قضيت 6 أشهر تقريباً، في عام 2016، في العاصمة البريطانية لندن. وافق وجودي هناك إعلان القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» الإنجليزية 2016، في 27 يوليو (تموز) 2016. فراودتني على الفور فكرة قراءة روايات القائمة الطويلة كلها، وتقليص عددها إلى قائمة قصيرة من 6 روايات، قبل إعلان لجنة تحكيم الجائزة الرسمية قائمتها. ثم أختار الرواية التي أرى أنها تستحق الفوز بالجائزة، كما هو الإجراء المتبع في تلك الجائزة، وفي الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية). بكلمات أخرى، كنت سأعمل كلجنة تحكيم من عضو واحد. ثم عدلتُ عن الفكرة لأنني لم أُرِد تكريس وقتي كله لقراءة روايات القائمة الطويلة؛ يكفي أن القراءة والتطواف بمخازن بيع الكتب كانا يستحوذان على جزء غير صغير من وقتي. استقرّ قراري في النهاية على تأجيل القراءة إلى ما بعد إعلان القائمة القصيرة، واستثنيت من القائمة الطويلة رواية ج. م. كوتسي «أيام دراسة المسيح» 2016.
حين شرعتُ في قراءة رواية كوتسي، لم توفّر لي تجربة قراءة ممتعة، فالإمتاع هو ما أبحث عنه في أي رواية قبل أي شيء آخر. كانت في مستوى أدنى من توقعاتي. فقررت أنها لا تستحق أن تكون على القائمة القصيرة، رغم أنني لم أقرأ روايات القائمة الطويلة الأخرى. لم أعبأ بكون كوتسي الفائز بجائزة نوبل للأدب 2003، وأنه فاز بجائزة «بوكر» مرتين، لأنه لم يكن في أفضل حالاته في تلك الرواية بالذات، ووصولها إلى القائمة القصيرة، إن وصلت، يعني خضوع اختيارها لاعتبارات لا علاقة لها بالإبداع والأدب والسرد كفن. ربما يتغير رأيي فيها لو قرأتها مرة ثانية، لكنني لم أفعل، ولست متحمساً لتكرار التجربة، على الأقل حتى الآن.
في 13 سبتمبر (أيلول) 2016، جاءت القائمة القصيرة من دونها لتؤكد صحة قراري، الذي لم يكن متأثراً بما نُشر عنها من مراجعات أو قراءات نقدية لأنني لم أقرأ شيئاً عنها إطلاقاً. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتطابق فيها قرار اللجنة مع قراري الشخصي. ما يعني أن هنالك اتفاقاً أو تطابقاً آخر في الاختيار أسفل الطريق.
وخاضت لجنتي المؤلفة مني تجربة قراءة ماراثونية سريعة جداً للروايات الست بحماس وثقة، عززهما خروج رواية كوتسي من المنافسة، إذ شكل خلو القائمة القصيرة منها حافزاً ودافعاً قويين لي وأنا أجوس خلال تلك الغابات السردية بمفردي. وخرجت منها بقرار وضع رواية «الخائن» 2015، لبول بيتي، في مقدمة الروايات، بصفتها المرشحة الأولى للجائزة، تليها رواية مادلين ثين «لا تقولوا إننا لا نملك شيئاً» 2016، كمرشحة ثانية، متوقعاً وآملاً ألا تذهب الجائزة إلى غيرهما. وهذا ما حدث بالفعل، فقد فازت «الخائن» بالجائزة. وكان فوزها عاملاً محفزاً.
لجنة تحكيم موازية
بعد عودتي إلى الوطن، طرح اقتراح تشكيل لجنة بيت السرد في جمعية الثقافة والفنون السعودية بالدمام لتحكيم جائزة «بوكر العربية» لعام 2017، اللجنة الموازية كما سمّاها الشاعر والإعلامي زكي الصدير، في تقرير أعدّه عن نتائج التحكيم لصحيفة «العرب» اللندنية.
وتشكلت لجنة بيت السرد الموازية الكبيرة من: القاص والروائي جبير المليحان، والشاعر عبد الوهاب الفارس، والناقد والكاتب المسرحي عبد العزيز السماعيل، والناقد الدكتور أحمد سماحة، والناقد والروائي عيد الناصر، والقاص والناقد عبد الواحد اليحيائي، والقاصة والروائية مريم الحسن، والقاص والروائي عبد الله الوصالي، والقاصة منيرة الإزيمع، والكاتبة عالية نوح، بالإضافة إلى صاحب الاقتراح. وبعد قراءة ومناقشات على مدى 6 أسابيع، أعلنّا في الأسبوع السابع فوز «في غرفة العنكبوت» لمحمد عبد النبي، تليها في المركز الثاني «موت صغير» لمحمد حسن علوان، وفي الثالث «أولاد الغيتو - اسمي آدم» لإلياس خوري.
لقد خضنا تجربة تحكيم ممتعة ومفيدة، وضعنا خلالها مهاراتنا النقدية والتحليلية على المحك بجدية وتفانٍ؛ تجربة مارسنا خلالها الحوار والاختيار بحرية وديمقراطية، تجربة لم تكن مطوّقة بأي قيود وحسابات واعتبارات، عدا ما اتفقنا عليه من معايير، أو خطوط عريضة اهتدينا بها في قراءة ومناقشة الروايات الست، وكانت غايتنا اختيار ما نتفق، بالأغلبية، على أنها الرواية الفضلى التي تستحق الفوز بـ«بوكر العربية»، بغضّ النظر عن نتيجة تحكيم اللجنة الرسمية للجائزة. فازت «في غرفة العنكبوت» في مرحلتي التصويت، لأنها الأفضل في نظر الأغلبية.
