تخطي إلى المحتوى

الاختلاف والتعارف في ضوء علم النفس المعاصر

20% خصم 20% خصم
السعر الأصلي $9.00
السعر الأصلي $9.00 - السعر الأصلي $9.00
السعر الأصلي $9.00
السعر الحالي $7.20
$7.20 - $7.20
السعر الحالي $7.20
يتناول الكتاب موضوع الاختلاف من جوانب متعددة، ويستعين بمناهج علم النفس الحديث للوصول إلى أصل الاختلاف وجذوره وأنواعه، ويعرض طرقاً للتعامل الناجح مع الاختلاف من منطلق التعارف، الذي يدل على النضج العقلي والاجتماعي. كما يعرض أسلوباً جديداً يمكن للمجتمعات العربية تبنيه للخروج من حالة التناكر إلى التعارف.

المؤلف
التصنيف الموضوعي
256 الصفحات
24*17 القياس
2012 سنة الطبع
9789933103309 ISBN
0.4 kg الوزن

المقدمة
إن الاعتقاد بمبدأ تنوع الاختلاف، وأن له طيفاً من المعاني والأنواع، وأنه ليس شراً بالضرورة، يفسح المجال أمام الناس لتقبل الاختلاف بينهم ضمن حدود الأنواع التي لا يترتب عليها مفسدة.
وفي المقابل فإن اعتماد مبدأ رفض الاختلاف بكل أنواعه، ووجوب تشابه الناس أو تطابقهم في الرأي أو الشكل أو السلوك حتى يحظوا بالقبول أو الاعتراف، هو مبدأ يخالف سنن الحياة، ويختزل ألوان طيف الحياة إلى الأبيض والأسود، وفي بعض الحالات إلى اللون الأسود فقط. كذلك فإن مطالبة الناس بأن يكونوا على لون واحد يريده أحد الأطراف هي مدعاة للسيطرة على الأطراف الأخرى، ومن ثم لاستغلالهم والقضاء عليهم على طريقة ملك الغابة في تعامله مع الثيران حينما افترسهم الواحد تلو الآخر متذرعاً بذريعة التحالف على التشابه والتنازع على الاختلاف، إذ قال لهم: «لوني على لونكم، دعوني آكل صاحب اللون المختلف». كذلك استعان فرعون بالمبدأ نفسه على تحقيق غاية العلو في الأرض عن طريق سياسة التفريق بين أبناء المجتمع الواحد إلى شيع وطوائف على أساس الفروق الطبيعية بينهم، ثم استضعاف الطائفة الأكثر اختلافاً عنه ليفعل بها ما يشاء {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *} [القصص: 28/4] ، وكذلك الاستخفاف بعقول باقي الطوائف عن طريق إقناعهم بخطورة اختلاف الطائفة المستهدفة عنهم ليعينوه على تحقيق مراده وهم لا يشعرون، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ *} [الزخرف: 43/54] .
إن التعامل الصالح مع الاختلاف بين الناس على صلة وثيقة بتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ كليات الحياة الكبرى؛ وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مصطلحات معاصرة كالمجتمع والموارد البشرية والطبيعية، فالاختلاف ليس هدفاً بحد ذاته، وحسن التعامل معه هو وسيلة لجلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم، ومعرفةِ الحقيقة وإحقاق الحقوق، وتأمين الحاجات النفسية والاجتماعية عن طريق الاعتراف بحق الاختلاف، ليس الفطري فقط، وإنما المكتسب والإرادي أيضاً، لذلك أخذ رسول الله (ص) بالرأي الآخر المختلف حينما وجد فيه حكمةً أو مصلحةً، ورفضه عندما وجد فيه جهالة أو مضرة، وكذا فعل من سار على نهجه، بل إن الإسلام كشرعة ومنهاج حياة لا يكمم الأفواه حتى وإن كانت لأناس جاهلين يسيئون استخدام حق الاختلاف، بل هو يقدم لهم البديل المناسب للتعبير عن الاختلاف بشكل متسامح فيه عفو نابع عن مقدرة، وبيان لمهارات التواصل الصالحة: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا *} [الفرقان: 25/63] .
