تخطي إلى المحتوى

العقلانية في الفكر العربي المعاصر

20% خصم 20% خصم
السعر الأصلي $7.00
السعر الأصلي $7.00 - السعر الأصلي $7.00
السعر الأصلي $7.00
السعر الحالي $5.60
$5.60 - $5.60
السعر الحالي $5.60
ماذا يعني العقل وما العقلانية؟ ما دلالتها اللغوية ؟ كيف نظر فلاسفة المسلمين إلى العقل؟ وما المكانة التي احتلها العقل في نظر الفقهاء وعلماء المسلمين؟ هل استمر الفكر العربي المسلم في تبنيه للعقل خلال بحثه وتفكيره؟ أم حصلت قطيعة مع الفكر العقلاني؟ أين وصل انتشار العقلانية في الفكر العربي المعاصر؟ وهل وجدت تيارات مختلفة تمثل العقلانية في الفكر العربي؟ ما مدى تأثر العقلانية العربية بالعقلانية الغربية؟ كيف استطاع المفكرون العقلانيون والمسلمون التوافق مع الفكر الديني؟ أسئلة كثيرة إشكالية يطرحها هذا الكتاب، تُقدم فيها وجهات نظر متباينة بين مفكر غربي عاش العقلانية الغربية، ثم درس الفكر العربي وتخصص به، ومفكر عربي عايش الفكر العربي ثم درس وتميز بدراسة الفكر الغربي ونقده.

المؤلف
التصنيف الموضوعي
224 الصفحات
20*14 القياس
2012 سنة الطبع
9789933102630 ISBN
0.25 kg الوزن

إن استدامة هذه الوضعية تؤدي في نهاية المطاف إلى قسر شريحة كبرى من الناس على تسليم مصيرهم لأعاصير الأقدار وحتمية التفقير والركون إلى مسخ عقولهم إلى أشبه ما يكون بمصير سكان الضيعة الضائعة. الأمر الذي يحدو بالمستبدين المتعالمين المتحذلقين إلى تسويغ القول: (شعب محكوم كهذا يحتاج إلى حكام كهؤلاء). فتدجين كهذا، بالإكراه، هو الذي يُمهد البيئة لقابلية الاستعمار.
فمن هذا المنظور صار التفكير في تقنية الوصول إلى سلطة الدولة هو الهاجس المؤرق عند القومي والماركسي والليبرالي والسلفي. تبعاً لذلك ليس من باب المصادفة أن تراكم حيل معرفية حول أساليب الانقلاب العسكري تحت شعار (الثورة) أو (الجهاد) ضد الأمة المكفَّرة، وأن يُراكم أيضاً جهاز من المفاهيم حول السيطرة والهيمنة والاستبداد والاستكبار وحول موازين القوى... بصريح العبارة لقد تحول علم السياسة تدريجياً، إلى علم عسكري حيث يكون التعلَّم فيه هو كيفية اقتناص السلطة.
بناء على ما تقدم أقول: إن الفكر السياسي السائد باسم (التحديث العقلاني الواقعي) يعاني، بمختلف صوره الشمولية والتبعية والارتدادية، فصاماً حقيقياً مع الواقع الاجتماعي التاريخي الحي. فمن الطبيعي أن يكون ثمة علاقة مباشرة بينه وبين نظام السلطة المطلقة؛ لكون هذا الأخير يُعاني هو أيضاً من فصام مع المجتمع.
لا شك، في وضعية كهذه، في عدم إمكانية أن تستقيم الثقة والتفاعل البناء بين الطرفين؛ لأن هذا مرهون باحتياج كل منهما إلى الآخر لإعادة إنتاج نفسه كي يستمر، وذلك من خلال تغيير قواعد ممارسة السلطة داخل الدولة، وداخل الأحزاب وداخل المؤسسات الأهلية، حتى الأسرة. أقول ذلك؛ لأن كل ما اعتيد على ترسيخه في السابق من نظام التلقين وعبادة الشخصية والهوس بالشعارات الجوفاء، والمراقبة على الضمير والمعاقبة المشددة على حرية الرأي، وفرض معتقدات، بالإكراه، هو الذي يُجبر الأفراد، ضمن هذا الاحتقان، على الخضوع والانخراط في لعبة الغش والتدليس والكذب والممالقة والتحايل والمخادعة.. بحيث يكون فن التشاطر فيها هو اتباع سلوكية ازدواجية لاأخلاقية، تنتهي إلى ثنائية الرشوة والارتشاء المدمرتين لشراء الحقوق أو المناصب، ما يؤدي بالنتيجة إلى بعث الفوضى والاضطراب وتأجيجهما، وتآكل أواصر التضامن والتواصل والثقة بين الناس، إلى أن يُصبح كل فرد يفتش عن خلاص نفسه على حساب الآخرين.
