لا تزال لائحة الروايات الأكثر ترجمة ورواجاً في العالم هي نفسها، منذ سنوات طويلة، ولم تُضف إليها في الأعوام الأخيرة إلا رواية "الخيميائي" للبرازيلي باولو كويهلو وسلسلة "هاري بوتر" للبريطانية ج. كي. رولينغ التي لم تشهد رواياتها الأخرى في ما بعد، سوى نجاح ضئيل. هذه اللائحة الصادرة حديثاً عن المؤشر العالمي للنشر والتي تداولتها صحف ومواقع عدة، منها صحيفة لوموند الفرنسية، قد لا تبدو مفاجئة في نظر القراء الأجانب، الذين أدمنوا قراءة هذه الروايات التي يدرجونها أصلاً في صلب تراثهم الروائي والحكائي. وقد لا يُفاجأ القراء أن تحل رواية "الأمير الصغير" للكاتب والطيار الفرنسي أنطوان دو سانت إكزيوبري المرتبة الأولى في ترجمتها إلى 360 لغة عالمية، علماً أنها صدرت عام 1943 وطبعت للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأميركية وليس في فرنسا.
"دون كيخوته" و"ألف ليلة وليلة"
لعل السؤال الملح: كيف يمكن أن تغيب ملحمة "دون كيخوته" الرائعة عن مثل هذه اللائحة وهي عمل روائي شعبي ونخبوي هائل، ويعد مرجع السرد العالمي الجديد؟ بل كيف تغيب رواية "ألف ليلة وليلة" التي فتنت أجيالاً من القراء في العالم كافة وخلال قرون وعقود، ونقلت إلى لغات عدة وما برحت تُترجم وتُقرأ وتخضع للمقاربات النقدية والدراسات التي لم تستطع استنفاد أسرارها؟ ومعروف أن الروائي أندرسن تأثر بها وبأجوائها الغرائبية في حكاياته، وكذلك باولو كويهلو في "الخيميائي"؟ ثم ماذا عن روايات طبعت القرنين التاسع عشر والعشرين وراجت ولا تزال رائجة حتى اليوم ومنها: "قصة مدينتين" و"أوليفر تويست" للبريطاني تشارلز ديكنز، رواية "موبي ديك" للأميركي هيرمان ميلفيل، رواية "ذهب مع الريح" للأميركية مارغريت ميتشل، رواية "الحرب والسلم" للروسي تولستوي، رواية "الإخوة كارامازوف" للروسي دوستويفكي، رواية "ألف عام من العزلة" للنوبلي غابرييل غارثيا ماركيز...؟ ماذا عن روايات أغاثا كريستي التي اخترقت حدود العالم واللغات؟ واللافت هو غياب رواية الأميركي دان براون "شيفرة دافنتشي" التي لم تتمكن من منافسة "الخيميائي" و"هاري بوتر"، على رغم احتلالها قائمة الأكثر مبيعاً لأكثر من سنتين.
طبعاً الروايات الأكثر ترجمة هي روايات بديعة، ما خلا "الخيميائي" التي تعد مستوحاة بوضوح من "ألف ليلة وليلة"، وسلسلة "هاري بوتر" التي أثارت سجالاً لم ينته، حول طبيعتها وسر نجاحها في أوساط الفتيان والمراهقين. لا أحد يمكنه أن يناقش أهمية الروايات تلك ولا فرادتها في التخييل والفن الحكائي والترميز والتشويق. "الأمير الصغير" و"بينوكيو" و"أليس" وأبطال أندرسن وجول فيرن وجون بونيام ما برحوا يعيشون بين أوساط قراء العالم جيلاً بعد جيل، وما زالوا قادرين على مخاطبتهم وإذكاء مخيلاتهم ومشاعرهم وأفكارهم، بحماسة ومتعة.