إن من أهم معوقات ممارسة حق الاختلاف عند المسلمين وغيرهم من الناس الإسباغ على ظاهرة الاختلاف بالصفات الرديئة، بحيث يصحب إدراكَ أي نوع من أنواع الاختلاف مشاعرُ التوترِ والإحساس بالتهديد، وكأن شراً مستطيراً بات وشيك الوقوع يستدعي استنفاراً لدفاعات النفس وأسلحتها الهجومية. من هنا كانت أهمية توصيف مصطلح الاختلاف وتحريره، وبيان مدلولاته المختلفة؛ اللغوية والعلمية والفلسفية والدينية، حتى لا يقع الناس ضحية سوء التعامل معه.
إن توصيف مصطلح الاختلاف يستدعي أولاً تناول ظاهرة الاختلاف بالمطلق، فمن الظواهر الصارخة في الحياة ظاهرة الاختلاف، التي طالما ثار الجدال حولها، وحاول الإنسان تجاهلها أو التنكر لها، أو محاربتها، أو إثارتها لمآرب أخرى على مدى الأزمنة والأمكنة.
تنتمي هذه الظاهرة، إذا نحن أمعنا النظر في القرآن، إلى حقيقة الكون والحياة الأولى ألا وهي الخلق، لذلك فهي ظاهرة طبيعية فطرية. إلا أن لهذه الحقيقة الأولى، صلة بحقيقة الوجود الثانية، ألا وهي الهداية، كما جاء في الحوار القرآني على لسان موسى عليه السلام مع فرعون: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *} [طه: 20/50] ، وعلى لسان إبراهيم عليه السلام بقوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ *} [الشعراء: 26/78] ، وفي ترابط هاتين الحقيقتين تتحقق كرامة الإنسان من حيث الخلق: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [التين: 95/4] ، ومن حيث الهداية: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *} [الإنسان: 76/3] ، والهداية هي اتباع الصراط المستقيم الذي دعت إليه فاتحة الكتاب، فكما أن خلقه كان قويماً، فيجب أن يكون سبيله مستقيماً.
ترشد الهداية الإنسان إلى حسن التعامل مع كل شيء في الحياة، بما في ذلك التعامل مع الناس، ومنه التعامل مع الاختلاف بين الناس الذي يطلق القرآن الكريم عليه مصطلح التعارف، وهكذا تلتقي حقيقة الهداية مع حقيقة الخلق لدى التقاء التعارف مع الاختلاف بين الناس.
لذلك جعل الله عز وجل التعارف مقصداً وتكليفاً شرعياً، وعلة للاختلاف بقوله تعالى: {} [هود: 11/118-119] ، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 49/13] .
إن هذا الاختلاف الفطري الذي خلقه الله بين الذكر والأنثى من ناحية، والاختلاف المكتسب الذي جعله الله بين الشعوب والقبائل من ناحية أخرى، لَيُمَثِّلُ حقيقة الواقع، وإن التعارف المذكور في صريح الآية لهو حقيقة الواجب الديني في هذا الواقع.
لو لم يكن هناك اختلاف لما كان هناك داع للتعارف؛ لأن كل شيء سيكون عندئذ متماثلاً ومعروفاً، وإذ كان هناك اختلاف، كان معه تفاضل بين المختلفين وبحث عن الأفضل. لذلك بيَّن القرآن الكريم علام يقوم التفاضل في التكريم بين الناس المختلفين؛ لا على أساس الاختلاف والفروق الفطرية والطبيعية كالجنس والانتماء الشعوبي أو القبائلي، وإنما على أساس الاختلاف العملي الإرادي في التعامل مع الناس المختلفين؛ فإما تناكر واختلاف خبيث، أو تعارف وائتلاف حميد بين الناس، كما قال رسول الله (ص): «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»[(1)]. هنا يأتي تكريم الله عز وجل وتفضيله لمن اختار التعارف بدلاً من التناكر سبيلاً في الحياة في آية الاختلاف والتعارف: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 49/13] .