إن كل المراهنين على النظام الدولي الجديد، وما بثَّه من وعود مسمومة حول نشر الديمقراطية وعولمتها؛ لكسر أغلال الاستعباد والاستبداد المضيّقة الخناق على عقول العباد بما يتناسب مع كرامة المواطن وسلامة العيش المشترك، سرعان ما صدموا حينما انقلبت الأمور رأساً على عقب. وذلك باستبداله بإمبراطورية الشر عدواً جديداً أو اختلاقه مشجباً يُعلَّق عليه كل المخاطر التي تتهدد التنامي الإمبراطوري لهذا النظام، ألا وهو الإسلام بديلاً عن الخطر الشيوعي. حيال هذا التحول لم ولن تتردد إمبراطوريات الإعلام، على اختلاف أشكالها، في الكتابة عنه لتسوِّقه على قاعدة الصورة النمطية السابقة وحاجات العولمة التي تسعى لسيادة نموذج واحد واحتقار ما عداه لكون الإسلام يُشكل، راهناً، بؤرة الممانعة وعدواً للحداثة والعقلانية، بذلك صار حلفاء الأمس القريب (الجهاديين الإسلاميين) أعداء محتملين أو مفترضين أو فعليين، وخاصة بعد حرب الخليج الثانية، وما ألحقته من تدمير هائل بالعراق دولة وشعباً وبيئة.
كل ذلك تم - ولا يزال - تحت شعارات تجفيف ينابيع الاستبداد والإرهاب، واستغراس الديمقراطية في إطار الفوضى الخلاقة و(الحرب العادلة).
في الحقيقة، لم تكن تلك إلا مجرد سيوف ابتزاز مُسلطة على الأنظمة القائمة المستتبعة من أجل انتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات منها؛ لتأمين أمن الكيان الإسرائيلي الغاصب والتمهيد - إذا اقتضى الأمر - لغزوها واحتلالها وإعادة تقسيمها، كما يحصل في العراق والسودان واليمن..، أو فرض الحماية الأمنية عليها لاستمرارها واستغراس قواعد عسكرية فيها، كما هو الحال في الخليج، في حال عدم الخضوع للإملاءات المقبلة من الخارج.
كل هذه التداعيات استدعت طرح الأسئلة من جديد حول العقلانية المأمولة، وحضَّت العديد من الباحثين والمفكرين، ولو أنهم غير منتظمين في رؤية استراتيجية متكام26لة، على بيان المقومات المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حالت دون إنجازها مشروعاً ثم استراتيجية. إلا أن التفكير في شأنها، بصورة جادة وبعيداً عن صخب الإيديولوجيات المتصارعة حولها، كان قد بدأ على نحو متوازن نسبياً في مطالع الثمانينيات وما بعد على قاعدة النقد المزدوج. ولقد تم ذلك لبيان أن النهضة أو العقلانية، لا يمكن أن تستقيم إذا ظلت أسيرة إشكالية المعاصرة والأصالة والانشراخ الذي يعتورهما.
وانفكاك غير المنخرطين في هذا الانشراخ لا يمكن أن يتم إلا بنقد حاسم لهذه الثنائية النهضوية بوصفها ثنائية عقيمة ومدمرة، بتعبير آخر الانتقال بالنقد من حيث هو نقد لهذا الخطاب أو ذاك إلى نقد كل الخطابات المنزلقة في هذا السجال. أقول ذلك لأن وعينا بالهوية والإسلام والماضي لا يمكن أن يتم من خلال نقد الحداثة والغرب فقط، كما أن وعينا بالحداثة لا ينبغي أن يتم من خلال نقد الهوية والتراث فقط أيضاً، وإنما وعينا لهاتين الحاجتين الماستين ينبغي أن يُحلَّل عبر نقدهما وإعادة النظر فيهما معاً، بما معناه إعادة بنائهما في وعينا انطلاقاً من منظور تاريخي اجتماعي.
ليصار إلى ذلك لا يعني التحررُ من النص المرجعي - بشقيه التراثي المحلي والغربي - إهمالَه، لا بل إعادة بناء العلاقة به انطلاقاً من مرجع آخر، ألا وهو الواقع الحي. بذلك تُصبح قراءة النص قراءة واقعية لا قراءة الواقع قراءة نصية أي من خلال النصوص. ومن شأن هذا النمط من القراءة أن لا يساعد المفكر على فهم مكنونات الواقع ومفاعيله جيداً دون وسائط مفارقة فقط، لا بل يُساعده على إعادة فهم النصوص نفسها؛ أي إعادة قراءتها بالحفاظ على تاريخيتها الخاصة، وفي ضوء معطيات الواقع. كل ذلك من أجل إعتاقها من عمليات التصنيم والتبشير والتبرير التي سار على منوالها معظم مفكرينا العرب على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم. وحسبنا التمعن في تجربة معظم التيارات الفكرية وإفرازاتها السياسية العربية المعاصرة، وفي واقع إخفاقها، حتى نصل إلى هذا الاستنتاج. لقد جرَّب الجميع أن يبني مشروعاً في غيبة جمهور حر، فاعل ومنتج، ولكن جاءت (النكسة) لتشي بمدى فصامية محاولته. إذن إذا لم تتقدم النخب المثقفة الحية نحو ردم الفجوات وتغطية الثغرات المتسعة بينها وبين المجتمع فستظل تراكم الهزائم تلو الهزائم والخيبات تلو الأخرى.
