استضاف "منتدى أوراق" الذي يديره الأكاديمي والناقد المصري يسري عبدالله، مجموعة من الروائيين من أجيال مختلفة، منهم سلوى بكر وصفاء النجار وحمدي الجزار وسمر نور وصبحي موسى، في حلقتي نقاش حول راهن الرواية العربية ومستقبلها.
وطرح الكُتّاب مخاوف كثيرة حول دور الذكاء الاصطناعي وورش الكتابة وقوة "الألتراس" وتضليل "البيست سيلر" وفساد بعض الجوائز ودخول "التيك توكرز" و"اليوتيوبرز" في الدعاية والتسويق، بهدف الحصول على مقابل مالي أو حتى في نشر كتب باسمهم يدّعون أنّها "روايات".
فهل حقًا هناك "ألتراس" يوجّه سوق الرواية العربية؟ لا شك أنّ الرواية شهدت تغيّرات دراماتيكية، وتجاوزت صيغ الترويج التقليدية عبر البرامج التلفزيونية والدوريات المطبوعة. ساهمت في ذلك سطوة وسائل الاتصال الاجتماعي، لأنها لم تغيّر طرق الدعاية فقط، وإنما غيّرت علاقة الكاتب بالقارئ لتتسمّ بالعفوية والفورية والتفاعلية.
وكانت جائحة "كورونا" قد ساهمت في رواج "أندية القراءة" الافتراضية. ففي السابق كان نادي القراءة يُشهر بشكل "رسمي" ويلتقي الأعضاء دوريًا. الآن أصبح افتراضيًا يمتد للكرة الأرضية كلها، ويعجّ بالتعليقات والتدوينات على مدار الساعة، إضافة إلى لقاءات تفاعلية مع المؤلفين.
فما الذي يدفع شابًا أو شابة إلى تخصيص ساعات لمتابعة صفحة في الـ"فيسبوك"، والردّ على تعليقات وتدوين مراجعات عن روايات؟ وهل كل ذلك دون مقابل مادي؟ لماذا يُروّج بإصرار لهذا الكاتب أو ذاك؟ وما علاقة ذلك كله بما يُسمّى "ألتراس" بعض الكُتّاب والناشرين؟
شتائم في "جود ريدز"
تحدّث مرّة ألبرتو مانغويل عن الوجود الكامن للكتاب؛ حالة الغموض التي يكون عليها حتى تبادر اليد إلى فتحه والعين إلى مطالعته، فتوقظ الحياة في الكلمات.
كأنها حالة براءة ودهشة، تشبه سرًا لطيفًا وصداقة حرّة بين قارئ وكتاب. لكن تلك الحالة النقية تغيّرت جذريًا مع انطلاق موقع "جود ريدز" عام 2006، الذي جعل القراءة فعلًا عموميًا وتشاركيًا، ويملك الآن ملايين المتابعين الذين يشاركون في تدوين مراجعات وتقييمات.
بحسب الكاتب إبراهيم عادل أحد مؤسسي أندية القراءة، كان "غود ريدز" المحطة الفارقة، لأنه شجّع ونشر ثقافة التعليق على الكتب، وفتح المجال للتعارف مع أصدقاء آخرين، وتكوين مجموعات قراءة قوية تحولت إلى أندية إلكترونية.
كتّاب كثيرون اتهموا "الغود ريدز" بالتحيّز، والسماح لقرّاء مجهولين بأسماء مستعارة، بالشتم وكتابة عبارات تحقير بوصفها "نقدًا"، إضافة إلى التقييم السلبي والمضحك جدًا، فلا نعدم قارئًا يمنح رواية لدوستويفسكي نجمتين، ثم يذهب القارئ نفسه لوضع خمس نجوم على رواية مغمورة لكاتب مجهول!
ربما لهذه الأسباب تراجعت مكانته عربيًا، لكن هذا لا ينفي أنه كان النواة التي انطلقت منها أندية القراءة الافتراضية.
آفة الحيز
إن التحيّز هو رأي بلا دليل، يصدّق صاحبه ما يريد تصديقه بمعزل عن نزاهة التقييم، ويدافع عمّا يريد الترويج له وفق مصالحه أو ميوله. وانعكس ذلك على إطلاق أحكام عشوائية تفتقر إلى التبرير النقدي، والمبالغة في مدح من تروق لنا كتاباته.
