مقدمة:لم أكن أتوقع يوما أن تأتي الفرصة للقاء أحد المفكرين الذين كان لهم أثر كبير في تقويم وترشيد الأطروحة الفكرية والسياسية للحركة الإسلامية بالمغرب، ففي سياق مراجعتها لخطها الثوري، استعانت الحركة الإسلامية بكتابات مالك بن نبي، ثم تعرفت على كتابات جودت سعيد، الذي كان يقيم حلقات فكرية بسورية، يشرح فيها فكر مالك بن نبي، ويبني بعض مفردات ما صار يسمى لاحقا في أدبيات الحركات الإسلامية بـ"الخيار الحضاري".
زار المفكر السوري مدينة طنجة قبل عشرين سنة تقريبا، وتم التداعي لحلقة فكرية، دعي لها عدد من المفكرين والمثقفين بالمدينة، ومدن أخرى في الشمال المغربي. وكانت المناسبة، لمناقشة أفكار الرجل، التي بذلت الحركة الإسلامية المغربية جهدا كبيرا في نشرها وتوسيع نطاق تأثيرها، فكتب الرجل الستة، كان تباع مجتمعة، وقد أخذ الكتاب الأول: "حتى يغيروا ما بأنفسهم" منها شهرة منقطعة النظير، وذلك إلى جانب كتابه الثاني "الإنسان حينما يكون كلا وعدلا"، الذي تمحور حول الفعالية التي طالما نبه إلى أهميتها الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي.
في ذلك اللقاء، طرحت على جودت سعيد رحمه الله ثلاث أسئلة أساسية، شغلت شابا قرأ مشروعه الفكري كاملا، ووجد به ما يظن وقتها، أنها فراغات تحتاج للاستدراك أو الاستئناف. تمحور السؤال الأول حول علاقة فكر جودت سعيد بفكر مالك بن نبي، وأتذكر أنني كنت قاسيا في نقدي حينما لاحظت على كتاباته إضعافا لفكر مالك نبي، وميلا في كثير من الأحيان، إلى الاعتذار للقارئ إن لم يكن قد أوصل الفكرة بالوضوح اللازم، وتمنيه لو أن أحدا جاء بعده، وقام بدلا عنه بهذا الدور.
أما السؤال الثاني، فتوجه إلى عطب الرؤية السياسية في فكر جودت سعيد، فقد اهتم بتقويم الأفكار، وبناء الفعالية، وتوجيه اللوم إلى الإنسان، وترسيخ الفكر السنني، لكن هذا الفكر الجديد، لم يستطع أن يصوغ رؤية في السياسة تركب ما بلوره مفاهيم، وتصوغها في خط سياسي منسجم.
في حين كان السؤال الثالث، حول نظرته للعنف، وكيف مد نظرية ابن آدم إلى قضايا سياسية يلتبس بها حق المقاومة مع العنف.
تواضع الرجل، دفعه للإقرار بأنه لأول مرة يتوجه إليه نقد مس مشروعه في المفصل، من شاب لم يكن يتصور أنه قد قرأ مشروعه الفكري بكل تفاصيله.
مضت عشرون سنة على هذا اللقاء الممتع، ولم تتغير قناعاتي النقدية من هذا المشروع الفكري الذي نجح نجاحات كبيرة في تثبيت قضايا ساعدت الحركات الإسلامية في تصويب نظرها وتقويم نهجها الفكري وكسبها السياسي، لكنه في المقابل، لم يبلغ المأمول منه، وهو الذي اضطلع بمهمة شرح فكر مالك بن نبي، وانتهى إلى إثارة كثير من الالتباس والغموض عليه، حتى بات متن مالك بن نبي أقوى حجة من شرحه.
ومع ذلك، فلا بد من وضع هذا المشروع الفكري في الميزان، ولا بد من تعييره، والنظر في مكاسبه وإضافاته النوعية، وآثاره العملية، فقد انتقل الرجل إلى عفو الله، وترك رصيدا فكريا غنيا، احتل مساحته، في الفكر الإسلامي، بل ساهم في صنع التراكم الفكري والحركي لعدة مدارس حركية الإسلامية.
النسق الفكري لجودت سعيد
كثيرون من إذا سألتهم عن المشروع الفكري لجودت سعيد، تختلط عندهم أفكاره المودعة في كتبه، فلا يستطيعون تلمس نسقه في التكفير، والمفردات الأساسية التي يقوم عليها هذا المشروع.