ليس من قبيل المصادفة حينما نرى أن الدول التي قامت، بالرغم من إرادة شعوبها ودون التعبير عنها لا كمجتمع مدني ولا حتى كجماعة مجردة، لا يمكن أن تعيش إلا من نفي هذه الجماعة وحدةً وإرادةً وكرامةً وثقافةً وتراثاً ومطامح وآمالاً تحررية وأمنية وقومية، وإنما أكثر من ذلك يتم تعويض الغياب الوجودي للدولة بتضخيم منقطع النظير للجهاز السلطوي الرقابي الأمني، وللجزء الأكثر بدائية فيه؛ جهاز القمع والقهر. بذلك يُصبح أمن الفساد وتناميه وحراسته هو الرابح والمواطن المحاصر بهدر طاقاته هو الخاسر.
إذا كانت الرهانات الأخيرة على السياسة الناعمة للإدارة الجديدة، بقيادة باراك حسين أوباما، كونه متميزاً بسواد جلدته وأصله الإسلامي، بأمل التعويض عن الإحباط الذي سببه سلفه، فقد جاءت هذه الرهانات الهشة لتكذبها وقائع الأحداث وتفضح وعوده المفخخة. أقول ذلك لأن الاستراتيجيات المحكومة بمؤسسات لا تتبدَّل بتبدل القناع.
من هنا لا أمل يضمن الخروج من المآزق التي تطحن المناطق المأزومة إلا بمواقف تُخطط، بالمقابل، لاستراتيجيات عادلة تحد من احتمالات تزايد تفجر الحروب على نحو أكثر خطورة ودماراً في العالم. وما بدأ يذر بقرنه اليوم من مؤشرات للسياسة الناعمة يشي بما نقول من تحضيرات لانشراخات مذهبية خطيرة في منطقتنا، إلى حد تحول فيه العدو الاستراتيجي الدخيل (إسرائيل) في المنطقة إلى حليف أساسي لأصحاب الاعتدال و(استراتيجية السلام الدائم) ضد عدو مفتعل (إيران). مما يُدخلنا في حروب عدمية لا تُحمد عقباها، لا بل قد تُجهز على آخر ما تبقى من استنهاض حضاري مشرق.
قد يعترض البعض على ما تقدمنا به من مآلات تشاؤمية، من خلال تسويق الحجج التي تقول: إن ما تمخضت عنه سياسات حرية السوق المفتوحة دون ضوابط، من تداعيات مالية كارثية، قد يكون درساً زلزالياً وكابحاً لكل عواقبها، واستئصالاً لكل أسبابها. لكن ما نراه في الأفق المنظور من إجراءات افتراضية للعلاج لا تنذر بالتقويم الناجع، والمحاسبات القانونية الصارمة لمن تسبَّبوا في إحداث هذه الأزمة المالية المعولمة. لأن ما يجري في تدفيع إرهاصاتها المدمرة يقع على عاتق الكثرة الكاثرة من البشر التي تكبدت، هي بالذات، نتائجها المشؤومة وغير معروف حتى الآن الآجال التي قد تستغرقها، اللهم إلا إذا اجترحت استراتيجيات جديدة، بمختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، غايتها وضع حدود منيعة لنزيف (الفوضى الخلاقة) السيئة الصيت، في إطار شراكة إنسانية عادلة قائمة على قاعدة التكافؤ. وهو الأمل المعقود على كل حكماء العالم، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وثقافاتهم وأجناسهم وأديانهم، للقيام بإرساء قواعده النظرية والإجرائية على نحو جاد. بذلك يُبعث التفاؤل في نفوس من ينشدونه وعقولهم للتخفيف من آلامهم وعذاباتهم وقهرهم وأسباب إفقارهم، والحد من المصير المشؤوم الذي يتهددهم.
لعل الحاجة من هذا المنظور تمس إلى رؤية جديدة للعالم، وإلى عقد جديد بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخر الداخلي والخارجي، وخاصة بينه وبين الطبيعة للخروج من مأزق ثنائية الذات والآخر الاحترابية على أساس اقتتال تصفوي: ديني أو عرقي، طائفي، ثقافوي معكوس؛ لأن العالم اليوم لم يعد يتحمَّل مخاطر التلوث البيئي والإبادة النووية والإرهاب المعمم، ولا المركنتيلية (الاتجارية) المتوحشة التي تغتني بصناعة الحروب والدمار والإفقار. كل هذه المظاهر التي تتهدد الجميع قد تطال مستقبل الإنسان ومصيره على هذا الكوكب.
خامساً - استنتاجات
بعد رصدنا المختصر لبعض المفاهيم الأساسية التي حكمت الفكر العربي الحديث والمعاصر الذي يراد له أن يكون عقلانياً تنويرياً، ألا يطرح علينا البحث عن مكامن تعثراته وانسداداته واستلابه وعجزه عن استنهاض العقل الذي يشتغل عليه؟ أقول ذلك لأن الحداثة التي استدخلناها وتوخينا أن تعيش بين ظهرانينا أثارت المزيد من البلبلة في التفسيرات والتأويلات، إلى الحد الذي فاقمت من ملابساتها بدلاً من أن تمزق الأردية الإيديولوجية المحايثة لمختلف مستوياتها ومفاعيلها في الطرف المتلقي لها والمحتك بها تحت راية التثاقف. بدليل أن السجالات المتضاربة حولها لا تنفك تتناسل وتتعدد، حتى باتت القراءات المذهبية الأحادية البعد في شأنها تتزاحم للنظر في كيفية صرفها في العالم العربي والإسلامي.
