تشير إحصاءات الحرب على غزة إلى مقتل نحو أربعة آلاف طفل من بين عشرة آلاف قتيل، بمعدل يومي نحو 400 طفل ما بين قتيل وجريح. ما يعني أن نصف عدد الضحايا هم أطفال لم يتخذوا قرار الحرب، ولم يحملوا سلاحاً ضد أحد. وكان من حقهم أن يعيشوا ويغنوا ويلعبوا الكرة في الأزقة.
فهل حقاً "السلام حق لكل الأطفال" كما تقول المسؤولة الأممية؟ الأرقام المعلنة تخبرنا أن العالم يعيش لحظة مأساوية عنيفة، أدت إلى وقوع أكثر من 30 مليون طفل ضحايا الحروب والقتال في أفغانستان ومالي واليمن والسودان وغيرها. ولا يقتصر الأمر على قتلهم بل يشمل أيضاً تجنيدهم وحرمانهم من حقهم في التعليم والخدمات الصحية والاختطاف والاغتصاب والإساءة الجنسية.
ومنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، تصدر أطفال غزة "السوشيال ميديا" من بين أكثر من 30 نزاعاً عالمياً، لأن الحروب الآن متفاوتة في حظوظها من التلفزة، ولأن الصراع معقد وطويل الأجل، وينطوي على سرديات متناقضة تثير شهية الإعلام العالمي. فالطفل الأفغاني ـ مثلاً ـ سيظل موته الحزين مفتقراً إلى الكاميرا، وللقصة التي تُحكى.
حتى من بين آلاف الأطفال الضحايا في غزة، لن تستطيع الكاميرا أن تحدق فيهم جميعاً في الوقت نفسه، ولن تقدر قلة من الصحافيين أن تنقل لنا قصصهم جميعاً. فطبيعة الكاميرا هي التجزيء والتبئير، أي التركيز على تفصيلة صغيرة جداً من مشهد بالغ الفداحة، مثل صورة طفل تلاشت معالمه تحت الأنقاض لكنه ما زال ممسكاً بدُميته أو بالونة حمراء. بينما ما يقع خارج حدود الكاميرا كأنه غير موجود، أو كأنه لم يقع. لكن التبئير على طفل معين، يصبح نيابة عن آلاف الغائبين من أقرانه خارج الكادر.
في الصراع المتكرر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، استبقت الذاكرة صور معينة تم تثبيتها وتخليدها، أشهرها صورة الصبي فارس عودة (1985 ـ 2000) الذي وقف بشجاعة نادرة أمام دبابة إسرائيلية وألقى عليها الحجارة. حاولت أسرة فارس منعه لكنه شارك في الانتفاضة وتصدرت صورته تلك وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، لكنه لقي مصرعه برصاصة، واللافت أن عودة كان يتحاشى الكاميرات حتى لا يعلم والداه بما يفعله. لكن المصور لوران ريبورز من وكالة أسوشيتد برس، التقطه وثبته.
انحنى عودة كي يلتقط حجراً فأصابوه بطلقة في رقبته، وظل ينزف قرابة ساعة إلى أن تمكن الإسعاف من الوصول إليه، وشارك عشرات الآلاف في جنازته.
في سبتمبر عام 2000، إبان انتفاضة الأقصى، التقطت عدسة المصور الفرنسي شارل إندرلان من قناة فرنسا 2 مشهد احتماء جمال الدرة وولده محمد خلف برميل إسمنتي، بسبب إطلاق النار من الجنود الإسرائيليين وعرضت اللقطة التي استمرت لأكثر من دقيقة، حيث احتماء الأب وابنه ببعضهما البعض، ونحيب الصبي، وإشارة الأب لمطلقي النيران بالتوقف، وسط وابل من النيران، وللأسف قُتل محمد وشُيع في جنازة شعبية ومجّده الشعراء في قصائد.
شهدت الحرب الدائرة منذ السابع من تشرين الأول العديد من اللقطات الخاصة بأطفال جميعها أيقونية، أشهرها الخاصة باستشهاد أفراد عائلة المراسل وائل الدحدوح منهم ابنه وابنته، وجملته الشهيرة "ينتقمون منا في أولادنا. معلش" وانتشرت أغنية من وحي كلمة "معلش".
أيضاً والدة الطفل يوسف ـ سبع سنوات ـ وهي تبحث عنه وتقول: "شعره كيرلي وأبيضاني وحلو".
ففي هذه الجولة من الصراع، اتسع حضور الأطفال الأيقونات، لسببين: سقوط الآلاف منهم للأسف، وكذلك الحضور اللافت للسوشيل ميديا العالمية عن أي حرب سابقة.
بحسب فرويد، يتسم وعي الإنسان بالازدواجية إزاء الموت، فهو مبدئياً يدرك أنه النهاية التي لا بد منها، وفي الوقت نفسه يتجاهله ويعمل بلا هوادة على إنكاره، حتى تصوره لعالم أخروي سعيد يخلو من الآلام، يندرج ضمن هذا الإنكار، ليكرس الوعي بالخلود، ومن ثم لا يصبح الموت نهاية، بل مجرد انتقال إلى ما هو أسمى وأجمل.
