من مقدمة كتاب خلق الكون في القرآن الكريم
القرآن الكريم لم يتنزل علينا ليكون مرجعاً متخصصاً في مجال العلوم الطبيعية المختلفة، بل كان {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 2/185]؛ مستنداً في تحقيق ذلك الأمر إلى الدعوة إلى التأمّل والتفكّر في خلق السماوات والأرض. ولم يكن يدخل في تفاصيل الحقائق العلمية، ولا كان يستعمل المصطلحات العلمية الدقيقة، فقد أُنزل للناس كافة، عالمهم وجاهلهم، ولجميع العصور، وبلغة مبسّطة يستطيع فهمها الجميع، حسب قدراتهم وحسب ما أوتوا من إدراك وعلم. ولهذا، لم يكن النبي (ص) يجيب عن الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن معاني بعض الآيات المتشابهة، والتي لا علاقة لها بالسلوك اليومي للمجتمع أو الفرد المسلم، بل كان يمنع أصحابه من كثرة السؤال. والسبب واضح جليّ، فالعديد من الآيات كان من غير الممكن فهم الدلالات العلمية لها في ذلك العصر، بل هي تحتاج إلى عصر يتقدم فيه العلم تقدماً واسعاً بحيث يحتاج أهله (ويستطيعون) فهم تلك الدلالات، لئلا تسبب لهم شبهات اعتقادية تؤثر في إيمانهم بأن القرآن منزل من الله تعالى حقاً وأنه لم يكن حديثاً مفترى.
ولعل بعض من يقرأ عنوان كتابنا هذا سيظن بأننا معنيون بما يطلق عليه اسم «الإعجاز العلمي في القرآن الكريم». وفي الواقع، ليس الأمر كذلك على الإطلاق؛ فآخر ما يخطر ببالنا الكتابة في مثل هذه القضايا، وذلك للأسباب التالية:
1) إن ما يسمى بالإعجاز العلمي هو موجه إما للمسلمين أو لغير المسلمين، أو لكلا الفئتين معاً. والإيمان، حسبما نعلم، يحدث لدى المرء لأسباب وجدانية عاطفية بالدرجة الأولى، وليس لأسباب علمية منطقية أولاً. وثمة أدلةٌ كثيرة على هذا الرأي من السيرة النبوية الشريفة..
2) إن الدين الذي يكتسبه المرء من أبويه ومن مجتمعه الذي يحيط به، يصبح عادة راسخة لديه، وجزءاً من تكوينه؛ بل ويصبح في الغالب هويةً له. ومن أصعب الأمور تغيير العادات الراسخة والقناعات المتأصلة، فالمسألة كما يقول المتنبي:
لكل امرئٍ من دهره ما تعوّدَ
وقلما تُجدي البراهين - ولو كانت قاطعة - في تحويل الإنسان عن قناعاته الدينية، فكما يقول رسول الله (ص): «حبك الشيء يُعمي ويُصم». ودين المرء الذي يكتسبه منذ الطفولة يرتبط بمشاعر وجدانية قوية، وذكريات حميمة، وروابط قرابة وأواصر حب يصعب التخلي عنها إلى حد بعيد.
3) إن معظم من يشتغلون فيما يسمى بالإعجاز العلمي هم من خارج دوائر الوسط العلمي، وهم كثيراً ما يجتزئون أو يشوّهون الحقائق العلمية بدون قصد، لمحدودية فهمهم لمدلولاتها على وجه الدقة. وبذلك يسيئون للإسلام وللعلم في آن معاً. وفي حالات أخرى، يأخذون بعض المفاهيم السطحية، كالتوافقات العددية وتواترات الألفاظ اللغوية، والتي يصعب اعتبارها حججاً قوية تدعم آراءهم. والكثير منهم يتسمون بضحالة الثقافة العامة، بالمعنى الشمولي للكلمة؛ فإذا كان أحدهم مختصاً بالرياضيات أو الفيزياء أو الطب، مثلاً، فهو يجهل الأسس العلمية لعلوم الفلك والجيولوجيا والأقيانوغرافيا وبعض العلوم الإنسانية جهلاً مريعاً، قد يصل إلى الأمية في بعض الأحيان. ناهيك عن أن بعضهم هو طالب شهرةٍ وطفيلي على البحث العلمي في النصوص الإسلامية.
فلقد ابتلي المسلمون، كما ابتلي غيرهم، بوجود ركام هائل الضخامة من الآراء والتفسيرات والتحليلات والتعليقات التي قدمها عدد كبير من المفسرين والمنظرين والكتاب، قديماً وحديثاً. والكثير من هذه التفسيرات والآراء تتناقض مع المنطق وحقائق العلم، وبعضها مستورد من عقائد أخرى؛ وهي تشكل عبئاً ثقيلاً على الدين، إذ أنها تتماهى معه وتصبح - مع مرور الزمن - جزءاً لا يتجزأ منه. والمتلقي - وخاصةً إذا كان مثقفاً - يقع في حيرة وإرباك شديدين. فهو لا يستطيع هضم هذه الآراء لتناقضها، كما قلنا، مع العلم والمنطق؛ وهو في الوقت نفسه لا يمتلك تلك القدرة الثقافية الموسوعية التي تمكنه من دحض هذه الآراء وتفنيدها وإماطة اللثام عن الدلالات الحقيقية للنصوص الدينية الأصلية.
وإن كتابنا هذا يهدف بالدرجة الأولى إلى محاولة تصحيح الآراء والمفاهيم المغلوطة، خدمةً لملايين الشباب المسلمين الذين يتلقون العلم الحديث في الجامعات، وإنقاذاً لهم من الوقوع في الشكوك والحيرة التي تسببها تلك الآراء المغلوطة التي ذكرناها آنفاً. وهذا التصحيح، وإن كان مبنياً على براهين لغوية ومنطقية وعلمية وقرآنية قاطعة؛ فهو خاضع للنقد البناء الذي نرحب به بحرارة. وقديماً قيل: ((لا يضيع العلم بين اثنين)). وهؤلاء الشبان هم المستهدفون من قبلنا، فهم قادة الرأي والتفكير في المجتمع في المستقبل غير البعيد. وهذا الكتاب مهدى لهم - هم بالدرجة الأولى - لعله يشفي تطلعهم لتفسير يجيب عن تساؤلاتهم، التي لا يجدون من يجيب عليها إجابة مقنعة.