والواقع، أن فهم هذه المفردات لا يتيسر بدون استحضار نسق الأفكار السائدة التي كان ينتقدها جودت سعيد رحمه الله، تلك الأفكار التي تبرر استحالة التغيير أو تعثره، وترمي باللائمة على الاستعمار، أو القوى الأجنبية، أو استبداد النظم السياسية، وتعفي الذات من المسؤولية.
وقد ورث جودت سعيد رحمه الله من أستاذه مالك بن نبي قناعة مركزية صاغت كل فكره، وهي أن جوهر الحضارة، يتمثل في الفعل الإنساني، وأن مشكلة التخلف تكمن في الإنسان، وأن نقطة الانطلاق في التغيير تبدأ بتغيير الأنفس.
وهكذا يقوم النسق الفكري لجودت سعيد على ثلاث مفردات أساسية، أولها، السننية، فكما للعالم سنن تحكمه، وكما أن عمارة الأرض تتطلب فهم هذه السنن، وحسن توظيفها، فكذلك التغيير، يخضع أيضا لسنن، وأنه يستحيل إحداث التقدم دون الوعي بهذه السنن، وتوجيه الإنسان وفقها، حتى يحقق التغيير المطلوب. وثانيها، أن الفاعل الأقوى في التغيير هو الإنسان، وأنه ليسن هناك عوامل حتمية متحكمة في التغيير تلغي الفعل الإنساني، بل إن جوهر الحضارة يتخلص في الفعل الإنساني، وقدرته على تطويع مختلف العوامل التي قد ينظر إليها على أنها حتميات قاهرة. وأما الثالثة (الفعالية)، فهي تركيب للمفردتين السابقتين، فالإيمان بمحورية الإنسان في التغيير، لا يحل المشكلة، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك تحويل هذا الإيمان إلى توجيه للإنسان ولفعاليته، حتى يحسن فهم سسن التغيير وتوظيفها، ليحقق التغيير.
يعيد جودت سعيد أطروحة أستاذه مالك بن نبي في هذا الصدد، فأن يكون الإنسان على حق، وأن تكون أفكاره معيارية تعكس هذا الحق، لا يعني بالضرورة، أن وضع هذا الإنسان في الحضارة سيكون متقدما، بل الأمر لا يرتبط بفكرة الحق أو الأصالة على حد تعبير مالك بن نبي، وإنما يرتبط بفعالية هذا المبدأ الحق، وفعالية الإنسان في تحويله من مجرد حق، إلى واقع حي، يكتسب صفة الإغراء والجدب للمجتمع.
يلفت جودت سعيد بهذا الفهم الانتباه إلى ما تمتع به الأمة الإسلامية من مرجعية خالدة، وقيم معيارية تمثل المبدأ الحق، لكنها لا تحتل المرتبة اللائقة في منحنى الحضارة. والتفسير عنده، أن المشكلة ليست في هذه المرجعية (الحق)، ولا في القيم الخالدة التي تحملها، وإنما في فعالية الإنسان وعجزه عن أن يتمثلها، ويجعلها منطلقا لتغيير ما بالنفس والمجتمع، لتضع الأمة في سلم الارتقاء الحضاري.
على أن هذه الفعالية لا تعني في نظر جودت سعيد البعد الحركي فقط، أي القدرة على تحويل الأفكار إلى أفعال حية، ولكنها تعني أيضا، أن تجري هذه الحركية وفق منظور سنني، ينطلق من فهم صحيح لقوانين المجتمع وسنن التغيير.
فاللافعالية بهذا المعنى عند جودت سعيد، تعم كل أجزاء الحياة بحيث يصير الإنسان في حالة (أينما توجهِّه لا يأت بخير)، في حين يكون من ثمرات الفعالية، أن الإنسان الفعال، أينما توجهه يأت بخير ويأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
في الفاعلية الإنسانية
يحرص جودت سعيد أن يجعل من الآية الكريمة " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11) قاعدته الأساسية في التفكير، لفهم مشاكل العالم الإسلامي أولا، وتشخيص الأسباب التي أدت إلى احتلال الأمة الإسلامية موقعا متدنيا في سلم الحضارة ثانيا، ثم محاولة التماس طريق الخلاص من هذه الوضع، وتحديد وجهة التغيير الممكنة.
