تخطي إلى المحتوى

الدين والفكر في شراك الاستبداد - جولة في الفكر السياسي للمسلمين

20% خصم 20% خصم
السعر الأصلي $11.00
السعر الأصلي $11.00 - السعر الأصلي $11.00
السعر الأصلي $11.00
السعر الحالي $8.80
$8.80 - $8.80
السعر الحالي $8.80

يدعو إلى النظر في واقع الفقه السياسي عند المسلمين، وتصحيح جوهر الجهود الفقهية بالاستناد إلى المنهج الرباني، والتحقيق في آراء الفلاسفة والمفكرين والسياسيين المسلمين، للوصول إلى جادة الرشد السياسي .

المؤلف
ماجد الغرباوي ترجمة
التصنيف الموضوعي
408 الصفحات
24×17 القياس
2001 سنة الطبع
1-57547-935-4 ISBN
0.65 kg الوزن

الفصل الأول

سيطرة الاستبداد وإعصار الغلبة

كان يعقوب بن ليث الصفار يطمع بالاعتماد على قوة العيارين بدولة مستقلة، فتمرد على أمر الخليفة العباسي، واستولى على خراسان بعد سيستان. وعندما وصل إلى نيسابور سمع من يقول: ((من ليس معه عهد من الخليفة فهو عاص)).

فدعا يعقوب الناس إلى ساحة ووقف في مكان مرتفع وإلى جانبه عدد كبير من الرجال المسلحين، فقال لعبده بعد أن اطمأن في جلسته: ((هات عهد أمير المؤمنين لنعرضه عليهم)).

ذهب العبد ثم عاد ووضع أمام الأمير سيفاً مجرداً من غمده ملفوفاً بخرقة، فشهر الأمير السيف، وقال للناس وهو يهزه في الهواء. ((أمير المؤمنين في بغداد، وهل غير هذا السيف أجلسه هناك؟ وهذا السيف نفسه قد أجلسنا هنا. إذن عهدي وعهد أمير المؤمنين واحد))(1).

هذه القصة تحكي دهاء ابن الصفار، بطل وعيار سيستان، وتفضح في الوقت ذاته صفة وطبيعة السياسة آنذاك، إذ كان يعقوب بن ليث يطمع أن تمتد سلطته من سيستان وخراسان إلىجميع بلاد المسلمين، بعد أن أدرك بذكائه أن السلطة لا تقوم إلا بسيف مدمًى، قد ارتكز إليه منافسوه المستبدون بمن فيهم خليفة بغداد.

وليس الخليفة (المعتمد على اللـه) المعاصر ليعقوب أول من استمد سلطته من قوة السيف، وإنما واصل طريقاً بدأته حكومة الاستبداد والتسلط الأموي قبل مئتي عام.

فبعد الصلح الذي أبرمه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) (آخر خليفة من الخلفاء الذين يصفهم تاريخ الإسلام بالراشدين) مع معاوية بن أبي سفيان، جاء الآخر متظاهراً بالنصر إلى جماعة مجتمعين في المسجد مكفهرة وجوههم خائفين قلقين، وربما متفائلين بعصر أقل فتنة، فدخل المسجد وارتقى المنبر ثم قال: ((أيها الناس إنه لم تتنازع أمة كانت قط من قبلنا في شيء من أمرها بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، إلا هذه الأمة، فإن اللـه تعالى أظهر خيارها على أشرارها، وأظهر أهل الحق على أهل الباطل ليتم لها بذلك ما أسداه من نعمة عليها، فقد استقر الحق قراره، وكنت شرطت لكم شروطاً أردت بذلك إطفاء الثائرة، والآن فقد جمع اللـه لنا كلمتنا وأعز دعوتنا فكل شرط شرطته لكم فهو مردود، وكل وعد وعدته أحداً منكم فهو تحت قدمي))(2)..