في مقابل هدي الله للناس لأن يتعارفوا، هناك وسوسة الشيطان للناس التي تزين لهم التناكر، وتضع بينهم حواجز وهمية بأسماء مختلفة، فتارة الخوف على الأنا من الآخر، وتارة أخرى فضل الأنا على الآخر سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجمعي، من مثل شعب الله المختار والفرقة الناجية وأصحاب الطريقة المثلى، يستتبع ذلك العلو على الآخرين والإفساد في الأرض.
ينتمي التعارف والتناكر إلى النجدين اللذين يحددان وجهة حياة الإنسان {} [البلد: 90/10-11] ، فالتعارف على الاختلاف بين الناس يهدي إلى الائتلاف والاجتماع، بينما يؤدي التناكر على الاختلاف بين الناس إلى الاختلاف الخبيث والتفرق.
لطالما أساء الإنسان فهم الاختلاف وطريقة التعامل معه، وجهل حقيقة التعارف وأهميته، وبالمقابل حقيقة التناكر وخطورته في الإسلام، ومن هنا أهمية هذا الكتاب. لقد ساد ردحاً طويلاً من الزمان اعتقاد مفاده أن الاختلاف شر كله أو شر لا بد منه، وأنه يجب تجنب الاختلاف والإعراض عن المختلفين، أو معاقبتهم كما حدث لكثيرٍ من الأنبياء والعلماء والصالحين والمفكرين الذين اختلفوا مع أقوامهم وغير أقوامهم على مدار التاريخ في العالمين الإسلامي وغير الإسلامي، عرباً وعجماً.
يسعى هذا الكتاب إلى تناول مسألة الاختلاف من جوانب متعددة، يعالج فيها أصل الاختلاف ومعناه، وأنواعه في الحياة، وعلاقته بقدر الله والدين والعلم والفلسفة، كما يستعرض أمثال الاختلاف في القرآن، وتاريخ الاختلاف عند المسلمين. كذلك يحاول هذا الكتاب أن يعالج مسألتين سلوكيتين واجتماعيتين ذواتي أثر بالغ على الحياة الاجتماعية هما التعارف والتناكر، كما دل عليهما هدي القرآن، وكما شهد عليهما فقه الواقع من خلال العلوم النفسية والاجتماعية.
يأمل الباحث من هذا الجهد البحثي أن يسد، من الناحية الدينية والعلمية، ثغرة ثقافية وفكرية، وأن يعالج قضية نفسية واجتماعية باتت تهدد أمن ووجود الناس بعامة والمسلمين بخاصة، وذلك حينما يسود التناكر على التعارف في حياتهم وتعاملاتهم. إن غياب منهج التعارف وثقافته بين الناس، التي أمر بها الإسلام {لِتَعَارَفُوا}، قد كلفهم أثماناً باهظة هددت، وما تزال تهدد، كيانهم ووجودهم المادي والحضاري. إذ لا يغيب عن علماء النفس والاجتماع أهمية التعامل القويم مع الاختلاف؛ المتمثل بالتعارف، فهو من علامات الصحة النفسية والنضج الاجتماعي، أما المجتمعات التي تتوجس خيفة من الاختلاف فهي مجتمعات متناكرة تتفشى فيها ظاهرة التآكل الاجتماعي، والتنازع على المستوى الداخلي والخارجي، وغلبة الذكاء الفردي على الذكاء الجمعي والمصلحة الخاصة على العامة.
وإذا كانت مجتمعات المسلمين تعاني هذه الظاهرة الخطيرة كغيرها من المجتمعات البشرية، فلا بد لها من أن تغير نفسها عن طريق تغيير ما بالأنفس من أفكار وقناعات وعواطف ودوافع خاطئة، حتى يتغير السلوك الاجتماعي ومن ثم الواقع الاجتماعي وأحوال الأمة وفقاً لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/11] ، و{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [الأنفال: 8/53] . هذا التغيير النفسي المتمثل في إصلاح الفكر والعاطفة في القلب، الذي يليه التغيير الاجتماعي المتمثل في إصلاح الواقع المعيشي للقوم الذي يتجلى في أحد جوانبه في حسن التعامل مع الاختلاف بين أفراده، يشكل الأمل بالله في غد أفضل لهؤلاء القوم وللبشر أجمعين.