منها من رأت في الحداثة الوافدة تجليات عقلانية تنويرية تنتزعها من العصور الظلامية[(174)]. ومنها من أقرت بها، ولكن ندَّدت بالجانب الاستعماري العسكري والسياسي الذي رافقها، وتعاملت معها على نحو اختزالي من خلال تفضيل حداثة دولة على دولة أخرى، أو تيار فكري على تيار آخر[(175)]. ومنها من وجدت فيها، بعد (الاستقلالات الوطنية)، وجوداً استعمارياً سياسياً واقتصادياً. ومنها من توسمت فيها كلّ ذلك ما عدا مفاعيل الهيمنة والغلبة الكامنة في ثقافتها[(176)]. إلاّ أن بعضها انتظرت أطروحات هنتنغتون (صدام الحضارات) وأطروحات فوكوياما (نهاية التاريخ)، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراط المنظومة الاشتراكية، ثمَّ أحداث (11 أيلول/ سبتمبر - 2001)، فهبّت لاستعادة الموروث المكبوت على نحو عنفي في إهاب إسلامي بمدعاة أن المعركة مع الآخر الغربي هي حرب حضارية بامتياز، أو صليبية.
بناءً على ما تقدم تدافعت في ذهننا جملة مساءلات تتعلق بكيفيات تعاملنا مع هذه الحداثة المستجلبة، والمفاهيم التي حكمتها، وطريقة تسييد تجسداتها في آلة الدولة التحديثية، وأنماط إدراك رموزها وتوظيف مغازيها وموضوعاتها، وحقول اشتغالها بعد استيطانها، ثمَّ التساؤل عن ماهية المستوى الشرعي لصياغة المعارف حين تم إقحامها في فضاء ثقافي أو اجتماعي تاريخي معين، وتبريرها، فيما بعد في المتخيل ليصار إلى إكراه الناس الموسومين بـ (التقليديين) على الصمت، وذلك عبر اصطناع صورة (متخيلة) عن ذاتيتهم ليس في واقعهم المعيش، بل هيكلة الدولة بما يتناسب مع ترسيخ ثقافة المنتصر على ثقافة المنكسر المستلب، والمرغم على الخنوع حتى هدر فاعليته وقدرته على السيطرة على مصيره.
لا شك أن الحداثة السياسية المستدخلة قد تكون أفقاً ضرورياً يحطم أغلال الضيق لثقافة محلية ظلت محبوسة في تكرار فصمها عن عالم قد تغير، فتصبح الحداثة الوافدة، آنذاك، وسيلة لإدخال التنوع والنسبية. ولكنها في ظل علاقة غير متكافئة بين ثقافتين مختلفتين، تستحيل، بالنسبة إلى الثقافة الواقعة تحت الضغوط الخارجية[(177)] والتفكيك والتفتيت، إلى مجرد شعار أجوف.
وهنا لاتكون المثاقفة التحديثية عملية تفعيل وتواصل، بل عملية تسويغ سطحية لمصلحة سياسة الثقافة المهيمنة، ما دامت هذه الأخيرة تتخذ مصدراً وحيداً للمعنى والقيمة. من هنا نشأ التسريع لاستدعاء كلّ الحجج الممكنة من قبل الحداثيين العرب، مفادها: تأخر السكان، وجهلهم، وفقدانهم الحس المدني، ونزعتهم المحافظة الفطرية، وتعصبهم (للدين أو للتقاليد)، وقبليتهم وجهويتهم وفسيفسائية تركيبهم الطوائفي. كلّ هذه التوصيفات اعتبرت من هذه النخب (المستنيرة) خصائص ثابتة لكل مجتمع منحط، إن لم نقل (شرقي)؛ بغية تسويغ مصادرة حرية الرأي والتعبير والمساءلة لعامة الناس واحترام إرادتهم.
لقد كان الهاجس الأساسي إذن لهذه النخب الحداثية هو اللحاق بأسرع السبل بالنظام الغربي؛ لسد ثغرات التأخر المتراكم حيال أوربا التي نُظر إليها على أساس أنها المخبر السحري القادر على علاج المسائل المطروحة عليها. بذلك لم يعد نقل الإشكاليات الغربية إلى الوعي العربي مجرد الترسيمة لمكوِّنات أصول الفكر العربي الحديث المعاصر فحسب، وإنما المحدِّد شبه الكامل لرؤية هذه النخب للعالم. بموجب هذا التوجه سيصبح النموذج الغربي وبشكل دائم مستخدَماً مرجِعاً لتقويم كلّ المستويات وأشكال الوعي أو تبخيسها، والذي على أساسه سيتم الطمس أو الكشف عن وقائع الأشياء[(178)].