لقد بين ابن خلدون بشكل دقيق كيف تتبدل الخلافة أو الحكومة القائمة على سيادة الفضيلة ومصلحة الأمة إلى حكومة قائمة على القوة و (الغلبة)(3).. وتحدث عن تطورات مهمة يرتهن إليها مستقبل الفكر والسياسة طيلة التاريخ الإسلامي برغم أن ابن خلدون يعتقد وفقاً لتحليله وتفسيره للمجتمع (العمران) أن هذا التغير أمر طبيعي(4).. وأعتقد أن عدم أخذ هذه التطورات بنظر الاعتبار يجعل البحث حول مستقبل الأمة الإسلامية وحقيقة السياسة بين المسلمين بحثاً مرتبكاً أو عقيماً.

فعندما أمسك معاوية بناصية الحكم خلال تصديه لولاية الشام ثار بوجه الخليفة الشرعي والشعبي، واستولى على زمام الأمور خلافاً للسيرة المتبعة حتى حينه في كل حكم، فدخلت (أزمة الشرعية) التي بدأت بعد رحلة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم مباشرة مرحلة جديدة، وأخذ يترسخ سوء طالع السياسة في العالم الإسلامي.

فكان أول خلاف بعد وفاة نبي الإسلام العظيم محمد صلى الله عليه وسلم خلافاً سياسياً، ثم صار محوراً أساسياً للخلافات الكلامية على مدى تاريخ المسلمين. غير أن عمل معاوية لا ينسجم مع المعايير المعتبرة لدى جميع الأطراف.

إذ تعتقد الجماعة التي عرفت تاريخياً بالشيعة أن الحكم لا يقوم إلا على يد المعصوم، وهي فضيلة لا يعرفها إلا اللـه، وقد تكفل اللـه ببيانها كغيرها من المعايير الدينية. أما الجماعة الأخرى من المسلمين المعروفة بأهل السنة فإنها تعتقد أن الحكم أمر أنيط بالأمة، وكل من ينتخبه ثقات الناس وعقلاؤهم (أهل الحل والعقد) يصبح حاكماً مشروعاً. لكن ليس كل شخص مؤهل لذلك، والأمة موظفة باختيار من له مواصفات خاصة وقيل: إن أبا بكر كان يتصف بتلك المواصفات بتشخيص أهل الحل والعقد، وقد أمضى المسلمون حكمه. وإذا ثبتت له الشرعية يكون من حقه، كحاكم شرعي، مراعاة لمصلحة الأمة، تعيين الحاكم اللاحق، وحينئذ تسري شرعية المنصِّب إلى المنصَّب. لكن بشكل عام ينبغي توافر الشروط اللازمة لاستمراره. وهذا ما كان يفهمه الناس عن الحكم وعن مسؤوليتهم تجاهه، ويؤكد ذلك ثورتهم على الخليفة الثالث، بعد أن خرج عن الأطر المعتمدة.

وكانت البيعة حتى زمان معاوية تختزن معاني خاصة، وهي تعني اتفاقاً بين طرفين، أي الالتزام بطاعة الحاكم المسؤول عن مراعاة الحدود والواجبات الخاصة. والأمة أيضاً تحتفظ بحقها - فيما إذا تجاوز الحاكم- في تحديد مسؤولية الحكومة. وأما التوسل بالقوة للاستيلاء على السلطة فلم يكن مشروعاً على كل حال.

وإذا تركنا التبريرات الكلامية وتحرينا الموضوعية فإن بعضاً من أهل الرأي السني قد أدانوا عمل معاوية مباشرة بعد استتباب حكمه الذي تم من خلال صلح الإمام الحسن (عليه السلام) وفقاً لاتفاق محكم وشروط صعبة. إذ إن حكم معاوية كان انحرافاً كبيراً وواضحاً عن السيرة القائمة حتى ذلك الحين، وعمله لا يتفق مع أي من الضوابط التي قررها علماء أهل السنة لتحقق شرعية الحكم، وهي ضوابط كانت معتمدة نظرياً إلى عدة قرون لاحقة.

وتعمقت أزمة الشرعية السياسية بعد ما يعرف بعصر (الخلافة الراشدة)، ولم يجد الحكام طريقاً للخلاص من الأزمة سوى الاتكاء أكثر على القوة والسيف وقمع المعارضين وممارسة الإرهاب.

وليس كما يقول المتغطرسون فإن الأزمة قد تعمقت يوماً بعد آخر حتى امتلأ تاريخ المسلمين بأحداث جارفة من المواجهات والتمرد والقمع والقسوة والخوف والقلق.

