكائنات، التي تثير الغضب، مواجهة لبّ المبدأ، بما سُجِّل من التاريخ الحديث والمعاصر.
ونستطيع أن نتعلّم أكثر فيما يتعلّق بالمعايير الثقافية السائدة حين نلاحظ بدقة ردّ الفعل، ومجموعة الحواجز الهامة التي تبرز لتقوم بردع زلّة السقوط في الهرطقة.
ولم تخترع مراكز القوى المعاصرة والثقافة الفكرية المسيطرة، أي شيء من هذا. ومع ذلك، فإن ذلك يستحق الانتباه على الأقل من أولئك الذين يهتمون بتفهُّم موضع قدمنا وماهية مايكمن مستقبلاً.
لنبحث الآن باختصار الاعتبارات الأخيرة، أي السؤال الرابع.
على المدى البعيد، أعتقد أن جرائم 11 سبتمبر سوف تُسرِّع من الميول التي سبق أن وُجِدَت فعلاً: كنظرية بوش الآنفة الذكر، والتي تمثِّل مثالاً توضيحياً لذلك.
وكما تمّ التنبؤ على الفور، فقد استغلّت الحكومات في أنحاء العالم أحداث 11 سبتمبر، واعتبرتها فرصة سانحة لوضع برامج قمعية وقاسية وللتسريع في تنفيذها. فلقد انضمت روسية بحماسة بالغة إلى (التحالف ضد الإرهاب)، وهي تتوقّع أن تحظى بالإذن اللازم لتنفيذ فظاعاتها الشنيعة في الشيشان، ولم يخبْ ظنّها في ذلك. وكذلك فعلت الصين بانضمامها إلى هذا التحالف بسرور بالغ لأسباب مشابهة. أما تركية، فكانت أول بلد يقدّم قواته العسكرية من أجل خدمة المرحلة الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة في (الحرب على الإرهاب)، عرفاناً منها بجميل الولايات المتحدة عليها، كما وضّح رئيس الوزراء التركي؛ فأمريكة ساهمت بالحملة التركية على السكان الأكراد الذين قُمِعوا بوحشية، وتمّ تنفيذ هذه الحملة بوحشية فظيعة، حيث اعتمدتْ تركية بشكل أساسي وقاطع على تدفق الأسلحة الأمريكية عليها بشكل كبير. وقد امتُدِحَت تركية كثيراً بسبب إنجازاتها في هذه الحملات من إرهاب الدولة، بما في ذلك أسوأ الفظاعات البشعة التي نُفِّذتْ في التسعينيات؛ ثم كوفِئت بمنحها السلطة لحماية كابول من الإرهاب، وقامت بتمويلها القوة العظمى ذاتها التي منحتها الوسائل العسكرية اللازمة، كما منحتها تأييدها الدبلوماسي والإيديولوجي مقابل ارتكابها لفظاعاتها الأخيرة. وتعترف إسرائيل بأنها تستطيع أن تسحق الفلسطينيين بشكل أكثر وحشيةً أيضاً، وبدعم أكثر ثباتاً كذلك من الولايات المتحدة. وهكذا دواليك، تتكرّر المسألة ذاتها في معظم أرجاء العالم.
إن المجتمعات الأكثر ديمقراطيةً، بما في ذلك الولايات المتحدة، قد اتخذت إجراءات لفرض النظام على الأهالي، ولوضع إجراءات غير مقبولة بحجة (محاربة الإرهاب)، مستغِلَّةً جوّ الخوف ورفع شعار الوطنية؛ وهذا يعني عملياً القول: (اخرسوا وسأتابع برنامجي الخاص بلا هوادة). وقد استغلّت إدارة بوش الفرصة لدفع هجومها قدماً ضد معظم السكان، والأجيال القادمة، لخدمة المصالح المتضامنة الضيّقة التي تسيطر على الإدارة، إلى حدٍّ تتجاوز فيه كل معيار سائد.
باختصار، لقد تأكدت التنبؤات التي بدأنا بها، بشكل واسع.