سر "الأمير الصغير"
وقد يسأل سائل هنا: ترى ما سر رواية "الأمير الصغير" التي تتبوأ صدارة القائمة، بل ما سر نجاحها الدائم منذ صدورها عام 1943 في أوج الحرب العالمية الثانية؟
هذه الرواية الصغيرة هي فعلاً أشبه بقصيدة ساحرة تغري قارئها وتفضي به إلى عالم ملؤه الغرابة والإلفة، علاوة على لغتها البديعة النابعة من المخيلة الطفولية وجوها الملتبس أبداً بين الحلم والواقع، بين الحكمة والبراءة.
لا تنتمي رواية "الأمير الصغير" إلى أدب الفتيان كما يخيل دوماً للبعض، حتى وإن راجت في المدارس وأقبل عليها الطلاب كثيراً. هذه الرواية يصعب أن ينساها من يقرأها حتى وإن قرأها مرة واحدة. بعض مشاهدها تنطبع في المخيلة ولا تغادرها وكذلك بعض الحوارات التي صاغها الكاتب ببراعة وشفافية. ويصعب فعلاً تعداد تلك المشاهد والحوارات. فهي كثيرة على رغم صغر الرواية التي لا تتخطى المئة صفحة. ومن يرجع إليها بعد أعوام من قراءتها يخالجه الشعور نفسه الذي خالجه لدى قراءته الأولى: عالم طفولي ناضج جداً ومخيلة تحركها كيمياء الحلم، حكمة وربما فلسفة تنم عن وعي مأسوي عميق، براءة تخفي الكثير من الألم، حوارات رائعة فيها الكثير من عبثية الوجود ونعمة الحياة وفرح المعرفة وفطرة السؤال ونعيم الصداقة ووحشة الفراق.
لم يكن "الأمير الصغير" إلا قرين الكاتب نفسه مثلما هو قرين الكائن أياً كان: أنا أم هو أم أنت أم نحن أم هم... إنه صورة الكائن في صفائه الأول، صورة الإنسان كما كان ينبغي أن يكون قبل أن يسقط في هوة الشر، بل صورته كما سيصبح يوماً. لم يستطع "الأمير الصغير" أن يستوعب جيداً ما شاهد وما عاش خارج كوكبه الصغير. حتى الزهرة التي "دجنته" استطاعت أن تكذب عليه إذ ظنها الزهرة الفريدة. وعندما رأى شقيقاتها في أحد المساكب اكتشف الخدعة من غير أن يتخلى عنها. وحين شعر أن موته يقترب حزن لحزن قرينه - الكاتب الذي يروي قصته - وبدا اقترابه من الموت اقتراباً من الحياة نفسها. فهو الذي أدرك أن "الجسد ثقيل جداً"، كان على يقين أيضاً أن النجوم سوف تسكب له الماء حين يعطش.
لا تقرأ رواية "الأمير الصغير" مرة واحدة هي الأولى والأخيرة كما يقال، فهي لا تنتهي لدى انتهاء القراءة الأولى، بل هي ربما تبدأ من نهايتها. هذه رواية تقرأ باستمرار وبدهشة دائمة. وكل قراءة تحمل إلى قارئها بعضاً من جديد. والسر المستغلق لا يكمن في مضمونها أو فلسفتها، فهما على قدر من الشفافية ويمكن تبيانهما بعمق. ولا يكمن السر المستغلق كذلك في فرادة الشخصيات وفي أبعادها ولا في الحوارات واللغة فهي جميعها في متناول الشرح والنقد. سر هذه الرواية في قدرتها على صهر الحلمي والواقعي، الخرافي والحقيقي في نسيج واحد. كأن ما يحدث فيها يحدث حقاً ولكن عبر استحالة حدوثه. الخرافة حقيقية من شدة خرافيتها والحقيقة خرافية من شدة ما هي حقيقية. الحلم هو المعجزة الوحيدة في الحياة، بل هو معجزة الحياة نفسها، والحياة هي الوجه الواقعي من الحلم. ربما هنا يكمن سر هذه الرواية السهلة والصعبة، البريئة والناضجة، المفعمة بالفرح والأسى، بالمأساة والفانتازيا، بالعبث والميتافيزيك. وهو سر سيظل سراً ما دامت روياة "الأمير الصغير" عصياة على التصنيف ومفتوحة على التأويل والتأمل.