وتلك كانت أبرز آفات الأندية الإلكترونية التي تحولت إلى "ألتراس" غامض وخفي، حيث تفجّرت المعارك وانقسمت المجموعات على نفسها، بسبب التحيّز سواءً لكُتّاب بأعينهم أو دور نشر معروفة.
يقول إبراهيم عادل الذي أسّس أكثر من مجموعة قراءة: "كنتُ حريصًا على عدم التحيّز لدار نشر محدّدة، بل للكتاب الجيد، لكن هذا لا ينفي أن كل نادٍ يظل خاضعًا لتوجّهات المسؤول عنه. لذلك فضّلت التعليق على الكتب بشكل حرّ بعيدًا من الارتباط بأي مجموعة".
أي أنه يقرّ صراحة بانتشار آفة "التحيّز"، وإن كان لا ينفي مزايا الأندية الإلكترونية، وأهمها تنوع الأعضاء في الأعمار والأذواق، وكثرة الأعداد بالآلاف عكس محدودية أندية الواقع، إضافة إلى حضور لافت للمرأة، وتفاعل لحظي مع كل جديد.
قراءة بالعدوى
تتسع دوائر التحيّز لتتحول إلى قراءة بالعدوى، أي ملاحقة "موضة" هذا الكتاب أو ذاك الكاتب، بغض النظر عن جودته. ويرى سامح فايز أن هذه الظاهرة ازدهرت مع كتابات الشباب في أدب الرعب والخيال العلمي والروايات الرومانسية، وبدعم "السوشيل ميديا" وأندية القراءة.
ما بين تحيّز معلن، وشتائم، ومحاولة فرض أسماء بعينها، تكرّست ظاهرة "الألتراس" الذي يتركز حول الكاتب لا الكتاب. وربما كان الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق (1962 ـ 2018) صاحب أكبر وأشهر "ألتراس"، لا يتوقف عن الاستشهاد به، ونسبة أقوال كثيرة إليه وإن لم يقلها. ولا يقبل "المتعصبون" من جمهوره أي مساس به أو انتقاد آرائه وكتبه، رغم أننا لا نستطيع وضع تجربته الإبداعية في مصاف إبداعات محفوظ وإدريس وتوفيق الحكيم. مع ذلك ليس لدى هؤلاء الكبار جمهور خفي بتلك الحماسة والتضامن.
يؤكّد سامح فايز أن ظاهرة "الألتراس" تعني مجموعات المشجعين المتطرّفين، وانتقلت من عالم كرة القدم إلى سوق النشر، فنجد مثلًا "ألتراس" يدافع باستماتة ضدّ أي انتقاد لكاتب شاب مشهور، أو يسعى لتصعيد كاتب مقابل الإضرار بآخر، حتى لو لم يكن الأفضل.
ولا ينفي فايز أن بعض مجموعات القراءة تأسست من شباب مُحب للثقافة، لكن بعضها الآخر ظهر مدعومًا من دور نشر على اعتبار أن الثقافة أصبحت صناعة تدرّ دخلًا وليست مجرد نشاط غير هادف للربح، وهو ما عزز ظاهرة "الألتراس" للتشويش على الآخرين.
اتهام دور النشر
تكرّر اتهام بعض دور النشر بخصوص تمويل أندية ونشطاء ثقافيين في "السوشيل ميديا"، وما ترتب على ذلك من ظواهر سلبية. حول هذا الاتهام قالت الناشرة نرمين رشاد (الدار المصرية اللبنانية): "عندما فرضت "كورونا" ظلالًا سيئة علينا كناشرين، وتراجع حجم الكتب المطبوعة وأُلغيت المعارض، كنا أول دار نشر يهتم بأندية القراءة الإلكترونية، وبدت لنا ظاهرة إيجابية. ولكن مع توسعها ظهرت سلبيات كثيرة، فبعض القرّاء لجأ إلى أساليب انفعالية والشتم والسب في كتب وناشرين بأعينهم، وبعضهم تصور نفسه ناقدًا محترفًا يرفع من يشاء ويقلّل ممن يشاء. لهذا السبب تراجع التعاون مع تلك الأندية، وفضّلنا التركيز على الصفحات الخاصة بنا كدار نشر".