وإذا كان هذا الوعي يخص الكبار غالباً، ويتخذ في فلسطين صبغة إسلامية تتسمى بمرتبة الاستشهاد، فاللافت أن الأطفال هناك يتحدثون عمن يفقدون من آبائهم وأمهاتهم، بالقناعة ذاتها، وعدم خشية الموت. فالطفل الفلسطيني لا يفكر مثل غيره من أطفال العالم بحقه في اللعب والأمان، وإنما هو يؤمن بالشهادة ويسعى إليها.
ربما مرد ذلك ثقافياً، ليس فقط إلى التلقين الديني وقوة المقاومة ذات الصبغة الإسلامية، بل لأن الطفل يولد وسط الحرب والحصار والاغتيال الذي لا يفرق بين أحد، بل يطاول الصغار والنساء والعجائز قبل الشباب. وما دام الموت خبزاً يومياً فلا بد من قبوله، والتسامي عليه بمفهوم الشهادة.
كأن الطفل الفلسطيني يخبر العالم كله: نحن أحرار بالموت أكثر مما أنتم أحرار في الحياة.
من الجوانب المعقدة في الصراع، أنها حرب بين جيش نظامي مدجج بأعتى الأسلحة و"شعب" شبه أعزل، لذلك يسقط آلاف الأطفال ضحايا من جانب واحد فقط، وهو ما يدفع الاحتلال إلى ترديد سلسلة من التبريرات والأكاذيب، مثل القول بأن حماس تختبئ وسط المدنيين أو تتخذهم دروعاً، أو أنهم لم يمتلثوا لأوامر الإخلاء، وفي حالات نادرة كانت إسرائيل تعتذر عن خطأ قتل طفل ما، أو تتهم قوات المقاومة بأنها قتلته بالخطأ، كي تتنصل من المسؤولية.
هذه المسألة مربكة جداً وناسفة للصورة "الأخلاقية" التي يحاول جيش الاحتلال تصديرها عن نفسه للعالم الغربي، لأن الغرب مهما انحاز لمواقف إسرائيل لن يستطيع تبرير "قتل الأطفال"، بالتالي تحولت هذه الصور إلى أيقونات كاشفة لزيف أخلاقيات جيش الاحتلال، ودالة إلى حرب الإبادة، وكانت دافعاً مهماً وراء زيادة النشطاء في السوشيال ميديا المتعاطفين مع أطفال غزة، قيام تظاهرات يشارك فيها الآلاف في مختلف العواصم الغربية.
لأن الصورة الرسمية التي يروّجها الاحتلال وزعماء الغرب والخاصة بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس ضد إرهاب حماس، تسقط تلقائياً مع رؤية جثث الأطفال الرضع.
ثمة شيء عاطفي مؤثر في رؤية الأطفال ضحايا الحروب، والكوارث عموماً، لأن قتل جندي ـ على فظاعته ـ قد يبدو منطقياً، وهو سلب للروح، بينما قتل طفل ليس منطقياً، وليس سلباً للروح فقط، بل هو سلب للمستقبل. يُلغي موتهم المبكر جداً أي فرصة لهم كي يعيشوا ويكبروا.
وفي كثير من القصص (الديني والأسطوري) تتمثل قمة الشر في قتل الأطفال، وكأنه إصرار على محو الحياة بكاملها، حدث هذا في قصة فرعون، وفي قصة هيرودس، والغريب أنه في العهد القديم آيات تحرض على قتل الأطفال والنساء! فكيف يستقيم ذلك؟
في تفسير قتل الحكام للصغار يكون الدافع خوفهم من ظهور "المخلص" ومن يسلبهم ملكهم، أما حث الكتاب المقدس على قتلهم، فيمكن تفسيره بأنهم يرثون شر آبائهم ويكونون على صورتهم: "وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما" (تث 20: 10 - 16).
في الحالتين يتطلب الأمر أولاً تصنيف الآباء بوصفهم "أشراراً" (هم الآخرون البرابرة) لتسويغ قتل أطفالهم، وحماية المستقبل منهم، سواء مستقبل الحاكم، أو شعب الله المختار.
وتعطينا قصة أصحاب الأخدود في مصادرها الإسلامية، شكلاً آخر للصراع بين الملك والطفل، فرغم انتصار الملك وتحقق رغبته بقتل الطفل المؤمن، إلا أن هذا القتل (الاستشهاد) كان سبباً في إيمان الجميع بالله. أي أن نيل الطفل للشهادة ضرورة لا مفر منها لإيصال قضيته.
بالتالي لا يمكن فهم قتل الأطفال في الصراع الدائر الآن، دون العودة إلى تأويلات القصص التوراتية والإسلامية، فالأولى تبيح قتل الأطفال لإنجاز "مستقبل خال من الآخر الشرير"، والثانية تُعلي من قيمة تقديم الأطفال "شهداء".
الأولى تركز على جدارتها وحدها بالحياة بوصفها شعب الله الأسمى (وصف بعض المسؤولين في إسرائيل الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية) والثانية تركز على جدارتها بالشهادة في سبيل الله.