تتخلص فكرة جودت سعيد الرئيسة، في كون التغيير ممكن. لكن شرطه الجوهري هو الوعي بسنن الله في النفس والمجتمع، والقدرة على استثمار هذه السنن، وتوجيه الإنسان في طريق النهوض.
بالنسبة إلى جودت سعيد، هناك تغييران، الأول، يتعلق بالنفوس، وهي وظيفة البشر. في حين، أما الثاني (تغيير ما بالأقوام)، فيختص الله عز وجل به، وذلك وفق سنته التي تجعل ذلك مرتبطا بتغيير ما بالنفوس.
يركز جودت سعيد في رؤيته للتغيير على المشاكل التي تعاني منها الأمة، إنما حصلت وفقا لسنن الله، وأن الإجابة عن هذه المشاكل، والخروج من هذا الوضع، يقتضي الفهم الدقيق للسنن التي تحكمها، ومحاولة استثمارها والسيطرة عليها، وأن أي غموض في تفسيرها أو جهل بها، أو فهمهما على غير ما هي عليه، سينتج عنه تأبيد هذا الوضع، واستمرار هذه المشكلات، ومن ثمة، استمرار تخلف الأمة وتدهورها.
يعتبر جودت سعيد أن قصص السابقين، هي دروس للعبرة التاريخية، وأن الدرس الجوهري فيها، هو فهم السنن التي أدت إلى عقابهم، وعدم تكرار الأخطاء التي اقترفوها، فتسببت فيما حصل لهم من عقاب ولعنة
يلح جودت سعيد في معادلة التغيير على أسبقية تغيير ما بالنفس، وينطلق من الآية الكريمة السابقة، ليثبت الرؤية القرآنية التي تؤكد على محورية الإنسان في صناعة الأحداث وصياغة الحضارة، ويعتبر أن مشمولات تغيير ما بالنفس، تتسع لتشمل تغيير الأفكار والقناعات ودفع الأوهام والظنون، وتصحيح المعتقدات الخاطئة، وتعرف الإنسان على الوسائل المفضية إلى التقدم، وحسن استثماره لها، وسيطرته عليها، ووعيه الدقيق بشروط قيام الحضارات، وأسباب سقوطها.
ينضبط جودت سعيد للفهم القرآني، ويعتبر أن ما تعانيه الأمة من وضع متخلف (ما بالقوم) هو نتيجة لما بالأنفس، ويستعين بذكر القرآن لقصص السابقين، وكيف ربط القرآن بين مصير الأمم ومآلهم وبين فعلهم (نقضهم ميثاقهم) ويعتبر أن قصص السابقين، هي دروس للعبرة التاريخية، وأن الدرس الجوهري فيها، هو فهم السنن التي أدت إلى عقابهم، وعدم تكرار الأخطاء التي اقترفوها، فتسببت فيما حصل لهم من عقاب ولعنة.
ويعيد جودت سعيد التأكيد مرة أخرى على ضرورة التمييز بين النظرية وبين التطبيق، أي بين الحق الذي تحمله الأمة، والمنهج الذي تسلكه في تطبيقه، ويعتبر أن هذا التمييز، يكسب المسلمين وعيا تاريخيا مهما، يجعلهم لا يخلطون بين الحق، الذي يتوجب عليهم الاستمرار في حمله وتمثله، وبين التطبيق الذي قد يقع فيه الخطأ ويتنكب عن سواء السبيل، فخطأ المسلمين لا يعني بأي حال أن الخطأ في الإسلام.
وكما يحرص على استقراء قصص الأقوام السابقة، واكتساب الوعي التاريخي الذي يمكن من فهم السنن، وعدم تكرار الأخطاء، فإنه يلقي بنظرة إلى تجارب الأقوام الناجحة، سواء كانت في الماضي أو الحاضر، ويدعو إلى الإفادة منها، وينطلق من حجة مركزية، كون السنن لا تختص بالمسلمين دون غيرهم، بل هي جارية على جميع بني الإنسان، وعلى مختلف المجتمعات، وأن واجب المسلم أن يعيها، ويدرك أهميتها ويوظفها ويسيطر عليها لتحقيق التغيير المنشود.
