قبل نحو أربع سنوات، وُلدت ابنتي في العاصمة الألمانية برلين. أمّها ألمانية وأبوها، أنا، لاجئ سوري في ألمانيا، نصفه كردي، ونصفه الآخر عربي. وبعد معاناتنا مع اختيار الاسم، قفزت إلى الواجهة "مشكلة" اللغة؛ ما اللغة التي يجب علينا أن نحكي بها مع طفلتنا؟
يقولون إنّ اللغة هوية، ويقول محمود درويش "هويتي لغتي. أنا... وأنا/ أنا لغتي. أنا المنفيُّ في لغتي"، وتقول صديقتي رشا حلوة: "اللغة ثقافة وهوية". لكن ماذا عن أطفالنا الذين يولدون في هذه البلاد الأوروبية الباردة؟ ماذا عن هوياتهم، وعن اللغات التي سيكبرون بها، بعيداً عن لغات آبائهم وأمهاتهم؟ لكن، ما المهم في الهوية؟ أليست الهوية تحصر المرء في أطر ضيقة؟ أسئلة كثيرة لا إجابات واضحة لها عندي.
معضلة الهوية
كتبتُ في مرةٍ سابقة أنّ ابنتي "ستكبر، وستواجه مشكلة الهوية، مثلما يفعل كلّ الذين يولدون من أبوَين قادمَين من مكانين مختلفين، أو مثل أولئك الذين يولدون في مكان، ويكبرون في آخر، لكنها أيضاً ستكبر، وفي حوزتها لغات متعدّدة، وستكون قادرةً على الولوج إلى أماكن لا يستطيع أحاديو اللغة الوصول إليها".
أفكر كثيراً في علاقتي مع ابنتي، ومع هويتها. كيف ستنظر إليّ؟ وكيف ستتعرّف إلى أبيها. أحكي معها بالكردية، وأقرأ لها كتباً بالعربية، لكنها تجيبني باللغة الألمانية، لغة أمها، ولغة المحيط. أقول لنفسي إنّ معظم ما كتبتُ، وصنعت في حياتي، كان بالعربية، وإن كبرتْ ولم تتعلّم العربية، فلن تعرف شيئاً عن والدها، سوى القليل الذي تُرجِم، وإن كبرتْ ولم تتعلّم الكردية، فلن تعرف مشاعر والدها الأولى، ولن تعرف كيف كبُر، ولن تعرف الأغنيات والرقصات الكردية، وستُقطَع صلتها بتاريخ والدها الكردي.
(ملاحظة جانبية: في روضة الأطفال، تعلّمت ابنتي أغنيةً باللغة السواحيلية، صارت أغنية ابنتي، وأغنيتنا المفضّلة. تقول الأغنية: "سيما ما كا/ سيما ما كا/ روكا روكا روكا/ سيما ما كا/ تيمبيا تيمبيا/ روكا روكا روكا/ سيما ما كا".
أحكي مع أصدقائي ومعارفي ممن يفكرون بالأسئلة نفسها التي تدور في ذهني. بعضهم قالوا لي إنهم لن يعلّموا أولادهم أي عربية؛ يريدون قطيعةً كاملةً مع تاريخهم وبلادهم، وبعضهم يريد أن يتم التواصل معها، ولو عن طريق اللغة. تقول لي رشا، التي تقيم في هولندا، على لسان زوجها الإيراني سهند صاحبديفاني، إنّ اللغة الفارسية، هي الرابط الوحيد والأساسي الذي يربطه بإيران، البلد الذي تُمنع عليه زيارته، مثلما اللغة العربية هي رابط رشا الأساسي بفلسطين، وبتاريخها، وعائلتها.
تشاركني رشا خوفي من أن يكبر أولادنا، وهي أمٌّ لابنتين، من دون أن يستطيعوا قراءة نصوص أهلهم، وقصصهم، ومقالاتهم. "كيف ستعرفان أمّهما: من أين جاءت؟ وكيف تفكّر؟ وكيف تعبّر عن نفسها، من دون أن تعرفا القراءة والكتابة بالعربية؟ لذلك، فاللغة العربية هي عنصر أساسي في علاقتي مع ابنتيّ"، تقول رشا.
كيف نعلّم أبناءنا وبناتنا لغات بلادنا؟
قد يبدو السؤال سهلاً، لكنه أصعب من المتوقع. لا مراكز تعليمية للّغة العربية، غير المراكز الدينية، مع استثناءاتٍ قليلة. ففي برلين، لا أعرف إلّا مدرسة كلمن التي تعتمد مناهج غير دينية (ربّما توجد مراكز أخرى، لكنّني لا أعرفها). أرسل ابنتي إلى هناك مرةً في الأسبوع، لتتعلّم اللغة العربية. تلعب هناك مع أطفال من عائلات تشبهنا، أبٌّ أو أمٌ عربية، وأبٌّ أو أمٌّ ألمانية، ويحكون في البيت على الأقل، لغتَين.