إن سر فلاح هذه الأمة وجميع الأمم لا يكمن بالتنطع والتشدد في الدين، ولا بالإعراض والتخلي عنه، بل بالتعارف بين الناس المختلفين على أساس المعروف؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 3/110] ، وحينما تصبح الأمة خير أمة أخرجت للناس، وقادرة على الاضطلاع بمسؤوليات الاستخلاف في الأرض، عندئذ يتحقق فيها قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ *} [الأنبياء: 21/105] .
ومرة أخرى هناك سنن يجب أن تتحقق قبل أن يغير الله واقع الأمة. إن التغيير النفسي الذي يؤدي إلى التعارف، الذي بدوره يؤدي إلى الائتلاف والفلاح، لا بد أن يقوم على العلم؛ لأن ذهاب العلم في الأمة سيؤدي إلى تخلف الأمة وضلالها. وإذا كان تعلم الكتاب والحكمة، اللذين يؤديان إلى تزكية النفس، من مفاتيح الفلاح للأمة، إلى جانب مفتاح العبادة، فلا بد من تعريفٍ وتحرير لهذا المصطلح كي نعرف مضمونه ودلالاته.
إن العلم هو جهد معرفي متصل عبر التاريخ بين البشر، غايته الكشف عن الحقيقة وتسخير هذه المعرفة لتحقيق كرامة الإنسان على الأرض، أما مصادر هذا الجهد المعرفي فهي كتاب الله المبعوث، وكتاب الله المنشور في الآفاق وفي الأنفس، فالعلم هو فقه للدين في ضوء الواقع، وفقه للواقع في ضوء الدين، والعلم هو عملية متسلسلة تتألف من ملاحظة الظواهر، ووضع الفرضيات، والتحقق منها بالقياس أو التجريب، إلى اكتشاف العلاقة بين هذه الظواهر وتعرف السنن والآيات التي تحكم هذه العلاقة، ومن ثم إلى الفهم والتفسير والتطبيق، وما لو كانت المنفعة من هذه العملية قد تحققت أم لا. إن كتاب الله الذي فيه هداية البشر لا يمكن الانتفاع منه من غير السير في التسلسل الذي نص عليه في تلاوة آياته وتعلم علمه والحكمة التي فيه لبلوغ مرحلة التزكية كما جاء في دعاء إبراهيم عليه السلام للأجيال التي سوف تأتي من بعده: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيْهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [البقرة: 2/129] .
في تلاوة الآيات يتعلم الناس مهارات قراءة القرآن، وفي تعليم الكتاب يتعلم الناس حقائق القرآن وسننه ومقاصده، وفي تعليم الحكمة يتعلم الناس الفكر القويم الذي يساعد على إحكام فقه الدين على فقه الواقع، كما يساعد على القول السديد الذي يصلح الأعمال ويتقن الأفعال التي يبلغ بها الإنسان عين الصواب والفلاح.
أما التزكية فهي الانتفاع من كل ما سبق، وتحلي النفس بكل أسباب الفلاح؛ من علمٍ وحكمةٍ وصبرٍ ومرحمةٍ، وتجردها من كل أسباب الخيبة؛ من جهلٍ وفجورٍ وجورٍ. إن العلم النافع هو العلم الذي بمقدوره أن يغير ما بالنفس وأن يجعلها تأمر بالمعروف من غير أن تنسى ذاتها.
