قبل عشر سنوات كان الصديق الشاعر الفلسطيني/ الأردني جهاد هديب (1968-2015) يعمل في الصحافة الإماراتية، وشاء أن يجري معي حواراً حول محمود درويش (1941-2008) الذي مرّ أمس عيد ميلاده الـ81 أراده مختلفاً عن مألوف الحوارات التي تتناول الشاعر الكبير، وتغرق غالباً في محاور تقليدية أو متكررة. ولقد استجبت، ليس لأنّ هديب كان شاعراً لافتاً وشخصية محبّبة، بل كذلك لأنّ وعده بأسئلة من طراز مختلف تمّ الوفاء به بالفعل.
وهكذا سألني هديب، أوّلاً، عن مفهوم جماهيرية الشعر، وهل حقق الشاعر العربي نجومية ما في عصره، كالمتنبي مثلاً. وأذكر أنّ إجابتي ابتدأت من أنّ مفهوم «الجماهيرية» غائم الدلالة وعائم البرهان، فضلاً عن أنه مشبع بالتباسات شتى، ولهذا أميل شخصياً إلى ترجيح مفهوم «الذائقة الجَمْعية»، التي يمكن أن تتسيّد حقبة بعينها لأسباب متعددة. طابعها الجماعي هو أنّ سطوتها تنهض على توحيد ذائقات فرعية إذا جاز التعبير، أضيق نطاقاً، ولا تحظى دائماً بمقدار طاغٍ من الإجماع. الأشكال يمكن أن تتكفل بعملية التوحيد تلك، كأنْ تجد جمهوراً عريضاً يتذوّق قصيدة العمود، لكنه يتباين في تثمين نماذجها؛ الموضوعات، كذلك، يمكن أن تطلق ما يشبه تحالفات الذائقة، كأنْ يتحمّس البعض لقصيدة الحبّ، أو القصيدة السياسية.
ويقيني أنّ درويش شغل في الوجدان العربي العريض، وأظنه ما يزال يشغل، موقعاً معقداً يتجاوز صفة الشاعر، لإنه صار صوت فلسطين بوصفها فردوس العرب الضائع، وقيثارة فلسطين التي تداوي حتى حين تجرح، وتُشجي حتى حين تُدمي، وتشحذ قوّة الروح حتى حين تقف على اندحار النفس، وتبدو واضحة حتى حين تَغْمُض، ومتفائلة حتى حين تتشاءم، ورامزة إلى الجماعة حتى حين تصرّح عن الفرد. وعلى أكثر من نحو، كانت علاقة درويش بـ»جماهير» الشعر، على اختلاف شرائحها وحساسياتها، فريدة وربما استثنائية بسبب ذلك الاجتماع المعقد للأسباب الموضوعية والذاتية.
قيثارة فلسطين التي تداوي حتى حين تجرح، وتُشجي حتى حين تُدمي، وتشحذ قوّة الروح حتى حين تقف على اندحار النفس، وتبدو متفائلة حتى حين تتشاءم، ورامزة إلى الجماعة حتى حين تصرّح عن الفرد
كذلك سألني هديب: هل ترى أنّ ظاهرة محمود درويش الشعرية ستستمر؟ بمعنى هل سيتم إدخال تجربة محمود درويش إلى «مطهر» شعري ينقّي التجربة من كل ما هو غير شعري فيها بعد حدوث مسافة زمنية ما، كما هي الحال في الثقافة الغربية مثلا؟ وإذْ أوضحت عجزي عن فهم المقصود بعبارة «ما هو غير شعري»، أشرت إلى أنّ كلّ ما كتبه درويش وعدّه شعراً، هو ببساطة شعر من حيث المبدأ، صادر عن معلّم ماهر متمرّس وفنّان، وبالتالي لا أستوعب أن يُنقّى مما هو «غير شعري»؛ الأمر الذي لا يلغي، البتة، الحقّ في الاتفاق أو الاختلاف حول جودة هذه القصيدة أو تلك. يقيني، هنا أيضاً، أنّ درويش كان المطهر الأوّل لشعره، بل كان المطهِّر الأشدّ صرامة وقسوة وحصافة أيضاً؛ ولهذا فإنّ ما تركه لنا من منجز شعري هائل ينبغي أن يخدم في تشغيل أجهزة نقدية ودراسية جبارة، لا تنكبّ على استكشاف مواطن الإبداع الكثيرة الخافية أو غير المستكشَفة بعد، فحسب؛ بل لأنّ هذه السيرورة تسدي خدمة كبرى للشعر العربي، حاضراً ومستقبلاً، بالنظر إلى أنّ شخصية درويش الشعرية كانت معقدة بدورها، وفريدة بهذا المعنى أيضاً.
وكنت، وأواصل الاعتقاد، أنّ المطهر الثاني لشعر درويش هو «جماهير» قصيدته ذاتها، التي لم يسعدها أن يكون شاعراً أوّلاً، أو شاعراً فقط، أو الشاعرtout court كما يعبّر الفرنسيون. القصائد الجديدة، منذ عقد التسعينيات بخاصة، لاحت في معظم الأحيان صعبة على الذائقة المستقرّة، لأنّ القارئ ظلّ، بدرجة كبيرة، مدمناً على النصّ الدرويشي الذي بين يديه، مؤمناً به، مستمتعاً إلى درجة الخشية من الانتقال إلى سواه. المفارقة أنّ درويش (بوصفه المطهر الأول، من حيث موهبته الرفيعة، وطاقته الهائلة على التجدّد، وذكاء إدراكه لطبيعة دوره في المشهد الشعري العربي، وعناده في تطوير برنامجه الجمالي…)؛ حظي بمساعدة كريمة ومنتظمة من المطهر الثاني (لسبب مدهش هو أن ذلك القارئ كان في الآن ذاته رفيع الاستجابة، متأهبّاً على حذر، لا يتردد طويلاً قبل أن ينخرط في الطور الجديد من مسار درويش الشعري).
وعن ثقافة درويش، شهدتُ بما أعرفه وعاينته عن كثب، من أنه كان قارئاً نهماً ومنهجياً، في حقول قراءة شائكة مثل نظرية الأدب والفلسفة والتصوّف، فضلاً عن التراث النقدي العربي، الأمر الذي تعزّز في العقدَين الأخيرين من حياته حين مال أكثر إلى القراءة بالإنكليزية، واستردّ بعض العبرية. وفي الأعمال الإبداعية كان يقرأ الرواية، العالمية والعربية، أكثر من الشعر في الواقع؛ وعلى نقيض ما شاع، وأُشيع عنه، فإنه ظلّ حريصاً على متابعة النتاج الشعري العربي الجديد، وخاصة قصيدة النثر.
وعن سؤال يخصّ «جدارية»، القصيدة الأطول على امتداد تجربته الشعرية، إذْ وقعت في أكثر من 1000 سطر شعري؛ استذكرت أنه لم يكن مقدّراً لها أن تكون الأخيرة بين قصائده الطوال، إذْ ظلّت تتناهبه الرغبة في إتمام قصيدة طويلة، ملحمية وآسيوية بالمعنى التاريخي والثقافي الأعمق، عابرة للأحقاب، تستقرئ السِيَر الشعبية الكبرى كما دوّنتها وتستحثّ عليها تراثات العرب والمغول والتتار والفرس.
وفي عيد ميلاده نتذكّر كم أكسبتنا قصيدته على مدار أربعة عقود ونيف، وكم خسرنا ونخسر برحيله؛ في غمرة غياب عماده حضور مقيم.
القدس العربي