ورويداً رويداً تجذرت سياسة (الغلبة) بعيد الثورات الدموية المناهضة لمعاوية وقمعه الشديد لها، وانقلب الحكم وراثياً، وحرم الشعب من تقرير مصيره السياسي. وصارت (البيعة)، التي كان لها في عصر الرسول الأكرم حتى تلك الأيام معنى ومفهوم سياسي وقانوني خاص، صارت تعني التزام الأمة من طرف واحد بالطاعة المطلقة لحاكم يرتكز إلى السيف دون أن يفرض على حكومته أي شرط أو حدٍّ.

وحينها سيكون المجتمع، الذي أقصي عن المشاركة في تقرير مصيره بهذه الطريقة، عاجزاً عن عمل شيء سوى ترقب انهيار القوى التي تقوم عليها الحكومة، لتأتي أخرى تحل محلها. وهكذا كان الحكم ينتقل، كملك مطلق للحكّام المتغطرسين، من يد إلى أخرى.

ولم يعرف بنو العباس، الذين استفادوا كثيراً من سخط الناس على الأمويين، غير السيف والقوة، كمن سبقهم، أداة لاستقرار الحكم واستمراره. وقد أدرك يعقوب بن ليث الصفار، الذي تحرك من دون إذن الخليفة وشيد أركان سلطته بالقوة، أدرك جيداً أن الخليفة أيضاً لم يتوافر على أي واحد من الشروط والخصائص التي اشترطها أصحاب الرأي لإثبات الشرعية سوى كونه قرشياً.

وبرغم أن معاوية قد أرسى دعائم حكومة الجور على القسوة في قمع المعارضة وقتله كبار الصحابة أمثال (حجر بن عدي)(5). إلا أن المعارضة والتمرد ضد الحكم الأموي كانا حريقاً لم تنطفئ نيرانه بسهولة، بل صارت النيران بعد موته أشد تمرداً، فواجه خلفاؤه تحديات كثيرة، أهمها (انتفاضة عاشوراء) التي كانت بداية لإعصار عجّل بالملكية الأموية أكثر بكثير مما كان يظن معاوية برغم القساوة في سفك الدماء.

لقد واجهت سياسة الغلبة الأموية منذ بداية استقرارها تيارين معارضين:

أحدهما الانتفاضات الشيعية، والآخر تمرد الخوارج. كما كان القتل والإرهاب اللذان تمارسهما الحكومة يؤججان نار النزاعات لحظة بعد أخرى. واضطرتهم سياسة التمييز التي مارسها الأمويون ضد غير العرب وعودة التعصب العنصري ثانية، بعد أن خبا مع ظهور الإسلام، اضطرتهم إلى مواجهة تحديات جديدة، إذ تحول سخط الشعوب غير العربية، ولا سيما الإيرانية، بشكل تدريجي، إلى رفض سياسة بني أمية العنصرية. ثم إن حركات التمرد التي قادها الشعوبيون والمعارضون السابقون خلقت هي الأخرى مواجهات ونزاعات جديدة. وفي غضون ذلك راكمت الحركة الشيعية تراثاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً كبيراً جداً بعد أن ظلت تياراً ثابتاً وخالداً عبر التاريخ الإسلامي.

بينما كان الخوارج أكثر الفرق خطورة في عهد بني أمية، إذ واجهت الحكومة بسببهم تحديات جمة، إلا أن الخوارج لم يتمكنوا من احتلال مكانة قوية ومتميزة في المجتمع بسبب سطحيتهم وتعصبهم لمبادئ وأسس جافة وعنيفة، حتى إنهم كانوا أقل الفرق تماهياً مع النظريات التي ظهرت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلمبرغم تعددها لضيق أفق عقيدتهم.