لكن عدم وجود المدارس، ليس العائق الوحيد. إحدى صديقاتي كانت تخاف من أن تفقد التواصل مع ابنتها، وهي لاجئة حديثة في ألمانيا، لذا تعلّمت الألمانية، وصارت تحكي مع ابنتها ذات السنوات الست، التي تعلّمت اللغة الجديدة بسرعة كبيرة، بالألمانية. صديقة أخرى قالت إنّ طريقتها الوحيدة لتعلّم اللغة الألمانية، هي الحديث مع أولادها، فلا اختلاط كبيراً لها مع الألمان، واللغة الألمانية، سوى في الأماكن العامة، وهذه لا تعلّم اللغة بشكل كبير. تريد أن تتقن اللغة، لذا صارت تحكي مع أولادها بالألمانية، ونسيت العربية.
هذه ليست "معضلتنا" وحدنا، وهي ليست "شيئاً" حديثاً معاصراً. الأتراك الذين يعيشون في ألمانيا، والمغاربة في هولندا، والجزائريون في فرنسا، قد خبِروا هذا قبلنا. لعائلتنا أصدقاء، عرفناهم لأنّ ابنتهم تذهب إلى روضة الأطفال نفسها التي تذهب إليها ابنتي. الأم تركية، والأب كوري جنوبي، ووُلد الاثنان وكبرا هنا في ألمانيا. الأم تحكي مع أطفالها بالتركية، والأب يحكي معهم بالكورية، ويحكون مع بعضهم البعض بالألمانية.
في روضة الأطفال أيضاً عائلة مميزة، الأم ألمانية، والأب من جزيرة أروبا التابعة للتاج الملكي الهولندي. الأب يحكي مع أولاده بالإسبانية والهولندية، والأم بالألمانية.
تواجه هذه العائلات الأسئلة نفسها التي تواجهني، أنا ورشا: كيف سيتواصل أطفالنا مع عائلاتنا التي أتينا منها؟ ليس هذا فحسب، كتب الأطفال المزدوجة اللغة (العربية، أو الكردية، مع الألمانية مثلاً)، هي كتب قليلة جداً، ولا مراكز تعليمية، ولا تجمعات، وعائلاتنا بعيدة عنّا، فلا تتواصل يومياً مع اللغة.
وهل حقاً اللغة مهمّة؟
أحبّ اللغات، وأحكي أربعاً منها، وأتعلّم الخامسة، وأفهم بعض الكلمات من لغات أخرى. أعتقد أنّ اللغة أداة عظيمة للتواصل بين البشر، وكلّما عرف أحدنا لغاتٍ أكثر، كلّما ازداد غنىً في حياته؛ غنى معرفة العالم، والتواصل مع البشر المختلفين. لا أهمية لإتقان اللغة بشكل أفضل من أهلها، فالقدرة على التواصل مع أصحاب هذه اللغة تكفي.
أريد أن تتعلّم ابنتي لغاتٍ كثيرة، وأن تعرف العربية، حتى تعرف شيئاً عن أبيها، وعن عائلة جدّتها العراقية، وأريدها أن تتعلّم الكردية حتى تعرف تاريخ الأكراد، وثقافتهم العظيمة، ولتعرف شيئاً عن عائلة جدّها الكردي السوري. أريدها أن تحكي بالألمانية، لغة أمها، وموطنها حيث وُلدت، وأريدها أن تتكلّم الإنكليزية كي تُفتح لها أبواب العالم، وأريدها أن تقرأ بالإسبانية كي تصل إلى أقاصي الأرض، وأريدها أن تفهم الفارسية كي تستمتع بسماع شعرٍ عذبٍ، وأريدها أن تعرف الصينية، واليابانية، والروسية، وكلّ ما تستطيع من لغات. إنّ كان للعالم أبواب، فاللغة باب العالم الكبير.
هذا لا يعني أنّ اللغة هي الأكثر أهميةً. الحب، والعطف، والإيمان بقيم الكرامة والحرية والعدالة، التي يستحقها الناس جميعاً أهم، لكنّ اللغة باب الوصول إلى قلوب الناس، فيا ابنتي إن قرأتِ هذه الكلمات يوماً ما، صدفةً، أريدكِ أن تعرفي أنّ الناس سواسية، مهما اختلفت لغاتهم، وخلفياتهم، وألوانهم، وأنّ اللغات كلّها جميلة، مهما اختلف الناطقون/ ات بها، ولا تصدّقي من يقول يوماً، إنّ هذه اللغة أفضل من تلك.
أخيراً، أعود مرةً أخرى إلى قصيدة العربي الفلسطيني محمود درويش: "ليس للكردي إلّا الريح"، والتي يخاطب فيها صديقه الكاتب الكردي سليم بركات:
باللغة انتصرتَ على الهُويةِ
قلتُ للكردي، باللغة انتقمتَ
من الغياب.
فقال: لن أَمضي إلى الصحراء.
قلتُ: ولا أنا...
ونظرتُ نحو الريح:
-عِمت مساءً.
-عمتَ مساءً!