أهم موضوع خرجت به الولايات المتحدة كحصيلة لها، ولأول مرة، هو حصولها على معظم القواعد العسكرية في آسية الوسطى. وهي مهمة لتوضّع الشركات المتعددة الجنسيات التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، وبشكل يلائمها تماماً في (اللعبة الكبيرة) الجارية الآن، بهدف السيطرة على الموارد الهائلة للمنطقة، وأيضاً بهدف استكمال الإحاطة بأهم موارد الطاقة في العالم، والموجودة في منطقة الخليج. فنظام القواعد الأمريكية الذي يستهدف منطقة الخليج، يمتد من المحيط الهادئ إلى الجزر الخالدات [في شمال المحيط الأطلسي]، إلاّ أن أقرب قاعدة معتمدة قبل الحرب على أفغانستان كانت قاعدة دييغو غارثيا. أما الآن فقد تحسّنت هذه الأوضاع؛ وإذا فرضنا أن التدخل العسكري سيكون مناسباً، فإن ذلك سيكون أكثر سهولة بكثير من ذي قبل.
ترى إدارة بوش المرحلة الجديدة من (الحرب على الإرهاب)، (والتي تتناغم بطرق عديدة مع (الحرب على الإرهاب) التي أعلنتها إدارة ريغان منذ عشرين عاماً مضت)، فتعتبرها فرصة لتوسيع ميزاتها العسكرية الشاملة والمسيطرة بشكل فعلي على بقية أنحاء العالم، وللمضي في نهجها الآخر لتأمين سيطرتها الشاملة. وقد تمّ التعبير بوضوح عمّا يدور في ذهن الحكومة، على لسان رسميين رفيعي المقام، وذلك حين زار أمير العربية السعودية عبد الله آل سعود الولايات المتحدة، في شهر نيسان، لحثّ الإدارة على الاهتمام أكثر بردّ فعل العالم العربي على الدعم القوي الذي تقدمه أمريكة للإرهاب والقمع الإسرائيليَّيْن.
ولقد أُجيب في الواقع، بأن الولايات المتحدة لاتهتم بما يفكّر به هو أو العرب الآخرون.
وكما أوردت النيويورك تايمز، فقد أوضح مسؤول رسمي رفيع المستوى ((أنه كان يظنّ أننا كنّا أقوياء في عاصفة الصحراء، فنحن اليوم أقوى بعشر مرات. وكان هذا لإعطائه فكرة فقط عمّا برهنت عليه أفغانستان فيما يتعلق بقدراتنا)). وقد علّق أحد المحلّلين العسكريين السابقين قائلاً: ((سيحترمنا الآخرون من أجل قسوتنا، ولن يتحرّشوا بنا)). ولهذا الموقف أيضاً سوابق تاريخية كثيرة، ولكن في عالم مابعد 11 سبتمبر، كسب هذا الموقف قوة جديدة.
ليس لدينا وثائق داخلية، ولكن من المعقول أن نتصوّر أن مثل هذه النتائج كانت من أوائل أهداف ضرب أفغانستان: أي لتحذير العالم مما تستطيع الولايات المتحدة فعله، فيما لو خرج أحدهم عن خط السير المقرَّر له. وقد تمّ التكفُّل بقصف صربيا لأسباب مشابهة لذلك. فهدفه الأول كان (تأكيد مصداقية الناتو)، وقد شرح بلير وكلينتون ذلك مُوَضِّحَيْن، أنه ليس المقصود هنا مصداقية النرويج أو إيطالية، ولكنْ مصداقية الولايات المتحدة وأهم شركائها العسكريين.
إنه موضوع معروف في عمل الدولة والحكم وفي أدبيات العلاقات الدولية؛ وكما يوضح التاريخ بشكل جليّ وواسع، وذلك لبعض الأسباب الحاصلة.
ودون الاستمرار في ذلك، تبدو لي المسائل الأساسية في المجتمع الدولي باقية كما كانت، إلاّ أن 11 سبتمبر أدخل بالتأكيد التعديلات على بعض الحالات، هذه التعديلات مصحوبة بنتائج ذات مغزى ولكنها ليست جذابة إطلاقاً.