ففي نظرهم القاصر أن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل ومعاوية كلهم كفار، وكانوا يعتقدون بوجوب قتل المخالفين، فأحدث أول إعصار من القتل والنهب والعنف ردة فعل نفرت أغلب المسلمين والفرق على اختلافها، وبالتالي انسلخ الجميع عن عقائدهم الضيقة لفظاظتهم وغلظتهم، ولكن عندما انتشر ظلم الدولة وشاع التمييز العنصري بالنسبة إلى غير العرب، وبعد أن أصلح الخوارج منهجهم وأسلوبهم بشكل نسبي انضمت إليهم أعداد كبيرة في الأقاليم البعيدة، كبعض الأقسام الإيرانية وشمال إفريقية. وقد استمرأ المحرومون والمظلومون على مر الزمان بعض شعاراتهم برغم سماجة وعدم منطقية الأسس التي قامت عليها.

إن سياسة التحقير التي مارسها الأمويون تجاه الموالي والمسلمين غير العرب، واحتكار العائلة الأموية ومقربيهم لجل الامتيازات ساهم شيئاً فشيئاً في نفرة الفئات الشعبية، التي يشكل غالبيتها بعد الفتوحات الإسلامية غير العرب، عن الحكومة الأموية. وفي هذه الأجواء وجدت دعوة الخوارج، الرافضة للتمييز القومي والطائفي والداعية إلى العدل والمساواة، أصداء متعاطفة.

إذ يرى الخوارج أن السلطة ناشئة عن الأمة، وهي أمر دنيوي ليس فيها بعد قدسي أو ديني، والحاكم فرد من الأمة، منفذ ومشرف على تطبيق الدين بصورة صحيحة. ولم يشترطوا في الحكم القرشية أو القربى من الرسول صلى الله عليه وسلم، سوى الالتزام بالعدالة، وأن يسلك الحكام مع الشعب سلوكاً عادلاً، وإذا زاغ عن العدل والحق فإن الثورة عليه سوف لا تكون جائزة فقط بل واجبة(6)..

وقد تسبب قمع الأمويين وإرهابهم وقسوتهم الشديدة في ابتعاد الحركات المعارضة للحكومة عن العراق والشام وانتقالها إلى أقاليم بعيدة عن مركز الخلافة، يصعب على الخليفة الوصول إليها. وفي هذه الأقاليم قامت أيضاً ثورات الشعوبيين، الذين أثروا سياسياً واجتماعياً في مستقبل المجتمع الإسلامي.

تأسيساً على ما تقدم، فإن الأمويين، كما ذكـر سابقاً، قد أسسوا دولة قامت على التعصب العربي والعنصري وتحقير الموالي وغير العرب، فأوجدت هذه السياسة في أنحاء واسعة من العالم الإسلامي شعوراً بالاستياء والانتقام منهم(7). إن تبديل مبدأ المساواة الإسلامي وبساطة العيش، التي اتصف بها الخلفاء، بالتعصب العنصري وتأسيس الملكية الأرستقراطية، والاتجاه نحو البذخ والإسراف من بيت المال، الذي كان يمتلئ من الضرائب والخراج، وإرساء دعائم السلطة القومية والطائفية والفردية، وملاحقة فئات المسلمين من قبل أعوان الحكام وإن تسبب في ظلمهم، كل ذلك كان سبباً لظهور الحركة الطائفية (الشعوبية). وهذه الحركة قد تمادت في عقيدتها بالإعلان عن تساوي الأقوام أمام اللـه وفي نظـــر الإسلام، ودعوا إلى مساواة العنصر الإيراني، الذي هو من أبنــاء خسرو وجم مع العنصر العربي الذي يصفونه بأوصاف قبيحة(8)..

وطالما تضامنت الفرق المعادية للسياسة الحاكمة، من المعارضين الكلاميين أو السياسيين أو العنصريين، على الوقوف بوجه الطغيان الحكومي كحد أدنى وحاولوا زعزعة الوضع القائم، بل حتى إسقاطه.

وفي غضون ذلك كان التشيع أكثر التيارات رسوخاً، إذ سجل حضورُه وتحركه آثاراً سياسية وثقافية واجتماعية كبيرة على صعيد التاريخ الإسلامي. إذ برغم أن التشيع كان أقلية، لكن لا يستطيع أي باحث موضوعي أن ينكر الدور الأساسي لهذا التيار في تأسيس ونشر أكثر الدوائر المعرفية والثقافية عبر التاريخ الإسلامي، وبشكل خاص كان دور التشيع في الحفاظ على وهج العقلانية والتفكير الفلسفي كبيراً، وسنشير إلى أسباب ذلك فيما بعد في مناسبات مختلفة.