لذلك، لم يعد الحداثويون، الراغبون من دون توقفٍ شرعنةَ المحاكاة والنظام القائم، يهدفون إلى إنجاز إمكانات فعل، أو تثمير إرث، وإنما على العكس إقصاء كلّ ما يبدو لهم مدللاً على دونية ما. إلاّ أن تعويض هذه الدونية يعني الانفصال عن الحس المشترك للاصطفاف إلى جانب الدولة الحديثة. إن الصعوبة الكبرى، التي اعترضت هؤلاء الناشطين، تكمن في التناقض ما بين إرادتهم في التطابق مع إلهام مُقبل من الخارج وهمهم في الانطلاق من الحس المشترك والحس السليم.
إن هذا الاستلاب على الصعيد الفكري يحمل في طياته بذورتدمير بنى النظام التقليدي. ولقد جاءت القيم الجديدة المستدخلة عنوة لتزلزل وجود النظام السابق وشروطه ونظم إنتاجه، من دون أن تنتج بالمقابل تغيراً متوائماً على مستوى العلاقات الاجتماعية، ودون أن تنجب ميداناً مناسباً للخلق والإبداع المحليين، هذا فضلاً عن غياب العدالة والحرية. وهو السبب الذي جعل حركات المعارضة، للنخب الحداثوية في السلطة، تنخرط مضطرة في أحزاب سرية وبعضها نما خارج الأحزاب والبنى السياسية الثقافية لاستنادها، في الغالب، إلى القبلية والطائفية والإثنية، أو اعتمادها على حركات خلاصية أو دينية. كلّ هذه المؤشرات تشي بقوة عن تذمر جماعي، لكنها صُنفت بالجملة بالبربرية ضد الحضارة، لا بل متعاملة مع الأجنبي من قبل النخب التي تستأثر بمقاليد السلطة. وهذا سيظل يجري مادام هناك نظام سلطوي من شأنه أن يصادر قبلياً كلّ شيء غير مُفكر فيه، ومكبوت وغير مُعلن عنه، ويسد ويحظر ويُعيق المعرفة لدى الناس.
كما أن هذا الاستلاب سيمتد مادام ثمة شبكة معقدة وكثيفة من قنوات النقل الثقافي الحديث، ويُعمم ما دامت الحاجة إلى تدجين العصاة وترويضهم تستشري على شكل تبعية دائمة.
إذا كان الخطاب الحداثوي في موضوع آخر يردد صدى الخطاب الوافد، ولم ولن يكف عن إسقاط إخفاقات الحداثة على السكان؛ بذريعة أنهم بقية من بقايا الثقافة الموسومة بالتقليدية، فهذا يعني أنه لم يحاول وضع هذه الحداثة موضع المساءلة. وكذلك إن التعلق المبالغ فيه بأشكال التماهي التقليدي والمعيش على نحو واقعي ما هو إلاّ رد فعل يتناسب طرداً مع ما تؤول إليه الأمور من فقدان الذات نسبياً. وهو يُشير بمعنى من المعاني إلى البحث عن الهوية تجاه غياب الأجوبة المتوائمة التي تمكن من التكيف مع المتغيرات الاجتماعية التاريخية التي تعيشها المجتمعات في طريق النمو بشكل مأساوي.
وعلى عكس ما يسانده الداعون إلى العقلانية والعلموية، فإن كيفية استدخال هذه الحداثة ذاتها، هي التي تُلغم الأسس الأخلاقية والمادية للمجتمع العربي، وترسخ استمرار البنى التقليدية الموصوفة بالبدائية واللاعقلانية. وهذا يعود بالدقة إلى القرن التاسع عشر حين أرسيت معالم التحديث من قبل السلطة المركزية العثمانية، عبوراً بفريق محمد علي باشا حتى اليوم.
ابتداءً من هذا العصر، لم تكف كلّ هذه النخب، ولن تكف عن نسج الحجج التي تسوغ الإخفاق المتعاقب للحداثة المتمناة على غرار نموذج الحداثة الغربية؛ فتارة يعزى الإخفاق إلى التشبث بالتقاليد الموصوفة باللاعقلانية والمعادية للعلم، وطوراً يعزى إلى الدين بالذات، وعلى الأخص إلى الإسلام؛ بذريعة أن هذا الأخير بطبيعته وتكوينه يميل إلى الخلط الدائم ما بين الزمني والإلهي، أو يعزى إلى عبادة الكلمة وبلاغتها وإلى غياب الروح التاريخية، وفي النهاية إلى الصدمة النفسية الناجمة عن الهجمة الغربية حسب البعض. هذه المسوِّغات شجعت أنصار الثورة الشاملة على الإعلان بأن التحديث ليس ممكناً إلا إذا تخلى العرب عن ماضيهم وعن بحثهم عن هوية وهمية، وقبلوا بمعانقة الحداثة بصورة نهائية.
إن هذا السجال الدائم والمرسّخ للتنافر مابين العقل واللاعقل، وما بين العقلاني واللاعقلاني لا يعمل، في الواقع، إلا على التسويف من أجل تفادي، لا بل تأخير، المراجعة الضرورية الجذرية لكل هذا الفائض من الأفكار الجاهزة، بحيث صار الأمر: بقدر ما يستمر التمذهب العقدي لهذه الأفكار تتعمق القطيعة ما بين النظرية والممارسة، وما بين الواقع والوعي، حتى اختزلت العقلانية نتيجة هذه الكيفية إلى مجرد خطاب عقيم يسوّغ الأفعال اللاعقلانية للحداثويين. وهذا لأن المعرفة التي يتصرف فيها مجتمع ما، ليس بمقدورها أن تكون ثمرة مجرد تفكير مجاني، وإنما ثمرة نضال مستمر حيث تتعارض فيه القوى الاجتماعية المتطلعة إلى بناء نوع من الإجماع من أجل أن تسيطر على زمنها على نحو أفضل، وتتحمل هي بالذات مسؤولياتها بما يساعدها على تفتح حساسياتها الإنسانية في فضاء حر وعادل.
