يعدُّ الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (1929- 2013) من أبرز علماء الشريعة في العصر الحديث، بأبحاثه وآرائه في الفقه والأصول والعقيدة.. إضافة إلى ذلك كانت له آراء في العديد من قضايا العصر في الفلسفة والسياسة والاقتصاد، ومن بين تلك القضايا التي تناولها بالبحث والتحليل والنّقد قضية «صراع الحضارات» التي تصدّرت المشهد العالمي منذ أن كتب البروفيسور الأمريكي صموئيل هنتنغتون (1927- 2008) مقالته في مجلة «فورين أفيرز» (1993) ثم توسع فيها في كتابه «صراع الحضارات: إعادة بناء النظام العالمي» عقب انتهاء الحرب الباردة، مؤذناً بنهاية الصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية، وبداية صراع من نوع آخر، جاعلا من الدين والثقافة مصدراً للتكتل والاصطفاف، إذ جعل الغرب وحضارته المسيحية واليهودية في حالة صراع مع بقية العالم، بالأخص حضارة الإسلام والكونفوشوسية الصينية، وكما هو معروف، من أحداث التاريخ الإنساني أن أيّ تقسيم ثنائي (الغرب/ الشرق، الشمال/ الجنوب، العالم المتقدم/ العالم المتخلف، العالم الديمقراطي/ العالم غير الديمقراطي) هو في التحليل الأخير دلالة على تأسيس عالم الصراع والمواجهة.
ناقش البوطي هذه الأطروحة في كتابه الصادر بعد وفاته بعنوان «قضايا ساخنة» عن دار الفكر (2016) مُقرّاً في البداية بحقيقة مهمة، وهي أن صاحب الأطروحة هنتنغتون، تراجع عن كثير مما قال وكتب، إلا أن أحداث 11/9 أرجعت فكرة الصدام إلى الحياة، بعدما تبنى أسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة» مسؤوليته عن الهجمات، التي اجتاحت مبنى البنتاغون ومركز التجارة العالمي، حيث صُوّر على أنه اعتداء على الحضارة الغربية من طرف «البربرية الإسلامية!».
لقد انطلق البوطي في مناقشته لهذه الأطروحة من سؤال جوهري هو: «أهذا الطرح، أي صراع الحضارات، دعوة إلى دراسة الواقع التاريخي لموقف الحضارة الإسلامية السّلمي أو التصادمي من الحضارات الأخرى؟أم هو مشروع مستقبلي لإحداث صدام مطلوب مع الحضارة الإسلامية..؟».
في إجابته على الشطر الأول من السؤال يحاول البوطي تذكير القارئ بقاعدة مهمة من قواعد الدين الإسلامي، وهي «لا إكراه في الدين» هذه القاعدة تجعل من أطروحة صدام الحضارة الإسلامية مع غيرها من الحضارات والثقافات الأخرى أمراً مستبعداً، فأحداث التاريخ دلت، بما لا يدع مجالا للشك، بقبول الإسلام للآخر المختلف دينياً ورفضه إكراهه، بمعنى رفض إجبار الآخر على اعتناق الدين الإسلامي، لأن قضية العقيدة، في الأصل، قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليست قضية إكراه وغصب وإجبار، والشاهد على ذلك وجود مسيحيين في العديد من المناطق التي وصلها الإسلام فاتحاً، إذ يوجد مسيحيون في العراق وسوريا ومصر ولبنان.. وغيرها، وما زال وجودهم في هذه المناطق إلى حد اليوم شاهداً على سماحة الإسلام ورفضه الإجبار والغصب. في هذا الصدد، يقوم بإخضاع الجهاد القتالي إلى محاكمة أمام النصوص القرآنية، مقرّراً، في الوقت ذاته، أن الدعوة إلى الله لا بد أن تقف عند حدود الإبلاغ والتذكير وإقامة الحجج وإزالة الشبهات، دون أن يتجاوز شيئاً من ذلك إلى أي قسر أو إكراه أو خصومة. يتجلى ذلك في قوله تعإلى «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)» أي أنّ وظيفتك، أيها الرسول، لا تتعدى التبليغ والتذكير، إذ لا تملك أي سلطة على قلوب النّاس وعقولهم، والخطاب هنا غير خاصّ بالرسول الكريم ، فقط، كما يتبادر إلى الأذهان، إنما هو خطاب عام يشمل عموم من يضطلع بوظيفة التبليغ والدعوة إلى الدين.
صدام الحضارات ما هو إلا مشروع مستقبلي غربي، الهدف منه، كما يقول البوطي، «ملاحقة الإسلام، فالحضارة الإسلامية وأهلها، بالتضييق ثم بالخنق» مستعملا في ذلك الإرهاب كأداة فاعلة لإنجاح مشروعه في السيطرة والهيمنة.