لقد جهد وأجاد معظم المسلمين في فنون تلاوة الآيات وحفظها في هذا العصر وفي عصور خلت، وأصبح ذلك غاية همهم ومبلغ علمهم، وتوقف نموهم العلمي والفكري والسلوكي عند هذه المرحلة دون المراحل الأخرى في سلسلة الهداية. لقد فات معظمَ المسلمين أن آيات الكتاب ليست معزولة عن الحياة وما فيها من آيات في الآفاق وفي الأنفس، بل إن فقه هذه الآيات مرتبط بفقه آيات الواقع والكون المادي والاجتماعي: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [فصلت: 41/53] ، وهذا يتطلب من المؤمنين قراءة متدبرة للآيات تعي حقيقة العلاقة التي بينها، وتستخدم القلم والكتابة لنشر علم الكتاب والحكمة بينهم؛ ليرشدوا بها وتتزكى أنفسهم، كما ورد في أول آيات القرآن: {} [العلق: 96/1-5] .
إذا لم تحصل هذه القراءة وهذا التدبر {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا *} [محمد: 47/24] ، فإن ذلك أَمارةُ ذهاب العلم عن الأمة الذي لم يغفل عن خطره رسول الله محمد (ص) فحذر منه في أحد مجالسه: «عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي (ص) شيئاً فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم. قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوَليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟»، وفي رواية أخرى: «أليست اليهود والنصارى فيهم كتاب الله تعالى ثم لم ينتفعوا منه بشيء؟»[(2)].
إذن، إن تحقق العلم في الأمة لا يكفيه توافر كتاب الله بينهم فقط، ولا حتى تلاوة آياته وحفظها؛ بل يحتاج إلى جهد علماء الأمة في تعلم الكتاب والحكمة وتعليمهما، وتربية أبناء الأمة على هدي هذا العلم حتى تتزكى أنفسهم، فالتعلم وفقاً للدين هو انتفاع من العلم، ووفقاً لعلم النفس هو تعديل في سلوك الإنسان نحو الأفضل.
يتمثل سلوك الإنسان هذا بالنشاط النفسي الداخلي (عمليات معرفية وعاطفية ودافعية) والنشاط النفسي الخارجي (استجابات جسدية وحركية ووظيفية وتعاملية)، لذلك لا بد لهؤلاء العلماء أن يكونوا قد انتفعوا هم أنفسهم من العلم النافع لكي يكونوا أسوة حسنة ومؤثِّرين ومتصفين بالاستقامة والمقدرة العلمية، مثلما كان يوسف عليه السلام مستعداً لحمل الأمانة: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ *} [يوسف: 12/55] .
إن افتقاد الأمة لأمثال هؤلاء العلماء سيؤدي بدوره إلى ذهاب العلم عن الأمة؛ لقول رسول الله (ص): «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلُّوا وأضَلُّوا»[(3)]، وفي قول آخر له (ص) سائلاً ومجيباً: «هل تدرون ما ذهاب العلم؟ قال: هو ذهاب العلماء من الأرض»[(4)].
إن ذهاب العلم والعلماء سيضل الأمة عن سبيل الله وصراطه المستقيم الذي يتجلى في أحد جوانبه في الإعراض عن التعارف بين الناس على اختلافهم الطبيعي، واعتماد التناكر سبيلاً بديلاً يقود الأمة إلى الاختلاف الخبيث المتمثل بالتفرق والتنازع اللذين تكون عاقبتهما إخفاق الأمة وزوال دورها الحضاري والريادي بين الأمم، وهذه سنة من سنن الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 8/46] .
إن التعارف الذي يقوم على حسن الفهم والتعامل الصالح مع الاختلاف الطبيعي بين الناس يساهم في تحقيق الصحة النفسية عند الأفراد، والصحة الاجتماعية لدى الأمة، وهذان الأمران هما من أهم أسباب فلاح هذه الأمة ومن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية.
وختاماً، فإن هذا الكتاب هو ثمرة جهود عشرين عاماً قضاها المؤلف في البحث والتفكير والتأليف في ثلاثة بلدان هي أمريكا وسورية والسعودية منذ عام 1991 حتى عام 2011م، سائلاً الله عز وجل أن يجعل فيه منفعة للناس تمكث في الأرض وعملاً صالحاً يرفعه إلى السماء.