وكانت أكثر الفرق الشيعية خلوداً، برغم تعددها، هي الفرقة المعروفة تاريخياً بالشيعة الإمامية، وإن كانت الفرق الأخرى، ولاسيما الإسماعيلية، في برهة من التاريخ، كانت أكثر مقاومة من غيرها للنظام السياسي المرتبط بالأكثرية من أهل السنة حتى شكلت له تحديات كثيرة.

وليست إيران، ماضياً وحاضراً، هي الملجأ الوحيد للتشيع وساحة لتواجده ونشاطه، لكن لهذا الكلام ما يبرره، إذ تعد إيران أهم موقع تجذر فيه التشيع، وبشكل خاص منذ تأسيس الملكية الصفوية حتى الآن.

ثم إن القمع الوحشي والحقد الأموي الكبير في مواجهة جميع المعارضين كان سبباً لهجرة الحركات المعارضة للحكومة من العراق إلى الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة، كي لا يطالها الخليفة وعماله إلا بصعوبة، فكانت إيران، وبالأخص خراسان وطبرستان والجبال، من أهم مراكز الثورات المناهضة للأمويين ومن ثم العباسيين. وأصبحت خراسان باعتبارها أبعد نقطة إيرانية عن عاصمة الخلافة، وطبرستان والجبال، بسبب مواقعها الجبلية وطرقاتها الوعرة، أكثر المراكز اطمئناناً بالنسبة إلى الساخطين على الحكم، وقد استقطبت هذه المراكز إليها جميع المعارضين.

وفي تلك الظروف عندما بدأ العباسيون تحركهم على الساحة استغلوا الشعور المعادي للأمويين لدى الناس، ولا سيما الإيرانيين، فبدؤوا دعوتهم بشعار ((الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم))(9)..

ثم انطلقت الدعوة العباسية، التي كانت سرية في بدايتها من خراسان على يد شاب إيراني اسمه (أبو مسلم الخراساني)، مندوب الدعوة وممثل (إبراهيم الإمام) العباسي إلى هناك(10).، وبعد أن تعاظمت الدعوة شيئاً فشيئاً اختار أبو مسلم اللون الأسود، في الملبس والرايات، شعاراً للحركة الجديدة(11).. حتى عرف أنصاره، الذين يشكل الإيرانيون من القرى والنواحي جلهم، بأصحاب اللباس الأسود(12)..

وعندما تسلم العباسيون السلطة ركبوا موجة الشعور المعادي للأمويين والمروانيين، وبدؤوا عملهم بدعوى الدفاع عن (أهل البيت) فمدوا يدهم بذكاء وواقعية لكل فرقة تمد يدها لهم- إذ كانت هناك أياد كثيرة ممدودة لمن يدعو إلى إسقاط الحكم الأموي ويدافع عن أهل البيت- بل حاولوا الاستفادة أيضاً من فئات أخرى مثل (الغلاة) و (الإباحية) و (المزدكية). لكن عندما تسنّم العباسيون السلطة ارتكزوا إلى الاستبداد، وتنكروا من أجل التفرد بالسلطة لتلك الفرق، بل وأوقعوا فيها التشريد والقتل، ولاسيما (آل علي) إذ أوقعوا فيهم القتل بعد أن لاحقوهم في كل مكان(13). . وعندما رست دعائم السلطة بجميع أبعادها في عصر (المنصور) كادوا لأبي مسلم ولفقوا له التهم وأوقعوا به عند الخليفة فقتل، وقطّع بكل وحشية(14). . وهكذا عادت (الغلبة) ثانية بوجه قبيح وقبضة دموية كابوساً يهدد عقول وحياة المسلمين.

وبعد مقتل أبي مسلم اتخذ أنصاره - وكل من رأى فيه ما يبرر مواجهة السلطة الحاكمة- من مقتله سبباً فثاروا مباشرة، وهددوا بجد بعض مواقع الخلافة.