مارسنا التحكيم غير متأثرين بهويات وجنسيات وانتماءات الروائيين الفكرية والسياسية. ولم نشعر بالندم لأن رواية السعودي محمد حسن علوان لم تأتِ في المركز الأول. إن «موت صغير» رواية رائعة وعظيمة، أعطيناها حقّها من القراءة الجادة والمناقشة المستفيضة العميقة، مثل الروايات الأخرى على القائمة القصيرة، بيد أننا انحزنا، أو انحازت الأغلبية منّا إلى رواية محمد عبد النبي. لقد وجدنا أنفسنا أثناء قراءة «في غرفة العنكبوت» أننا في حضرة روائي يبني العالم التخييلي في روايته ببراعة ومهارة عنكبوت، فكان العنكبوت في داخل الرواية، وفي خارجها، بعيد عنّا وقريب منا، أو كنا قريبين منه في نفس الوقت، وقت القراءة.
لم نضع رواية «موت صغير» في المركز الأول، ليس لأننا لم نكن نتمنى ذلك، ولكن لتغلب انحيازنا للإبداع، مهما تكن جنسية المبدع، على انتمائنا الوطني، ولالتزامنا بمعايير التحكيم من دون التأثر بأي عوامل قد تجرفنا بعيداً عمّا كنا نعدّه المسار الصحيح في التحكيم، مع الإيمان بأن الروائي علوان لا يمثل سوى نفسه في تلك المسابقة. لم يكن يمثلنا، ولا يمثل المملكة. كان يمثل نفسه روائياً ومبدعاً متميزاً، وليس كما دأب بعض الصحافة عندنا على اعتبار وتصوير مشاركة أي أديب سعودي في مسابقة أو مؤتمر أو مهرجان في الخارج على أنها تمثيل للمملكة. الحقيقة أنه عندما يتلقى أديب دعوة ويلبيها بالمشاركة في هذه الفعالية الثقافية أو تلك، إنما يمثل نفسه، ما لم تكن مشاركته ضمن وفد رسمي وتحت مظلة رسمية باسم المملكة.
تلميع السجون
أستحضر، الآن، تلك التجربة التحكيمية، والتجارب التي تلتها في بيت السرد، لأنها أكدت عدة حقائق ذات صلة قوية بالتحكيم ولجانه في المسابقات الأدبية. أولاها أنه من المستبعد، إن لم يكن مستحيلاً، تطابق نتائج التحكيم للجنتين مكلفتين بقراءة وتحكيم نفس النصوص الأدبية. والثانية، أن استبدال عضو أو عضوين في لجنة تحكيم بعضو أو عضوين آخرين سينجم عنه اختلاف في النتائج، وسيحدث الاختلاف أيضاً عند استبدال نصوص بنصوص أخرى. ولو طُلِب من لجنة ما لجائزة أدبية ما أن تعيد التحكيم بعد مرور بعض الوقت بعد إعلان نتائج تحكيمها لتلك الجائزة، فليس من المستبعد أن تنتهي إلى نتائج مختلفة. والحقيقة الأخيرة، التي يؤكدها باستمرار الجانب البليد والخامل من الصحافة الثقافية العربية، أن كل لجنة تحكيم هي هدف للتشكيك وسوء الظن والاتهام بالانحياز وبوجود مؤامرة.
يبدو أن لجنة تحكيم «بوكر العربية» التي منحت الجائزة لرواية الأديب الفلسطيني باسم خندقجي «قناع بلون السماء»، على موعد مع موجة من التشكيك في نزاهتها وفي حياديتها وموضوعيتها في القراءة والاختيار؛ رغم أنها كانت واضحة في تبيان مبررات اختيارها «قناع بلون السماء» من بين 133 رواية ترشحت لهذه الدورة. جاء في البيان الصادر عن اللجنة أن رواية خندقجي هي «أفضل رواية نُشرت بين يوليو 2022 ويونيو (حزيران) 2023». ومما ورد في وصف نبيل سليمان، رئيس لجنة التحكيم، للرواية، قوله: «يندغم في (قناع بلون السماء) الشخصي بالسياسي في أساليب مبتكرة. رواية تغامر في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم».
وسيطول التشكيك استحقاق خندقجي للجائزة أيضاً. وكما يستمر محاطاً بقضبان وجدران زنزانته، ستظل روايته محاطة بدائرة من التحفظات على فوزها عند البعض، وبالتشكيك في أحقيتها للجائزة لأنها في نظر أولئك البعض الرواية التي لم تكن لتفز لولا تعاطف لجنة التحكيم مع كاتبها القابع في سجون المُحْتَل المغتصب، ومع الشعب الفلسطيني في نضاله ومقاومته للاحتلال الصهيوني. لكن ما لم يخطر بالبال أن يَعدَّ آخرون فوز «قناع بلون السماء» فوزاً سياسياً من «أجل تلميع سمعة السجون الإسرائيلية». والسؤال: لماذا لم يحدث «التلميع» من قبل، خصوصاً أنه صدر لخندقجي 3 روايات قبل «قناع بلون السماء» منذ اعتقاله في 2004؟!