تخطي إلى المحتوى
الروائي الأردني جلال برجس يكتب لـ “أثير”: الكتابة الروائية هروب من الألم أم مواجهته؟ الروائي الأردني جلال برجس يكتب لـ “أثير”: الكتابة الروائية هروب من الألم أم مواجهته؟ > الروائي الأردني جلال برجس يكتب لـ “أثير”: الكتابة الروائية هروب من الألم أم مواجهته؟

الروائي الأردني جلال برجس يكتب لـ “أثير”: الكتابة الروائية هروب من الألم أم مواجهته؟

من أكثر الأسئلة التي تُحدث لي ارتباكًا هو ذلك الذي يبحث عن الغرض من وراء الكتابة الروائية. فيقودني قبل الإجابة إلى تساؤل شخصي حول هذه المهمة الذاتية المتعبة في آن، والممتعة في الآن نفسه. فتتناسل الأسئلة: متى كانت اللحظة الأولى التي تجرأت فيها على خدش سكينة الورقة؟ ما الذي قادني إليها؟ ولماذا فعلت ذلك؟ هل هي لحظة شعور بالهزيمة؟ أم أنها ذهاب إلى لحظة انتصار تطرد مرارة الهزائم الذاتية والموضوعية؟

لماذا نكتب الرواية؟ إنه من أكثر الأسئلة إشكالية وتعقيدًا. سواء كانت الرواية التي تعود إلى التاريخ، أو من تنظر في الواقع، أو ذلك النوع الذي يستشرف المستقبل. ونتاج هذا التساؤل المعرفي عدة إجابات ليست ثابته جراء غموض الغرض من الكتابة نفسه المرتبط بعدم استقرار الفن الروائي من حيث الشكل والأسلوب والمضمون واللغة. يقول الروائي الكولومبي (ماركيز) “أكتب ليفرح الأصدقاء”. وتقول الكاتبة الأمريكية (سوزان أورلين): ” أكتب لأنني أحب أن أفهم هذا العالم “. بينما يقول (شكسبير) “عندما لا تجد أحدًا يسمعك، اكتب، فالورقة كفيلة بأن تنصت لك”.
هناك كثير من الإجابات والرؤى حول الغرض من الكتابة، يمكننا القول إنها صحيحة سواء إن تعاملنا معها بشكل فردي، أو بمجموعها العام. ومن جانب آخر يمكننا القول أيضًا أنها إجابات غير مكتملة، أو أنها تقترب منها فقط. الكتابة بشكل عام فعل إنساني ناتج عن اضمحلال الاطمئنان، والكتابة الروائية على وجه الخصوص تعبير عن القلق، وصدى لتلك البئر الجوانية التي لم تتخلص بما فيها من آلام شخصية، وعامة. فالروائي يتكئ في لحظة الكتابة على خبرة ومراس حياتي، الدافع ذاتي هو الأبرز في هذه المسألة. إن معظم الروايات التي حظيت بها المكتبة العالمية تقترب من معاينة الوجع وتفكيكه، بينما الروايات التي تتخذ من موضوعة البهجة كنتاج للرفاه الإنساني قليلة. وهذا يقودنا إلى الدافع الرئيسي للكتابة والتساؤل حياله: هل هو هروب أم مواجهة؟
غالبًا لن تجد كاتبًا جادًا اختار أن يمضي في هذا المضمار. من هنا يرى (فرانز كافكا) أن الكتابة تكليف لم يعهد به أحد إليه. لكنه في المقابل ليس خيارًا شخصيًا. والمطلع بشكل جيد على أعمال كفاكا كمثال صارخ على السوداوية سيعي أن الكتابة كانت خلاصه غير المباشر من معاناة أسبابها عامة وذاتية يمكن إما أن تؤدي به إلى اللاتوازن النفسي، أو الجنون، أو الانتحار بشكليه المادي أو المعنوي. أمر متعلق بالحساسية العالية التي يمنى بها الإنسان فإما أن يصير كاتبًا أو فنانًا، أو السير في أي درب تضمن له التعبير عن ذاته بشتى الطرق. هذه الحساسية التي قادت الكاتب المغربي الشهير محمد شكري إلى أن يشرع أبواب صندوقه الداخلي للكتابة ومن ثم الاعتراف. زوايا معتمة ذهب إليها بكل جرأة غير مكترث بما يمكن أن يصيبه من وراء مسائلة التابوهات الثلاث.
إن المثالية في فهم الكتابة وماهيتها والغرض منها أمر لن يقارب الحقيقة خاصة في هذه المرحلة الملتبسة على الصعيد العالمي. صحيح أن العالم بحاجة إلى أن نكتب عنه ولأجله، لكن هل يمكن فعل ذلك من غير المرور من نافذتنا الذاتية؟ أرى أن الرواية تحديق بالذات وبالتالي دفعها إلى البوح من لحظة الشارع، فهي ليست تأريخًا ولا تصويرًا للواقع، إنما هي سفينة نوح المخيالية التي تأخذ من الواقع ما هو قابل لإعادة الإنتاج، والفرار به أمامَا نحو فضاء جديد، يخرج على الواقع نفسه، ويجترح حياة جديدة.
حينما يذهب الكاتب إلى مقاربة الزوايا المعتمة فهذا ليس خياره، إنما هو خيار المعاناة والصراع الإنسانيين. خيار يضمن له البقاء والاستمرار عبر تحقيق التوازن. وهو خيار لا علاقة له برأيي بالهروب إنما هو خيار المواجهة مع الذات ومع ما يحيط تلك الذات من تفاصيل في مكونها العام تتشكل الأزمة الإنسانية. لكن هذا ليس ذهابًا إلى الحلول، فالرواية كما هي متعارف عليها، لا تقدم حلولًا كما تفعل شتى أشكال العلوم، إنما تطرح الأسئلة وقوفًا على الواقع الذي لا يمكن أن يكون لولا الذات، وبالتالي رؤاها، وأزماتها. وتلك الأسئلة بتراكم تشكلاتها هي التي يمكن أن تقدم حلولًا حيال كثير من القضايا. من هنا يمكن القول إنه رغم امتعاض الكثير من القراء الذين يتمنون على الكتاب أن يعلوا من شأن الأمل في كتاباتهم، أن الروايات التي اتخذت من الوجع الإنساني موضوعة رئيسة وتغلغلت فيه جدًا، بقيت مقروءة، ويتعاطى معها القراء لأنهم وجدوا فيها مساحات تتقاطع فيها أزمة الشخصية مع أزماتهم، وبالتالي يمكن لهم كتابة رواياتهم الخاصة عبر فعل القراءة نفسه. على الصعيد العالمي ما تزال روايات كافكا رغم سوداويتها وغرابتها تقرأ على نطاق واسع، بل حتى يمجدها القراء لأسباب كثيرة مثل جودتها الأدبية. لكن السبب الأهم هو عثورهم على عناصر فيها جعلتهم قادرين على قراءة أنفسهم، وكأن الكاتب قال ما لم يستطيعوا قوله

 

المصدر: 
أثير العمانية