لعل هذا ما يفسر اليوم، ضمن هذه المعطيات، أن التماهي الوطني يجري أكثر مع مكوِّنات المجتمع الأهلي بدلاً من الدولة؛ لكون هذه الأخيرة برزت بالأحرى، أداةً للقسر والقمع. بحيث صار في كل مكان تُطرح مسألة الهوية، يعود الوعي العربي إلى الماضي لينهل منه الإلهام والسند. لذلك باتت الدولة، ليست الثقة محجوبة عنها فحسب، وإنما مرفوضة بلا توقف؛ لأنها أبعد من أن تكون مرجعاً وسنداً للوحدة، لا بل أفرزت، ولا تزال، هي ذاتها مسبِّبات لتفاقم التوتر على مستوى الحياة والوعي وتمزق المجتمع واحتمالات الانفجار.
إن (الدولة الوطنية) التي تريد لنفسها أن تكون حداثية قوية، لا تتغذى هنا على فلسفة عقلانية منتجة، وإنما على العكس تعيش من تعميم مشاعر الخوف والإحباط إلى حد بات المجتمع الأهلي رهين السلاح الغذائي الذي تُشهره سياسة المركز، والدولة العصرية مشغولة في الأطراف، باستقدام المحاسيب إلى طرفها للاستثراء وتعزيز سلطتها من جهة، ثمّ تضخيم أجهزتها الأمنية لتوسيع آلات الرقابة والعقاب وتسليطها على المجتمع وتطفيل أفراده على اختلاف أطيافه من جهة أخرى.
إذن، إن الطلاق من جهة ما بين المجتمع التقليدي القائم على جماعة المعتقد والدولة المفروضة باعتبارها أداة غريبة وقامعة من جهة أخرى، هو الذي سبب تفكيك علاقات السلطات والشرعية والسيادة، وحال بذلك دون تأسيس لأي إجماع اجتماعي مدني يستطيع أن يحدث صدى، بنوع من الأنواع، مناظراً للدولة الوطنية الغربية، وهي النموذج المقلِّد بلا جدوى كما أسلفنا.
في سياق كهذا من الفصام بين الدولة والمجتمع لن تكف السياسة عن مفاقمته بفعل العنف المعلن أو الناعم، وسوف يكون هذا الأخير من الآن فصاعداً مصدراً وحيداً للسلطة، ثمّ سوف تتلاقى الدولة والجامع والكنيسة. لكن ستظهر مقابلها فئات جديدة تزعم الهيمنة في (مملكة الحقيقة) تحت رايات إيديولوجية مختلفة؛ بعضها من اليسار وبعضها الآخر من اليمين؛ الأول تحت راية (المالكة بالمطلق للحقيقة العقلانية والعلمية) والثاني تحت راية (الحاكمية لله).
ضمن هذا السياق تتحول بسهولة الكونية الإنسانية والقومية - الليبرالية أو الاشتراكية - إلى عقائد مصنَّمة لا تخدم إلاّ بإسدال ستار مكثف على الصراعات من أجل السلطة، أو من أجل مصالح أقل كبراً: المركنتيلية (الاتجارية) الوحشية. والانقلابات التي ستخرج عنها لا تهتم بأي مثال. وهي أبعد ما تكون عن التصميم على إحياء الذكريات لانعتاق عابر. فسوف تجتهد لتأكيد أنها السلطة الوحيدة التي تملك المشروعية. وهذه الأخيرة ليست شيئاً آخر إلاّ العنف؛ لأن جوهر السلطة في أغلب الأحيان هو العداوة (المسماة النجاح)، والإخضاع والتخويف (المسميان الانضباط). بذلك يتحول التقديس إلى سلسلة من الإجراءات والمعرفة إلى مجموعة من الوصفات، والحكومة إلى نظام من التهديد الدائم والإخلال بالتوازن، والإيديولوجيات الموسومة بالفلسفية أو العلمية إلى مجموعة من المنطوقات المكرورة المرهوبة، والأخلاق إلى سور من المحظورات، والعلم إلى مجرد سلعة للاستهلاك. المسار الذي يجعل ثروات البلاد والبشر أكثر عرضة للاستباحة من القوى الخارجية، وأكثر قابليةً من ذي قبل لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.