أثر فكر جودت سعيد على الحركات الإسلامية
يعترف عدد وازن من قيادات الحركة الإسلامية بالدور الذي أحدثه كل من مالك بن نبي وجودت سعيد في مساعدتها في صياغة المراجعات التي دشنتها للقطيعة مع الخيار الثوري ومع العنف، وفي بلورة خيار جديد، اصطلحت عليه بـ"التغيير الحضاري".
وقد كانت النقطة الجوهرية التي استفيدت من مشروع جودت سعيد، هو قلب هرم التغيير، من الرهان على قمته (الحكم) إلى الرهان على أسفله وقاعدته (المجتمع) ومن تضخيم البعد السياسي في التغيير، إلى إعطاء أهمية كبرى للجوانب التربوية والفكرية والثقافية والاجتماعية، واعتبار التغيير في الحكم، ثمرة للتغيير الذي سيحصل في البنية العميقة في المجتمع (النفوس).
على أن هذا ليس هو الجانب الوحيد الذي استفادته الحركات الإسلامية من مشروع جودت سعيد رحمه الله، فقد ترسخ في فكرها أهمية التفكير السنني، كما أصبح النقد الذاتي، والتقييم والمراجعة، فعلا ملازما لخطها الفكري وسلوكها الحركي، فقد كان جودت سعيد أول من لفت الانتباه إلى أن الأفكار الصحيحة والتجارب الصحيحة، لا تكتسب فعاليتها، إلا بفعل النقد الذاتي الذي يأتي عقب الممارسة، وأن دور النقد الذاتي، هو تقويم الأفكار وتصحيح التجارب، وفهم السنن التي تم إصابتها أو تم الخطأ في فهمها أو تطبيقها.
يعترف عدد وازن من قيادات الحركة الإسلامية بالدور الذي أحدثه كل من مالك بن نبي وجودت سعيد في مساعدتها في صياغة المراجعات التي دشنتها للقطيعة مع الخيار الثوري ومع العنف، وفي بلورة خيار جديد، اصطلحت عليه بـ"التغيير الحضاري".
وتأتي ثالثة الأفكار التي كان لجودت سعيد الفضل في ترسيخها في فكر الحركات الإسلامية، هو تبني الخيار السلمي في التغيير، ونبذ العنف، كيفما كانت مبرراته، وتوجيه الحركات الإسلامية إلى عدم اللجوء إلى ردة الفعل، أو الاستدراج إلى العنف، مهما يكن حجم الابتلاء والمحن التي تتعرض لها، وقد توقف طويلا في كتابه "مذهب ابن آدم الأول"، وعالج بدقة شديدة مشكلة العنف في العمل الإسلامي، وعدد أخطاره وتداعياته، وانتصر للمنهج السلمي، مبينا فعاليته وقوته، وانتهى في خلاصاته، أن الظلم مهما كانت أشكاله، لا يبرر اللجوء إلى حل المشكلات بالعنف، وأن الظلم يكسب المظلومين قدرة على إدراك عدالة قضيتهم، وأن تبنيهم للمقاومة المدنية يقوي حجتهم، ويضعف ويعري شرعية الظالمين.
بياضات في مشروع جودت سعيد الفكري
مرت عشرون سنة على اللقاء الذي جمعني بالمفكر السوري جوت سعيد، ولا تزال الأسئلة التي طرحتها عليه، تمثل البياضات المسجلة على مشروعه، فقد نجح بشكل كبير في بناء شبكة من المفاهيم، التي تعلي من دور الإنسان في التغيير، وتعلي أيضا من دور العلم والمعرفة، خصوصا الوعي بالسنن والقوانين التي تحكم المجتمعات، وميز بين المبادئ والممارسات، أو بين المرجعية المعيارية وأشكال تحققها التاريخي، ولفت الانتباه إلى أن العطب في الإنسان، في فكره وكسبه، وأشكال فهمه للواقع، وتمثله لدوره، وأن امتلاك المسلمين للمبدأ الحق، لا يكفي لتحقيق الشهود الحضاري، وإنما المشكلة في فعاليتهم، وقدرتهم على تغيير ما بأنفسهم، وحل مشاكلهم بالمنهج السلمي والابتعاد عن مذهب العنف.
