لا أظنُّ أنّ أحداً من الكُتّاب يرتاحُ في العادة لاختيار عناوين سائدة لكتبه أو مواده المنشورة؛ لكني ما وجدتُ ضيراً أو مثلبة في اختيار عنوان للتنقيب في «تاريخي الكتابي»، أعرفُ أنه بين أكثر العناوين إغواءً وفتنة. اختار كلّ من هنري ميللر وكولن ويلسون «الكتب في حياتي» عنواناً لكتاب لهما؛ ومع هذا أرى من الواجب أن يكتب كلّ قارئ متمرّس أو كاتب طالت عشرته مع الكتاب عن هذا المعشوق الأبدي الذي يمثلُ ملكية مشاعية لنا جميعاً. هل بعد هذا من يلومُ بورخس في أنه تخيّل الفردوس مكتبة لا نهاية لتخومها؟
ثمة يومٌ للكتاب العالمي اختارته اليونيسكو منذ عام 1995 ليكون في 23 أبريل (نيسان) من كلّ سنة؛ لكن الكتاب كينونة نعيشها كلّ يوم، ولعلّ من أقلّ الواجبات المترتبة علينا أن نشير إلى الكتب المرجعية التي ساهمت في تشكيل تاريخنا الفكري وذائقتنا الفلسفية وحسّنا الإنساني. الأمر أبعدُ من محض تكليف بواجب أو إسقاطٍ لفرض أخلاقي تجاه الكاتب بقدر ما هو تأشيرٌ لمواضع السمو والرفعة في كتبٍ محدّدة وكاتبيها من وجهة نظر من يختار الحديث عن تلك الكتب وأولئك الكّتّاب.
قد يبدو الحديث عن الكتب المرجعية التي علقت في الذاكرة الشخصية أمراً يسيراً؛ ولكنه ليس يسيراً أبداً إذا ما وضعنا في حسباننا محدودية الكتب التي ينبغي لنا الحديث عنها. نحنُ في النهاية لا نحوز ترف الحديث الممتد بلا نهاية عن أعداد غير محدودة من الكتب؛ إذ ما من قارئ في يومنا هذا سيختارُ أمر التوافق مع آرائك والمضي في قراءة ما تقترحه من عناوين لكتب. أنت في النهاية تكتبُ عن كتبٍ محدّدة لتحفز في القارئ غواية قراءة تلك الكتب؛ وبالتالي فإنّ محدودية الخيارات أمرٌ لا مفرّ منه، وبخاصة مع مقالة صحافية. أظنُّ أنّ اختيار عشرة كتب سيكون أمراً معقولاً في نهاية المطاف.
عندما فكّرتُ أي الكتب سأختارُ، كان قراري منذ البدء أن أختار الكتب التي ستقفزُ إلى ذاكرتي قبل سواها، وقد تركتُ لذهني حرية الاختيار من غير أي تدخّل مقصود فيه باستثناء ألا أجعل الخيارات محصورة في لون معرفي واحد.
1. ملحمة غلغامش: أحدُ تقاليدي السنوية التي أحرصُ عليها من سنوات هو أن أعيد قراءة هذه الملحمة الإنسانية التي تسائلُ معضلة الخلود الإنساني وتضعها في ثنائية فلسفية مبهرة: المحدودية المادية في مقابل الخلود الأخلاقي والقيمي. لم تزل ترجمة طه باقر الأولى لهذه الملحمة هي الترجمة القياسية لها؛ لكنّ الدكتور نائل حنون أضاف إليها بترجمته الأحدث إضافات إثرائية عديدة، وأغناها بتعليقات واستطرادات مفيدة. اعتمدتُ هذه الملحمة مرجعاً في مسرحيتي «الليالي السومرية»، لكن بعد أن أعدتُ النظر في الطبيعة الدرامية لشخوص الملحمة.
