تخطي إلى المحتوى
إضاءات جديدة على مالك بن نبيّ إضاءات جديدة على مالك بن نبيّ > إضاءات جديدة على مالك بن نبيّ

إضاءات جديدة على مالك بن نبيّ

أثارت، ولا زالت، كِتابات مالك بن نبيّ اهتمامَ الكثير من الباحثات والباحثين في مُختلف جامعات العالَم، ذلك أنّه يُعتبر من بين أهمّ الشخصيّات التي نُظِّمت حولها دراساتٌ وأبحاثٌ ورسائل جامعيّة وندوات علميّة مختلفة، حتّى أصبحت كُتبه أحد المصادر التي لا غنىٍ عنها في فَهْمِ آليّات تطوُّر العالَم العربيّ الإسلاميّ، بل إنّ الكثير من الباحثين قد ذهب إلى جعْلها على القدر نفسه ممّا قدّمه العلّامة ابن خلدون، وذلك لجديّة طرْحها واستناد صاحبها إلى قراءاتٍ مُعمّقة في التراث الفكريّ والحضاريّ للعالَم الإسلاميّ، واطّلاعه الواسع والعميق على أهمّ الكتابات الغربيّة.

في هذا السياق، صدرَ كتابٌ جديد من جمْعِ وتحقيق أستاذ التاريخ الدكتور علاوة عمارة والباحث الجزائري رياض شروانة، تحت عنوان "وثائق مالك بن نبيّ في الأرشيف الوطني الفرنسي"، صادر في الجزائر، عن "مؤسّسة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس" ودار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع. وهو يقع في 256 صفحةً، ويحتوي على 201 وثيقة من الأرشيف الفرنسي تبدأ من سنة 1939.

ومن الجدير بالإشارة إليه أنّ الملفّ الأرشيفيّ الأوّل يحتوي على 60 وثيقةً قدَّمت معطيات جديدة حول نشاط هذا المفكّر، مشفوعاً بملفّات ثلاثة أرشيفيّة أخرى، بينها ملفّ قضائيّ مكوّن من 294 صفحة، تفصل في حيثيّات فتح تحقيق يتّهم بن نبيّ بالتآمر على الأمن الخارجي لفرنسا والتعاون مع الألمان خلال الحرب العالَميّة الثانية، وهي قضيّة انتهت بسجنه للمرّة الثانية في 9 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1945، بعدما كان قد اعتُقل، إداريّاً، قبل ذلك برفقة زوجته في تمّوز/ يوليو 1944، بتهمة التعامل مع النازيّة والألمان.

تطرّقت هذه الوثائق أيضاً إلى تفاصيل التحقيقات وما تضمّنته الوثائق الأرشيفيّة من معطيات جديدة كشفت عن جوانب خفيّة من شخصيّة مالك بن نبيّ وعن حياته الخاصّة، هذا علاوة على أنّ الباحثَيْن اهتمّا بملفّ بن نبيّ في المدرسة المختصّة في الميكانيك والكهرباء في باريس، وكذا الوثائق المتعلّقة بدراسته ونشاطه في جمعيّة الطلبة المُسلمين الشمال إفريقيّين، أو حتّى في نادي الشبيبة المسيحيّة، لتكتمل بذلك التغطيّة الوثائقيّة الخاصّة بهذه المرحلة الدراسيّة. إلى ذلك، اهتمّ الباحثان بأرشيف الحالة المدنيّة في قسنطينة وباريس، وذلك بهدف التأكّد من المعلومات الخاصّة بالحياة الشخصيّة لمالك بن نبيّ من حيث مولده واسم والدَيْه، وعادا، أيضاً، إلى السجلّ الخاصّ بميلاد زوجته الفرنسيّة، بهدف مقارنتها بالمُعطيات الواردة في محاضر التحقيق القضائيّة. واطَّلعا على الملفّات الأمنيّة للأشخاص الذين ذكرهم مالك بن نبيّ في مذكّراته، أو الذين ذكرتهم الوثائق، على غرار الشيخ العربي التبسي والدكتور عبد العزيز خالدي والشيخ محمّد الزواني، المعروف بالفزاني.

إلى ذلك، دقّق الباحثان في فترة ما بعد إطلاق سراح الكاتب سنة 1946، ودخوله عالَم الكتابة والنشر، والتحاقه، من ثمّة، بـ "حزب الاتّحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" لمؤسّسه فرحات عبّاس، وهي المرحلة التي أعقبها انضمامه إلى الوفد الخارجي للثورة سنة 1957.