على هذا الأساس، يصل البوطي إلى نتيجة مفادها أن الجهاد القتالي لم يكن يوماً أداة لإكراه الآخر على الدخول في الإسلام، وإنما شُرّع أساساً «لدرء الحرابة وأنظارها، ولم يشرّع لإرغام النّاس على الإسلام» بمعنى آخر «الجهاد القتالي إنما شرّع لدرء بغي واقع، أو قضاء على خطة لبغي متوقع» وبالتالي، فإن تلك الجماعات التي تحمل رايات الجهاد السود، كـ»القاعدة» و»داعش» وغيرهما، مدّعية بأنها تقاتل في سبيل الله، وفي سبيل شرعه حتى يعود قانوناً في الأرض، هذه الجماعات ليست من الإسلام في شيء، بل ما تقوم به فيه إضرارٌ للإسلام وأهله أكثر من نفعهما. كما أن الإسلام منذ ظهوره، كما يدل تاريخه الغابر ويشهد حاضره، قد سلك طريق الإقناع لا الإكراه، ومنهج الحكمة لا الجهالة، وقد أشرقت شمس الإسلام بنورها على العالم كله بفضل التلاقي والتعارف في ساحة الحوار والحرية، لا من خلال القهر والصدام، ومن يدّعي غير ذلك فهو جاهل بالإسلام وتعاليمه، سواء كان من أهله أو من أعدائه. إذا ثبت ذلك، فإن القول بأن الحضارة الإسلامية هي حضارة صدام أو نزاع أو خصام، لا أساس له من الصحة، ومثل هذه الكلمات غريبة عن الإسلام وحضارته، لأنّها، باختصار شديد، حضارة إنسانية تحترم الإنسان وتعلي من شأنه.
من هنا ينتقل البوطي إلى الإجابة عن الشطر الثاني من السؤال ألا وهو: هل هذه الأطروحة هي عبارة عن مشروع مستقبلي للإيقاع بين الإسلام والغرب؟ هذا السؤال إن عبّر عن شيء إنما يعبّر عن سعة عقل هذا الرجل وفهمه للأحداث العالمية، لأن هذه الأطروحة، كانت ولا تزال، عبارة عن خطة أو مشروع مستقبلي، وإلا كيف تفسر سبب إخراجها إلى الوجود في لحظة مفصلية من حياة البشرية، عندما انتقل العالم من الثنائية القطبية (الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والاتحاد السوفييتي من جهة ثانية) إلى القطبية الأحادية بقيادة أمريكا، وبما أن المشروع الغربي قد وصل إلى طريق مسدود، ويعيش في حالة إفلاس وفشل، إذ ليس له ما يقدم للبشرية من بدائل تنقذها من الأزمات والحروب، ولأنه كذلك، فلا بد أن يختلق أعداءً حتى يغطي على عجزه وضعفه، ولأنه كذلك، أيضاً، فهو يعمل على تأسيس علاقات عدائية مع الآخر. ومن ثمّ، فإن صدام الحضارات ما هو إلا مشروع مستقبلي غربي، الهدف منه، كما يقول البوطي، «ملاحقة الإسلام، فالحضارة الإسلامية وأهلها، بالتضييق ثم بالخنق» مستعملا في ذلك الإرهاب كأداة فاعلة لإنجاح مشروعه في السيطرة والهيمنة، في هذا الصدد يضيف قائلا: «إن ما نفاجأ به اليوم من تهمة الإرهاب التي تلصق بنا وبإسلامنا على حين غرة، إنما هو وقود يراد إلهاب المنطقة العربية بواسطته، ليصار من ذلك إلى إشعال حرب عالمية جديدة». لكن، إذا كانت أطروحة صدام الحضارات ما هي إلا خطة مستقبلية للنيل من الإسلام وأهله والتضييق على مشروعه، فلماذا يحاول الغرب إيهامنا بأنه في صراع مع التطرف والأصولية؟
الغرب، في الحقيقة، لا يحارب التطرف والإرهاب، كما يدّعي دوماً، وإنما يحارب “الإسلام”، ذلك أن الإسلام في نظره يشكل خطراً كبيراً على مشروعه لما يمتلكه من خصوصية في القيم وفي التشريعات، أما التطرف فهو صناعة غربية بامتياز، يقوم الغرب بزرعه في جسد هذه الأمة من أجل استغلاله، كأداة لتنفيذ مشروعه وبسط هيمنته، الغرض منه إدخال المنطقة في حروب وأزمات لا أول لها ولا آخر. وبالتالي، فالغرب، من خلال ذلك، يحاول الهروب من الحقيقة الواضحة عندما يعتبر الإسلام الخطر الأكبر عليه، الحقيقة التي تقول إن حضارة الغرب في حالة انهيار وإفلاس، وإن كان هناك من خطر عليه، فالخطر يتأتى من الغرب نفسه، لأنه ضد الإنسان وفطرته، بتمجيده للمادة والآلة، وليس الإسلام، بل على العكس من ذلك، يُعدُّ الإسلام علاجاً لأمراض الغرب وأزماته، ذلك أن الإسلام الحقيقي، كما يقول البوطي في كتابه «الإسلام والغرب»: «ليس هو الخطر على الغرب أو الحضارة الغربية اليوم، بل إنه يقيناً العلاج الذي يحمي الحضارة الغربية من الانهيار ويشفيها من الأمراض المتوغلة اليوم فيها، ويعيدها إلى سابق قوتها وشبابها لو أتيح للغرب أن يستأنس به، وأن يتفهمه على حقيقته».
في المحصّلة، على الرّغم من وجود مثل هذه الأصوات الحكيمة والعاقلة التي تدعو إلى الحوار والتعايش، وتنبذ ثقافة الصدام والخصام إلا أن الغرب، مستمرّ في سدّ آذانه، لأن أيّ انفتاح منه، أي الغرب، على الآخر فيه هدم لأركان نظامه، وتقويض لمشروعه، ذلك لأن ثقافة الغرب، كما هو معروف، ثقافة سيطرة وهيمنة، ونظرته إلى الآخر هي نظرة سيد إلى عبد، كما يخبرنا تاريخه الاستعماري.