2. ارتقاء الإنسان The Ascent of Man: هذا كتابٌ ألّفه الكاتب وعالم الرياضيات والفيزياء جاكوب برونوفسكي، وكان في الأصل سلسلة وثائقية بثّتها الـ BBCقبل أن تطبع في كتاب. قرأتُ الكتاب بنسخته الإنجليزية أوّل مرّة بعد استعارته من مكتبة المعهد الثقافي البريطاني في بغداد، ثمّ أعدتُ قراءته بعد أن نُشِر مترجماً ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية. تكمنُ براعة الكتاب في أنّه لا يحكي لك عن التأريخ التطوّري البشري بطريقة زمنية خطية كلاسيكية، وإنما يجعلك تشاهدُ صوراً مرئية طافحة بالحياة والحسية وتناغم الفكر مع العمل، والعقل مع المادة.
3. صيادون في شارع ضيق: هي الرواية الأولى التي كتبها المثقف متعدد الأوجه وأحد أقطاب الانتلجنسيا العربية، الراحل جبرا إبراهيم جبرا بعد أنّ حلّ ببغداد عقب إكمال دراسته الجامعية في جامعة كمبردج البريطانية. لم أزل أعتقدُ أنّ هذه هي أفضلُ رواية كتبها جبرا بالقياس مع كلّ رواياته العديدة التي كتبها لاحقاً. من المؤكّد أنّ جبرا – بما يمتلكه من عقل فلسفي وأدبي وفني مركّب – هو أفضلُ كباحث ومُنظّر منه كروائي؛ لكنّ هذه الرواية تبقى فريدة وعالقة في الذاكرة. كتب جبرا هذه الرواية بإنجليزيته الرفيعة التي جعلت الناقد الأدبي لملحق «التايمز» الأدبي يصف جبرا بأنّه «يتنفّسُ هواءً فكتورياً!». كان عملاً جليلاً عندما أقدم الدكتور محمد عصفور على ترجمة هذه الرواية إلى العربية.
4. فن الرواية: كتابٌ فريد كتبه الكاتب والفيلسوف والروائي الراحل كولن ويلسون. نال ويلسون شهرته الذائعة – التي أعقبها خفوت لاحق – بعد أن نشر كتابه الأوّل «اللامنتمي» عام 1956؛ لكني أعتقدُ أنّ كتابه «فن الرواية» هو عمله الأفخم الذي لا يضاهيه عمل آخر. نشر ويلسون هذا الكتاب بداية سبعينات القرن الماضي، والغريب أنه لم يترجم إلى العربية إلا عام 1986 على يد الدكتور محمد درويش. ليس بوسعي إطراء الكتاب سوى القول إنني كروائية وكاتبة أحرصُ على قراءة ومتابعة ما يكتبُ عن فنّ الرواية، ولم أجد لليوم كتاباً أفضل من كتاب ويلسون هذا. يبدو لي ويلسون في هذا الكتاب متفوّقاً على كلّ من ميلان كونديرا في كتابه «فن الرواية»، وأمبرتو إيكو في كتابه «ست جولات في غابة السرد». يعتمدُ ويلسون مقاربة ذهنية - نفسية مركّبة في قراءاته التحليلية لأنماط مختلفة من الروايات.
5. صورٌ من الذاكرة ومقالات أخرى: أحد كتب السيرة الذاتية التي كتبها الفيلسوف الراحل برتراند رسل منتصف خمسينات القرن الماضي، رسم فيها «بورتريهات» نابضة بالحياة لشخوص عرفهم (جدّه، دي. إج. لورنس، وايتهيد،،،،)، كما أشار فيه إلى بعض الموضوعات الحيوية مثل: كيفية التعايش مع بلوغ الثمانين، أساليب إجرائية في الكتابة الإبداعية،،، إلخ. لا أظنّ أنّ هذه الصور الفريدة التي رسمها رسل ستغادرُ ذاكرة كلّ من قرأها طيلة حياته.