ولا شكّ في أنّ القارئ لسيرة حياة مالك بن نبيّ "شاهد على القرن" و"العفن" يجد مُفارقات محيّرة بين ما هو مدوَّن فيها، وبين ما تؤكّده الوثائق المُثبتة في كِتاب "وثائق بن نبيّ في الأرشيف الفرنسي"، حيث نكتفي هنا بإعطاء أمثلة خمسة:

فأمّا المثال الأوّل، فهو في ما يخصّ ملاحقته التي دامت، تقريباً، عشرين سنة من دون هوادة، وتسبّبت له في عدم وجود عمل يسمح له بإعالة أسرته، إذ لم يكُن يشترط وظيفة تتلاءم مع مكوّناته العلميّة. وقد دفعَ به هذا الوضع للاتّصال بمجموعة من المسؤولين ومن الإدارات يحثّهم على مُراعاة وضعه المادّي الصعب. ونكتفي هنا بالإشارة إلى الوثيقة رقم 32 الواردة من مديريّة اليد العاملة باسم مسيّرها السيّد دمنديون، وهي "ردّ مكتوب على توسّط فونتان لتوظيف مالك بن نبيّ في باريس، وكان جوابه التعذُّر عن الإجابة على طلبه نظراً لعدم توفّر المنصب المالي". ولقد ترتَّبت عدّة تدخّلات على هذه الرسالة ولكن دون أيّ نتيجة. وهذا ما تؤكّده الوثيقة رقم 38 التي تُشدِّد على أنّ "مالك بن نبيّ يعيش ظروفاً حرجة وهو يُقيم في فرنسا". كما وردت الوثيقة رقم 43، وهي رسالة ثانية من "ه. فونتان" المكلَّف بمهمّة في ديوان محافظة الشرطة في باريس، بخصوص التوسُّط لتوظيف مالك بن نبيّ، وقد جاء فيها: "بالنسبة إلى ترشّح مالك بن نبيّ لوظيفة مُستشار اجتماعي خاصّ بالشمال الإفريقي أحيطك علماً وبعد دراسة معمَّقة لوضعيّته، لا يُمكن قبول ترشّحه"، ثمّ يواصل: "إنّ شهادته وموقفه السياسي لا تسمح له بتعيينه في منصب من هذا النوّع". وأمّا النقطة الثانية، فتتعلّق بالوثيقة رقم 50 وهي رسالة من مالك بن نبيّ إلى وزير العدل تؤكِّد على "الآلام التي عاشها هو وعائلته منذ عشرين سنة" تطرَّق فيها إلى المُضايقات الكثيرة التي يتعرَّض لها بطريقة شبه يوميّة. ومنها استغلال ظرفه المادّي والاجتماعي من قبل الأجهزة الاستخباراتيّة لتجنيده من أجل اختراق العمّال والمثقّفين الجزائريّين بمنْحه عملاً، لكنّها فشلت في ترويضه، وهذا ما صرَّح به المحامي المعروف باتستيني الذي كان يعمل لدى جهاز الاستعلامات الفرنسيّة بقوله: "إنّ مالك بن نبيّ يصعب تدجينه" ولذلك وصفه بالتطرُّف، وكتب مالك بن نبيّ رسالة بخطّ يده إلى وزير العدل يشكو له فيها محاولة استغلال وضعه بتجنيده "كشرطي استعلامات".

النقطة الثالثة تتمثّل في تلفيق وثائق على تعامله مع الألمان، وبالتالي مع النازيّة. وهنا مربط الفرس، لأنّ هذا "التعاون" الصادر عن إشاعات غير مؤكَّدة مثّل له عائقاً دمَّر حياته (ولا زال إلى اليوم يلاحقه) وترْك أبواب العمل موصدة كلّها أمامه، إذ نسبوا إليه أنّه كان مندوباً " لمئات العمّال الفرنسيّين في ناحية هانوفر ورجّح بأن يكون عودة هؤلاء العمّال وراء الشكاوى ضدّه، ويُعتبر في النهاية بأنّ قضيّته ليست قضيّة عدالة وإنّما ببساطة هي قضيّة ابتزاز".