فكانت ثورة السنباد (والظاهر أنه زراتشتي ومن أنصار أبي مسلم)، ومن ثم انتفاضة ابن المقفع التي استمرت 13 سنة، وهي أول من دق ناقوس الخطر، وحذر من خطر طغيان موج الدم الذي سفكه العباسيون على الطريق، وأول من مزّق جدار الخوف الذي كان يلف الخلافة(15). . وفي غضون ذلك أيضاً تحولت ثورة العلويين في طبرستان، التي امتدت 20 عاماً إلى قوة مهيبة لا منازع لها في تلك المناطق، تحولت إلى حدث مهم ينذر العالم الإسلامي بمستقبل غير آمن، إذ كانت هذه الثورة حتى القضاء عليها على يد الأمير إسماعيل الساماني شوكة في عيون الاستبداد العباسي.

كما أن الإسماعيلية والقرامطة المتطرفين، الذين في مذهبهم شيء من آراء المزدكية والغنوصية، كانوا لأمد طويل يشكلون مصدر قلق كبير ليس لبغداد فقط وإنما لجميع العالم الإسلامي، بل إن الجماعة الأخيرة ثارت في المسجد الحرام أيضاً وأحدثت قتلاً واسعاً، فكانت حادثة مرة لازالت حية في ذاكرة التاريخ الإسلامي.

وقد نغص (خرمدينان) في أذربيجان و (رافع بن ليث) في خراسان جهاز الخلافة وهو في قمة قوته. وهذه الحوادث جميعها تدل على ضخامة التحديات التي كانت تواجه السلطة العباسية القائمة على السيف والقتل.............

(1) تاريخ سيستان، تصحيح جعفر مدرسي صادقي، طهران، مركز، 1994م، ص 113.

(2) الكوفي، ابن أعثم، الفتوح، تحقيق الدكتور سهيل زكار، 2/1321.

(3) يقصد الفارابي من الغلبة الجبروت القائم على القوة والخداع، ويمكن أن تكون الغلبة مرادفة لكلمة (Tyranny). وسيأتي تفصيله خلال الحديث عن الفارابي.

(4) انظر: ابن خلدون، المقدمة، دار إحياء التراث العربي، دون تاريخ، ص 202، 208.

(5) المسعودي، مروج الذهب، بيروت، دار الأندلس، 1965م، 3/4-5.

(6) زرين كوب، د. عبد الحسين، تاريخ إيران بعد الإسلام (بالفارسية) طهران، أمير كبير، 1992م، ص 366. توضيح الملل، لترجمة كتاب الملل والنحل للشهرستاني، ترجمة: مصطفى بن خالقداد هاشمي عباس، تصحيح ومراجعة: محمد رضا جلالي نائيني، طهران، مطبعة إقبال، ط4، 1994م، 1/145.

(7) إن التقييم الموضوعي من خلال جميع الروايات التي تحدثت عن فتح إيران وطبيعة تعامل الإيرانيين (والأقوام الأخرى المنكسرة أمام جيوش الإسلام) مع المسلمين والدين الجديد هو أن شعب إيران ومعظم الأقاليم المفتوحة اعتبرت دخول الإسلام إليها نهاية لمرحلة طويلة من الحقارة والظلم وبداية لمرحلة جديدة تبعث على التفاؤل في حياتها. لهذا لم يقف الشعب بوجه جيوش المسلمين أو أنه وقف لكنه سرعان ما تخلى عن موقعه وتوافق المنتصر والمنكسر على حياة مفعمة بالأمل.

لقد ألغى الدين الإسلامي، الذي حمل الفاتحون رسالة دعوته، الامتيازات القديمة للنبلاء ورجال المعابد (الموبدان) التي سجنت الشعب الإيراني لقرون متمادية في محنة العبودية المذلة، وهدم أسوار الطبقية الشاهقة التي كانت تفصل بين الواستريوش المحرومين (وهم طبقة الفلاحين في عهد الساسانيين، وإحدى الطبقات الأربع في ذلك الزمان. (عن لغتنامة لدهخدا، 49/71) والواسبوهران (لقب لنبلاء الأشكنانين والساسانيين وأصحاب المناصب الحكومية والعسكرية عندهم. عن المصدر نفسه، ص 70) والموبدان والآزاتان.