فالسؤال اليوم هل صار من مصلحة معظم السلطات العربية الحاكمة (التحديثية) والنخبة العاملة في ظلها، المستأثرة بمقاليد البلاد والعباد، أن تُريد تأبيد مقدور القول الشائع (كما تكونون يُولى عليكم) ليُبرَّر القول (كما يُولى عليكم) - بالوكالة متوسلين عقلانية التبشير لتجميد حراك الداخل - (يجب أن تكونوا)؟

المقدمة
في الحقيقة حينما يتبادر إلى ذهن الباحث التطرق إلى العقلانية في الفكر العربي المعاصر، يجد نفسه في مواجهة موضوع إشكالي شديد التعقيد والالتباس؛ نظراً لِما أُثير من حوله من سجالات وصراعات فكرية. أقول هذا لأن معظم المفكرين العرب؛ المعرِّفين والمبشرين بالمذاهب الفكرية والعلمية الغربية،باتوا لا يقرّون بوجود العقل والعقلانية في الثقافات المحلية إلاّ بمقدار ما يكون لها أمثلة تحاكيها بالتمام والكمال في التراث الغربي، وإلاّ حُكم عليها باللاعقلانية لطغيان العقل البياني على العقل البرهاني، وإلاّ زجَّ هذا التراث في مزبلة التاريخ لكونه يُشكّل عقبة كأداء أمام مسار عجلة التطور والتقدم. وذلك ابتداء مما اصطلح على تسميته بـ (عصر النهضة والإصلاح)، وانتهاء بلبوس حداثة مسبقة الصنع ومحكومة بمنطق النظام الرسمي الغربي المؤسس وشروطه وقوانينه، وما يحمله من صور منمطة عن الشعوب المختلفة عن معاييره ومقاييسه.
بموجب هذا المنظور حُوِّلت الثقافة إلى مجرد كم ومرادفة للقراءة والكتابة، ومعرفتنا بها أصبحت، من خلال الأفكار التي نرسِّخها، هائمة فوق الواقع. أما الواقع المعيش فظل يحتاج إلى عقل فعّال، يغوص فيه بالتحليل والتشخيص للأهواء الذاتية والقوانين الموضوعية التي تحكمه.
إن التشبث بعادات ذهنية مُفوتة يُعطل وظيفة العقل ويجعله أسير الترديد والتلقي لنتائج المنجزات المادية المنقولة عن الآخر، والتعاملِ مع المذاهب والأفكار على أنها أدوات للاستهلاك والتباهي الفارغ بها، لا محفزات تحضُّنا على مقاربة صيرورة الواقع والحراثة فيه لصنع المفاهيم المنتجة والمستشرفة لما يمكن إنجازه في المستقبل. فكانت الضريبة الكبرى هي إغماض العين عمّا يدور تحت أقدام نجوم الفكر والعلم من سلب للثروات وقهر للنفوس وتحطيم الذاكرة والخيال، وتكسير للبنى الاجتماعية والاقتصادية وقضم الأوطان، بفعل ضغوطات الخارج والمُستتبعين له في الداخل وتدخلاتهما. كما بات عالم الفكر نقاباً يحجب تحته، بوعي أو بلا وعي، نهب الواقع واستباحته والتواطؤ الضمني بين أساطين الفكر والعلم وأصحاب السلطات القائمة، حتى تحولت مجتمعاتنا، في إطار الدول المستحدثة، إلى دول مرتهنة كلّ منها، بعلومها وفكرها واقتصادها وسياستها وثقافتها، لتوجيهات الدول المهيمنة وإملاءاتها، ومسرحاً للتلاعب على التناقضات الإيديولوجية النازفة بالتنابذ الاحترابي في مجتمعاتها.
بصريح العبارة، أقول: إن العقلانية ليست مذهباً أو عقيدة نعتنقها ولا آلات نستهلكها، وإنما هي إنجازات علمية وفكرية استنهاضية، في مختلف الميادين، تصنع مفاهيمها بفعل تفاعلها مع واقعها وفي سياق تاريخي واجتماعي محدد.
وإلاّ كيف نفسر تناسل المساءلات المصعوقة بالدهشات والمفاجآت وتناميها بعد هزيمة (5/6/1967)، والتي جاءت لتعبِّر عن نفسها على التوالي، بالأسئلة الآتية: لماذا، بعد كلّ مكاسب النهضة والإصلاح والتنوير ثم الثورة، نُفجع بالإخفاقات والهزائم، ونكتوي بنيران الاستبداد والفساد والإفساد والتفقير المُمنهج؟ لماذا، بعد كلّ استحقاقات النظم الجمهورية والأحزاب التقدمية، انتهينا إلى الملكيات؛ بتوريث الأبناء والأحفاد...؟ لماذا، بعد كلّ المساعي المبذولة من أجل الحرية، نرانا مصدومين بالمفاجآت والاصطدام بعودة أنماط أصولية بحلل تكفيرية عنفية تدميرية؟ لماذا، بعد كلّ الطوفان الكلامي عن الديمقراطية، تشتد الحاجة اليوم إلى تثبيت الديكتاتورية بذريعة أن المد الأصولي يجتاح الساحة؟ وكيف، بعد كلّ الكم الهائل من الخطابات المستفيضة حول العقلانية والعلمانية، وعن الحداثة وما بعد الحداثة، نجد ماضينا يُطوّق الخناق علينا ويتربص بنا ليثأر منا؟ ولماذا، بعد كلّ النضالات القومية المُخاضة، والطروحات الإصلاحية الإسلامية، نحصد كلّ أسباب التفكيك والتفتيت، لا بل كلّ مخاطر التذرير والتدمير؟ وكيف نفسر أن بعض الناشطين الأصوليين من الدين نفسه؛ الداعين أنهم التجسيد المطلق لحاكمية الله، لا يجيدون غير الاقتتال والتهم التصفوية فيما بينهم؟ ولماذا انتهى قسم كبير من النخب اليسارية، المحسوبة، سابقاً، على القوى التقدمية، بعد أفول الاتحاد السوفياتي، إلى الاحتفاء بالليبرالية الجديدة والتهليل بقدوم العولمة بشعارها (النظام الدولي الجديد)، بذريعة أنه نذير بتجريف منابع الديكتاتوريات أو تجفيفها واستتباب الديمقراطيات على صعيد المعمورة؟ وكيف نفسر اندفاع بعضهم - للتخلص من الأوضاع المأزومة - إلى مد يد العون إلى المستعمِرين الجدد، على غرار معظم رواد النهضة والإصلاح حينما كان المستعمرون القدماء على الأبواب يمارسون ضغوطاتهم وتدخلاتهم السافرة في شؤون البلاد؛ لهيكلة دول وإعلان تأسيسها بعد اتفاقية سايكس بيكو تحت الاحتلال أو الانتداب؟ ثمّ ألم تؤدِّ اليوم هشاشة سيادات بعض الدول إلى إفساح في المجال لسلطاتها كي تعرض الأوطان للمزاد تمهيداً لعودة الاستعمار من جديد وتوطين قواعده العسكرية؛ لتحمي نفسها من غضب شعوبها أو من دول الجوار، لا من الكيان الإسرائيلي الغاصب، فضلاً عن الانتهاء بالتطبيع العلني أو السّري مع هذا الأخير، بعد الحديث المكرور عن استقلالاتنا وفكّ الارتباط مع الاستعمار؟
بعد كلّ هذه الأسئلة سنرى كيفية تموضع العقلانية في سياق قرنين، تقريباً، من التحديث من قبل المفكرين والمثقفين في العالم العربي والإسلامي، وكيفية انعكاساتها في خطابات هؤلاء وسجالاتهم وانتقاداتهم، ثمّ ما هي المحاجّات والمسوغات والتبريرات والمقاربات التي تقدم بها بعضهم لتعليل الإخفاقات والمعوقات التي لاقتها العقلانية لحفظ ماء وجهها. ثمّ سنرى، في الوقت نفسه، كيف باتت العودة إلى التراث أو النهضة محور اختبار تمثلاتها وتجلياتها ثمّ غدرها أو خيانتها بالردة، كما يقول بعضهم[(94)]، أو لبيان غيابها أو عدم تحققها بالكيفية المنشودة والمأمولة منها؟ هذا ما سنقاربه تباعاً بقدر الإمكان في بحثنا.

في القسم الأول من الكتاب دراسة للدكتور غريغوار مرشو يبين فيها أن معظم المفكرين الحداثيين العرب ينطلقون من أن نشأة العقلانية بدأت مع اصطدام العرب بالغزو الأوربي لبلادهم، وتشكل الفكر السياسي الإصلاحي في مشروع النهضة العربية، وصمودها التاريخي مع بدايات القرن التاسع عشر، ينتقد المؤلف مقولات أولئك الحداثيين ويرى أنهم كانوا مستلبين للغرب، كما ينتقد أولئك الذين يحاولون استعادة النموذج السلفي والتراثي ليكون بديلاً عن الغربي الوافد، وإسقاطه على نحو سلبي تهميشي حيناً وتلفيقي حيناً آخر دون إبداع مثمر، يرد على النموذج الغربي.
كما بين أن العلمانية لا يمكنها أن تكون حلاً ناجزاً دون استنطاقها ووضعها موضع المساءلة أو التحجيم، فهي تؤدي إلى قطيعة مع الثقافة المحلية والتراث، وهو ما بينها على أنها إعلان حرب على الأديان.
كما عالج قضية إقحام العقلانية بوصفها مرادفة للديمقراطية، ووضح مخاطر إسقاطها على الإسلام، كما درس أثر الإيديولوجيا الأحادية على تفتيت المجتمع ونشوء حرب إيديولوجيات وخاصة مع ظهور الإيديولوجيا القومية وما تبعها من سجالات، وأخيراً وضح دور العقل في الخلاص.
في القسم الثاني من الكتاب يدرس البروفسور خوان أنطونيو باتشيكو معنى كلمة العقل والعقلانية في اللغة، وكيف تشكلت دلالتها، وكيف نظر فلاسفة المسلمين إلى موضوع العقل، وما الذي توصلوا إليه،وقارن ذلك بالنتاج الفلسفي الغربي، الذي قطع أشواطاً وتقدم في اعتماد العقل لتفسير الظواهر العلمية والإنسانية.
ثم عرج على أعمال المفكرين العرب الذين تأثروا بالفكر العربي الحديث منذ عصر النهضة ،ودرس إنتاجهم الفكري، وحلل مقولاتهم وبين المكانة التي أحتلها من العقل في دراستهم وكيف عولوا على استعادة نهوضهم الحضاري بتبنيهم لمناهج الفكر الغربي ومنطلقاته في الحداثة والتقدم.