لقد رفض مالك بن نبيّ لائحة الاتّهامات الموجَّهة إليه، والتي لا تقف عند هذا الحدّ، ذلك أنّهم قد اتّهموه بأنّه "جُنّد من طرف الألمان للعمل كمُترجِم لهم في مدينة "درو" في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1940، حيث عمل مع ضابط الدعاية الألماني شافنير، وتمثّلت مهمّته في "جمع المعلومات لصالحه، لكنّه رفض ذلك الدور". هذا ما تؤكّده الوثيقة رقم 11 وهي محضر الاستماع إلى السيّد فريدريك ستيفان بخصوص قضيّة مالك بن نبيّ وزوجته بولات، غير أنّ مالك بن نبيّ في الوثيقة رقم 26 يضرب عرض الحائط بكلّ تلك الدعايات والأكاذيب، مبيّناً "أنّه لو كان يريد التعامل مع الألمان لكان بإمكانه تحسين وضعيّته الماليّة بالاشتغال كمُترجِم لعمّال شمال إفريقيا أو الإشراف على مكتب توظيف العمّال الجزائريين أو تأسيس جريدة تقوم بالدعاية للألمان"، إذ تؤكِّد مجموعةٌ من الشهادات بأنّ مالكاً لم تكُن له أيّة علاقة، أو "أيّ تعاطف مع ألمانيا، وأنّهم أنكروا حديثه "في السياسة مع العمّال الفرنسيّين وهي قضيّة مبدأ بالنسبة إليه، وهذا ما تنصّ عليه الوثيقة رقم 71 التي هي عبارة عن محضر مُواجَهة بين مالك بن نبيّ بالشاهد "إدوارد رونكي"، البالغ من العمر 24 سنة. وقد "أكّد هذا الأخير لقاضي التحقيق تعرّفه على مالك بن نبيّ في أحد مصانع منطقة هانوفر عام 1943، ولم يُلاحظ أيّ تعاون له مع الألمان، ورجَّح أن يكونَ سرُّ تعيينه مندوباً بسبب معرفته النسبيّة باللّغة الألمانيّة". وعلى كلّ حال، فنحن نستبعد كلّ هذه الاحتمالات أو الاتّهامات الموجّهة له، على أساس أنّه قد تعامل مع الألمان، وبالتالي يُمكن أن يدخل اتّهامه في "باب الانتقام لأنّه دافَعَ عن حقوق العمّال وهو ما سبَّب له الغيرة والحسد "من قِبَلِ أصدقائه حيث يتكلّم اللّغة الألمانيّة بشكلٍ جيّد".

النقطة الرّابعة تتمثّل في زواجه الأوّل من الفرنسيّة "بولات فليبيون"، المولودة في 18 شباط/ فبراير 1900 في باريس، والتي زاولت دراستها حتّى سنّ الرابعة عشرة، ثمّ التحقت بوالديها حتّى سنّ العشرين، وتزوّجت بمارسيل أوجلنجي وتطلّقت منه عام 1932. وفي سنة 1935 تزوّجت من مالك بن نبيّ، وأقامت معه فترات قصيرة في باريس والجزائر. هذا ما تشير إليه العديد من الوثائق، ومن ضمنها الوثيقة 63 التابعة لمصلحة اتّصالات شمال إفريقيا، كما دخلت معه السجن، وكانت تحت الحراسة الدائمة من قِبَلِ الأمن، لكنْ لم تكُن لها أيّة مؤهّلات علميّة أو مهنيّة، كما لا توجد أيّ وثيقة تؤكِّد إسلامها كما هو مُتداوَل.

وتخصّ النقطة الخامسة تحصيله الدراسي كمهندس في الكهرباء، كما أشار إلى ذلك معظم الكتّاب الذين تناولوا سيرته وأعماله، ولاسيّما الجزء الأوّل من سيرته الذاتيّة "شاهد على القرن"، غير أنّ مجمل الوثائق تصرّ على أنّ مالك بن نبيّ لم يُتِمّ تحصيله العلمي، ولم يتحصّل على شهادة مهندس. وتلخّص الوثيقة رقم 1 الصادرة عن مصلحة الاتّصالات الشمال إفريقيّة، عمالة وهران على أنّه قد زاول دراسته الابتدائيّة، و"دروسه التكميليّة في مدرسة قسنطينة والمدرسة المتخصّصة في الميكانيك والكهرباء في باريس، وتحصّل على شهادة في اللّغة العربيّة، وشهادة المدرسة "الشرعيّة" ودبلوم طالب سابق في المدرسة المتخصّصة في الميكانيك والكهرباء". ولم نجد في ردود مالك بن نبيّ ما يعارض هذه المعلومات، حيث يؤكّد الكولونيل رئيس مصلحة الاتّصالات الشمال إفريقيّة بأنّ "ثقافته المزدوجة بالفرنسيّة والعربيّة يبدو أنّها توجِّهُهُ نحو عملٍ ليس تقنيّاً، ويرغب في شغل منصب عمل حتّى ولو كان متواضعاً".

لا ريب، إذن، أن تكون تلك الادّعات الكاذبة، التي كان ضحيّتها مالك بن نبيّ، هي التي تسبّبت له في الكثير من المصاعب وتركته عاطلاً عن العمل، بل إنّها هي التي دفعت به إلى السجن هو وزوجته. وربّما هذا ما سوف يؤكّده المحقّقان اللّذان قاما بجمْع هذه الوثائق، واللّذان يَعداننا بجزءٍ ثانٍ يحتوي على شهادات إضافيّة لا تتعارض مع سيرته الذاتيّة، وحتّى في صورة ثبوتها فهي لا تقلّل من شأنه ومكانته كمفكّر عربي استثنائي أسهم في بلْورة أفكار علميّة جريئة ومتميّزة.

المصدر: 
مجلة أفق