6. فلسفة الفيزياء: كتابٌ صغير كتبه الدكتور الراحل محمد عبد اللطيف مطلب، أستاذ الفيزياء النووية وفلسفة العلم في جامعة بغداد. نُشِر الكتاب أوّل مرّة ضمن سلسلة «الموسوعة الصغيرة» في بغداد عام 1977، ثمّ أعاد الكاتب النظر فيه ونشره بجزأين عام 1985 ضمن السلسلة ذاتها لكنهما بعنوان «الفلسفة والفيزياء». كان الكتاب ريادياً في التعريف بموضوعة الأسس الفلسفية للعلم وبخاصة لنظرية الكم (يسميها المؤلف النظرية الكوانتية).
7. الإنسان في المرآة (علاقة الأنثروبولوجي بالحياة المعاصرة): لم أزل أرى أنّ هذا الكتاب هو الكتاب الأجمل الذي قرأته في حقل المباحث الأنثروبولوجية. ألّف الكتاب الباحث الأنثروبولوجي الأميركي كلايد كلوكهون، وترجمه إلى العربية الدكتور الراحل شاكر مصطفى سليم، المعروف بمبحثه المستفيض عن المعالم الأنثروبولوجية لمنطقة الأهوار العراقية. الكتاب مكتوب بكيفية بعيدة عن التخشّب والصلادة، ويكاد المرء يكتشف هذا الأمر من عناوين فصول الكتاب والتمهيدات الأولية لكلّ فصل.
8. الرياضيات والبحث عن المعرفة: أحد الكتب التي كتبها أستاذ الرياضيات الأميركي موريس كلاين، المتخصص في تعليم الرياضيات والأصول الثقافية للرياضيات. ترجم الكتاب إلى العربية الدكتور صباح داؤود سليم، أستاذ الرياضيات في جامعة البصرة منتصف ثمانينات القرن الماضي. يكتشف القارئ لهذا الكتاب أنّ الرياضيات أبعد ما تكون عن «وصفات الطبخ» الشائعة في النشاطات المدرسية، وأنها سلسلة مترابطة رصينة من الأفكار التي تمثلُ أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان.
9. العلمُ بعد مائتي عام: أحد المؤلفات المرجعية في الحقل البحثي المعروف بـ«علم المستقبليات Futurology»، ألّفه المنظّر الاستراتيجي وعالم المستقبليات هيرمان كان وآخرون، وصدر الكتاب مترجماً إلى العربية عن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية عام 1982. مع أنّ هذا الكتاب يبدو متقادماً بعض الشيء؛ لكنّ فرادة الكتاب تكمنُ في منظوره الواسع الذي تجاوز فيه المؤلف حدود الزمان والمكان.
10. الأخلاقيات: سيكون أمراً محموداً أن أنهي قائمتي المختارة للكتب العشرة بكتاب «الأخلاقيات Ethics» للفيلسوف باروخ سبينوزا، الذي يوصفُ بأنه الفيلسوف الذي مهّد لنا عصر النهضة الفكرية والفلسفية. تتأسسُ فكرة هذا الكتاب على قاعدة مفادها أنّ الأخلاقيات لا تستمدّ مرجعيتها من أي نسق خارج عنها؛ بل هي منظومة ميتافيزيقية تكفي نفسها بنفسها وليست في حاجة إلى أي نظام مكافأة؛ وبذلك تكون الأخلاقيات السبينوزية مقاربة لفكرة الكارما الهندية التي يكافئ بمقتضاها الفعل الطيب نفسه بنفسه مثلما يعاقب الفعل السيئ نفسه بنفسه. ساهمت الفيلسوفة البريطانية الراحلة آيريس مردوك في تعزيز هذه المقاربة السبينوزية للأخلاقيات عندما ألّفت كتابها «الميتافيزيقا مرشداً إلى الأخلاقيات»، وسيكون من الأمور المستحبّة أن يقرن المرء قراءة كتاب سبينوزا بكتاب مردوك.
الشرق الأوسط