هذه الشبكة المهمة من المفاهيم-كما سبقت الإشارة-كان لها أهميتها ودورها، لكن أثرها لم يتعد المساعدة في إعادة التشخيص، ولفت الانتباه إلى المنطلقات، والتحذير من بعض المزالق الخطيرة. أما الرؤية والنسق، ومنهج العمل، فلم يقدم مشروع جودت سعيد في هذا الصدد شيئا كثيرا، فعلى المستوى السياسي، لم يستطيع جودت سعيد أن يقتحم حقل السياسة، ويصنع من شبكة مفاهيمه، رؤية في السياسة، توضح بوصلة العمل، وشروط الفعل. فما عدا انتصاره للدولة المدنية، وللديمقراطية، وإمكانية توسلها من أجل إنجاز التغيير، بدل اللجوء إلى العنف، فإنه لم يجتهد في قراءة طبيعة البيئات السياسية العربية، والأشكال السلطوية التي آلت إليها، والانسدادات التي تضطر الأنظمة إلى إجرائها لاحتكار السلطة ومواجهة الخصوم السياسيين، وخيارات الفعل السياسي من داخل الأرضية الفكرية التي شكلتها شبكته المفاهيمية.
وإذا كان جودت سعيد يشترك في هذا البياض مع أستاذه مالك بن نبي، فعلى الأقل، فإن المفكر الجزائري، كان يتمنى أن تتبنى دولة ما مشروعه الحضاري، وتعمل على تنزيله، وهذا ما جعله في كثير من الأحيان يكتب عن سياسات قادة سياسيين من الجزائر أو مصر، ويؤمل على مؤتمرات (مثل مؤتمر باندونغ). لكن في حالة جودت سعيد، فإن مشروعه -منذ البدء-توجه إلى الحركات، وليس إلى الدول. دليل ذلك أن أول كتبه، توجه إلى نقد ظاهرة العنف في العمل الإسلامي، وأن أغلب أفكاره، توجهت إلى تصويب الخط الفكري والسياسي للحركات الإسلامية التي تتبنى العمل العسكري أو تتبنى الخيار الثوري.
وتبقى النقطة الثالثة، والمتعلقة بنظرته للعنف، وكيف ذهب به التأصيل لنبذه إلى حد إنكار أهمية المقاومة العسكرية في ساحة النضال الفلسطيني.
ينبغي أن نسجل في هذا الصدد، أن نظرات جودت سعيد للنضال السلمي، أو للجهاد السلمي، استبقت ظهور الحركات العنفية، سواء في موجتها الأولى في مصر، أو في موجتها الثانية مع القاعدة، أو في موجتها الثالثة مع "داعش"، وظل خلال أكثر من نصف قرن، يؤكد على مخاطر الانزلاق إلى العنف، وأن الجهاد الوحيد المقبول في الإسلام، والذي يعطي ثماره، هو جهاد العلم والمعرفة، أو الجهاد بالقرآن على حد تعبيره.
لكن نظرته إلى اللاعنف، ذهبت بعيدا، حينما بلغ بها إلى حد انتقاد المقاومة الفلسطينية على تبنيها لخط حمل السلاح في معركتها ضد العدو الصهيوني.
تفسير ذلك، أنه ربما تبنى رؤية المهاتما غاندي ـ داعية اللاعنف ـ في مقاومة الاحتلال، وآمن بفعاليتها، وقدر أنها تتطابق مع رؤية القرآن في المقاومة المدنية، وأنها تثمر النتائج المرجوة، أكثر مما يأتي به الخيار العسكري غير المتكافئ مع ما يملكه الكيان الصهيوني يمن معدات عسكرية متطورة.
والواقع أن حالة المقاومة في فلسطين، تحتفظ بخصوصيتها، وربما بالغ المفكر السوري في تعميم حديثه عن اللاعنف، فجعل هذه الحالة شبيهة بحالات أخرى تفارقها، من غير وجود ما يبرر هذا الاشتراك، بل بوجود ما يميز بينها، ولعله في ذلك، كما تم تأويل موقفه، متأثر برؤية غاندي، أكثر مما هو مقتنع بوجود رؤية قرآنية حاسمة للموضوع، تضع كل الحالات في خانة واحدة، تفرض عدم اللجوء بالمطلق للخيار العسكري، حتى ولو تعلق الأمر بمواجهة عدو صهيوني محتل، أو بممارسة حق مشروع في المقاومة تقره كل المواثيق الدولية.