ونفت رشاد تهمة تمويل تلك الأندية قائلة: "اتُهمنا بالفعل بأننا نقف وراء أحد أندية القراءة، لكن الحقيقة نحن لا ندفع أموالًا لأحد ولا نطلب منه الترويج لكتبنا فقط. بل نتعامل بمسافة متساوية من الجميع. وإذا طلبت هذه الأندية كتبًا منا نتعامل بإيجابية.. وأحيانًا يُطلب منا رعاية مسابقات وتقديم كتب هدايا للفائزين، فكنا نقبل بهدف التشجيع على القراءة. وشجعنا كتّابنا على التواصل مع تلك الأندية، لكن البعض فسّر تعاملنا الإيجابي خطأ على أنه "تمويل"، وهذا لم يحدث".
هل هو جهد مجاني؟
وصل الكاتب الصحفي إسلام وهبان بـ "نادي القراء المحترفين" إلى آلاف المتابعين، ووسّع فلسفته كي لا تقتصر على نشر مراجعات بل جعل النادي حلقة وصل بين الناشر والكاتب والقارئ.. وقدّم مبادرات لدعم الكتاب "الأصلي" ومحاربة القرصنة، ونشر قوائم كتب مهمّة يقلّ ثمنها عن 50 جنيهًا.
ويعترف وهبان بأن هناك مجموعات موجّهة وربما ممولة من ناشرين، لكنها تنكشف سريعًا لأن القارئ ذكي ويعرف من يقدّم خدمة من أجله ومن يقود حملات دعاية.
الكلام نفسه يؤكّده إبراهيم عادل بأن هناك "مجموعات" تفتقر إلى المصداقية، ودور نشر تطلب من أعضاء الأندية مراجعات لإصداراتها مقابل هدايا. مع ذلك لا يسمّي وهبان ولا عادل تلك الدور ولا المجموعات. لكن كلامهما يطرح ظلالًا سلبية بأن الأمور ليست مثالية كما تبدو.
قطعاً لا أحد سيعترف أنه يقبض مالًا لتوجيه سوق القراءة، مع ذلك سألنا مسؤولي تلك المجموعات: هل حقًا تقبضون رواتب من دور النشر؟
أجاب وهبان: "العمل الثقافي بمقابل مادي ليس عيبًا طالما لا يتمّ تضليل القارئ، لكنني لا ألجأ إلى ذلك. أنا في الأساس صحفي ومعدّ برامج، وهذا مصدر رزقي، وأقدّم استشارات ثقافية لمنصات ودور نشر تهتم بتقديم محتوى مؤثر على "السوشيال ميديا". وليس شرطًا أن كل جهد ثقافي يكون بمقابل مادي".
أما إبراهيم عادل فيقول: "في أحد الأندية، طلب مني المسؤول (الأدمن) عدم نشر مراجعة لرواية عربية، فاستوعبت أن القصد التسويق لناشر معين وانسحبت. وحاليًا أفضّل الترويج للكتاب الذي يعجبني ولا أتقاضى أجرًا عن ذلك، والأمر لا يتعدّى إرسال الناشر أو الكاتب نسخة ثم يطلب رأيي وهذا لا غبار عليه".
شريهان عطية مؤسسة صفحة "فنجان قهوة وكتاب"، وهي مجموعة لا تكتفي بالتعليق على الكتب بل تستضيف الكُـتّاب في لقاء مباشر عبر "فيسبوك"، أكّدت أن مجموعتها ثقافية ولا علاقة لها بالأجر، لأن دخلها يأتي من عملها الأصلي في التسويق وأحيانًا من حملات دعاية لبعض المؤلفين.
لكن مثلما اتُهمت دور النشر بحملات تمويل "خفية"، اتهم الكاتب سامح فايز بعض مؤسسي تلك الأندية وقال: "أعرف أشخاصًا بالاسم كانوا موظفين برواتب لدى دور نشر ثم استثمروا شهرتهم ليصبح لديهم دخل مادي مستمر تحت زعم نشر الفعل الثقافي!
فإذا كان مؤسسو مجموعات القراءة يعملون لوجه الثقافة، لماذا التحيّز والشتائم وفرض أسماء بعينها وتجاهل آخرين؟ لماذا تلك المعارك التي تتطاير شرارتها عبر صفحات "السوشيل ميديا؟".
أيًا كانت الإجابات، فالمؤكّد أن حالة البراءة التي تحدّث عنها مانغويل، وتلك الصداقة الحرة والخاصة بين القارئ والكتاب، تراجعت تحت ضغط "الألتراس" الخفي والمُحرك لسوق النشر العربي.