وبديهي أن استمرار المقاومة كان استجابة لعادات قديمة، إذ إن عامة الناس لا يدركون المعاني الراقية لهذه الرسالة، أو أنهم لم يتحملوا، بسبب غرورهم القومي وعنصريتهم القبلية، دخول هؤلاء بفظاظة وقسوة ناشئة عن الطباع البدوية، ولما تترسخ في نفوس جلهم بعد الأخلاق الإسلامية.

وأما السيل الإنساني الذي اجتاح إيران بعد فتح المدائن وحرب نهاوند حتى امتلأت بعد فترة قصيرة المدن والطرقات، بالفاتحين، كان سببه اختفاء الشعور بالعداء للأجنبي (Xenopjoble) وتبدل القلق الناشئ من الحس العميق بالتمييز الطبقي خلال قرون، الذي تسبب في حرمانهم، إلى أفق جديد واعد.

والأفق الجديد لإشراقة الدنيا جاء بحكم القرآن الذي منع استعباد بعض الناس للبعض الآخر، إذ ليس للموبدان والواسبوهران أن يحرموا الواستريوشان والفلاحين والثيانكاران من ملكية كل شيء وإن كانوا مرتبطين (بالمينوك) و (الكيتيك).

ثم إن فرار أغلب الواسبوهران والموبدان والآزاتان، الذين إما رافقوا الملك يزدجر أو تبعوه على عجلة من الشرق إلى الغرب ومن مدن بارس وماد وفهله إلى خراسان وطبرستان، ومن ثم إلى تلك =

الجهة من نهر آموي، بعد استئثارهم بالثروات والإمكانيات، والنجاة بأنفسهم وبما خف حمله مما جمعوه خلال سنوات طويلة وتركه رعاياهم للعدو، كل ذلك كان دليلاً على طلوع دنيا أنهت الحياة الأرستقراطية وبدأ الشعب الإيراني مرحلة جديدة)). (تاريخ الشعب الإيراني، 2/12-13).

لكن لم يمض وقت طويل حتى شاهد الشعب الإيراني اختلافاً كبيراً بين سلوك الخلفاء وعامليهم وما تصوروه عن الحياة الإنسانية العادلة في ظل الدين الإسلامي من جهة ومع ما شاهدوه عند بداية عملهم من جهة أخرى.

((كما أن حكومة دمشق- بني أمية- لو قورنت بعصر خلافة المدينة، فإنها سوف لا تعدو كونها عودة أو انعكاساً للشرك الجاهلي في مقابل الإسلام. وعندما أطلق المسلمون على هؤلاء لقب الملوك فإنهم أرادوا أن يطعنوا بخلافتهم، إذ كانت أكثر الأحكام التي أصدروها خلال حكمهم للأقاليم الإسلامية في أقل من قرن باسم الخليفة أحكاماً فاسدة وشهوانية، وكان أكثر همهم الصيد، والنساء والشراب. كما انشغل حكامهم الأقوياء، هم وخلفاؤهم، مثل زياد بن أبيه والحجاج بن يوسف وخالد بن عبد اللـه القسري، بالقتل والسجن وإرهاب الناس، والاستيلاء على بيت مال المسلمين. بعد أن أحيوا النعرات العصبية الجاهلية بين القبائل، وطالما هددوا المسلمين من غير العرب المسمّين بالموالي، واعتبروهم عبيداً محررين أو أقل مساواة.

وقد تسببت السياسة القائمة على التمييز في إعلان المسلمين غير العرب عن معارضتهم للحكم الأموي، حتى انضموا منذ ذلك الحين إلى الأحزاب والفرق المعارضة للخلافة، ولا سيما الشيعة والخوارج)) (المصدر نفسه، ص 31- 32).