يسعى هذا الكتاب إلى تناول مسألة الاختلاف من جوانب متعددة، ويستعين المؤلف بخبرته بعلم النفس ليعالج أصل الاختلاف ومعناه، وأنواعه في الحياة، وعلاقته بقدر الله والدين والعلم والفلسفة، ويستعرض أمثلة الاختلاف في القرآن، وتاريخ الاختلاف عند المسلمين.
كما يحاول أن يعالج مسألتين سلوكيتين ، لهما أثر بالغ في الحياة الاجتماعية؛ وهما التعارف والتناكر.
ويبين المؤلف كيف أن التعامل القويم مع الاختلاف، المتمثل بالتعارف، هو من علامات الصحة النفسية والنضج الاجتماعي.
ويرى أن المجتمعات العربية المسلمة التي تعاني من ظاهرة التناكر، لا بد لها أن تغير نفسها، ويبدأ تغيير السلوك الاجتماعي بالتغيير النفسي المتمثل في إصلاح الفكر والعاطفة، ثم يليه التغيير الاجتماعي المتمثل في إصلاح الواقع المعيشي.
إن سر نجاح الأمم لا يكمن بالتنطع والتشدد في الدين ولا الإعراض عنه، وإنما يكون بالتعارف بين الناس المختلفين.. وعندها تصير الأمة قادرة على أن تكون مستخلفة في الأرض.

يتناول هذا الكتاب مصطلحين رئيسين؛ هما الاختلاف والتعارف، وتأتي أهمية الأول من كونه حقيقة واقعية ثار الجدل حولها عبر تاريخ الإنسان، وكان لها دور حاسم في حياة الإنسان ومصيره، كما تأتي أهمية الآخر من كونه الجواب والحل الفعال لمسألة الاختلاف بين الناس؛ لأنه بالتعريف الطريقة الصالحة في التعامل مع الاختلاف. لذلك احتوى الكتاب على بابين رئيسين؛ هما الاختلاف والتعارف، وتم تناول موضوع الاختلاف من عدة جوانب هي: طبيعة الاختلاف وأنواعه، الحسنة منها والسيئة، وعلاقته باللغة والدين والعلم والفلسفة، وأمثال الاختلاف في القرآن وتاريخ الاختلاف عند المسلمين. من ناحية أخرى، تم تناول موضوع التعارف أيضاً من جوانب متعددة هي: طبيعة التعارف من حيث المعنى والعناصر المكونة له، وعلاقته بالتناكر الذي يشكل قطباً آخراً منافساً وكثقافة وفكر وممارسة مقابلة للتعارف وبديلة عنه. كما تم تناول موضوع التعارف من ناحية أركانه ومقوماته، ومبادئه، ومهاراته ومستوياته ومجالاته، لتكون المحصلة فكراً وثقافة متكاملين عن كيفية ممارسة التعارف في التعامل الصالح مع الاختلاف بأنواعه المختلفة. تمت الاستفادة في أثناء عملية إعداد هذا الكتاب على مدى عشرين سنة من آخر ما توصل إليه علم النفس المعاصر في كيفية التعامل مع الاختلاف عن طريق مهارات التفكير ومهارات التواصل وتوكيد الذات وتعديل السلوك، وغيرها من المهارات والحقائق العلمية النفسية. إلا أن الملهم الأول والأخير في هذا الكتاب هو كتاب الله عز وجل، وأخص بالذكر منه الآية الكريمة التي تبين غاية خلق الاختلاف الفطري وجُعُل الاختلاف المكتسب في سورة الحجرات: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...}، وكذلك سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأخص بالذكر منها حديثه الشريف الذي يبين منهجين لا ثالث لهما في التعامل مع الاختلاف بين الناس؛ ألا وهما التعارف والتناكر، كما يبين مآل كل واحد منهما على الناس بقوله: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف))، والمقصود بالاختلاف في هذا الحديث النبوي الشريف هو الاختلاف الخبيث الذي يأخذ شكل التنازع أو التفرق.