(8) انبثقت الحركة الشعوبية من قلب سياسة التمييز العنصري الأموية، وقد استقطبت الكثير من الساخطين على الحكم، إلا أنها ضعفت واضمحلت بشكل تدريجي بعد أن استقامت في العصر العباسي وأصبحت إحدى الحركات القوية المغرورة، بسبب انفتاح العباسيين أكثر على الأقوام والشعوب برغم قوتهم وقسوتهم في قمع المعارضة، وابتعادهم عن إثارة النعرات الجاهلية والعربية. وقد

اعتمد العباسيون على العناصر غير العربية، من الإيرانيين أولاً ومن ثم الأتراك، في مواجهة منافسيهم الأمويين، الذين كانوا يعتمدون على العنصر العربي ويشكل العرب أكثر أنصارهم وأتباعهم.

والسبب الآخر في انخفاض حدة الشعور الطائفي هو تكون حكومات إيرانية أو ذات جذر إيراني في إيران مستقلة نسبية، وإن كانت من الناحية الرسمية تابعة إلى الخليفة. ومن جهة أخرى فإن = الأصداء التي أوجدتها دعوة التشيع إلى المساواة بين الناس ورفض الظلم. وكون العصر، مهما يكن، عصر إيمان وسيادة الدين، وإقبال الناس أكثر على الحركات ذات الجذر الديني الداعية إلى المساواة والعدالة، كل هذا أفضى أيضاً إلى اضمحلال الشعوبية داخل حركات المذهب الشيعي إذ كان لها وجود أو أثر فيه (الأعم من الزيدية والإسماعيلية والدينية).

(9) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر، 1385هـ/1965م، 5/380.

(10) المسعودي، مروج الذهب، 3/239. وانظر أيضاً الكامل لابن الأثير، 5/356.

(11) المصدر نفسه، 3/239.

(12) تاريخ الشعب الإيراني، مصدر سابق، 2/45.

(13) تاريخ إيران بعد الإسلام، مصدر سابق، ص389.

(14) مروج الذهب، مصدر سابق، 3/292.

(15) تاريخ إيران بعد الإسلام، مصدر سابق، ص 405-409.

في هذا الكتاب يدرس السيد محمد خاتمي تطور الفكر السياسي في العالم الإسلامي. فهو يرى أن السياسة في العالم الإسلامي بعد مرحلة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء، كانت تدور حول محور واحد هو الاستبداد والغلبة، ولم تخرج عن هذه الصورة برغم تبدل الآليات التي تفرضها المرحلة.

وانطلاقاً من هذه النظرة تتبع الكاتب مِفاصل الفكر السياسي في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، فرأى أن جميع رجال الفكر السياسي الآخرين عيال على رموز المنظّرين الذين عرض فكرهم وفلسفتهم.

فبين كيفية تشكل العقل الإسلامي والمقولات الأساسية التي كانت توجهه، وما التيارات الفكرية السائدة، ومدى تأثير أهل الظاهرة المتكلمين والمتصوفة في الحياة العامة، وكيف استجاب الفكر للاستبداد بوصفه سياسة يرتكز عليها الحاكم الإسلامي؟

وتحدث عن الصراعات السياسية المتولدة عن تقاطع الرؤى الفكرية، وكيف أثرت سلباً في تراجع القيم الإسلامية، ونقطة التحول التي طالت العالم الإسلامي بدخول علوم الأوائل واشتداد الصراع بين العقل والشرع أو الدين.

ثم بدأ يفصّلُ مقولات رموز الفكر السياسي كالفارابي مؤسس الفلسفة السياسية، الذي أثنى على فكره ورأى أن الفكر الفلسفي لجاد والحر قد انتهى لصالح التنظير الاستبدادي بعد وفاة الفارابي. وقد نسب السيد خاتمي الفكر السياسي إلى المسلمين ولم ينسبه إلى الإسلام؛ ليؤكد على بشرية هذا الفكر، وبالتالي جواز نقده وتقويمه. وهكذا جمع السيد خاتمي في كتابه هذا بين رؤية العالم والسياسي الخبير ليضع بين أيدينا رؤية عميقة للتراث الفكري السياسي عند المسلمين.

يدعو إلى النظر في واقع الفقه السياسي عند المسلمين، وتصحيح جوهر الجهود الفهية بالاستناد إلى المنهج الرباني، والتحقيق في آراء الفلاسفة والمفكرين والسياسيين المسلمين، للوصول إلى جادة الرشد السياسي .