تشهد المكتبات العربية إقبالًا كبيرًا من القراء على الرواية الأجنبية المترجمة، بينما يبقى الإقبال على الرواية العربية في حدود أقل، إلا تلك التي نالت حظها من الجوائز، والإشادة الإعلامية.
وفي مقابل هذه الصورة تشهد الرواية العربية المترجمة إقبالًا أقل من العادي في المكتبات الأجنبية، إلا بعض روايات الأسماء الكبيرة كنجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل للآداب، وبنسبة عادية- قياسًا إلى معايير نجاح الكتب في الغرب- بعض الروايات التي نالت جوائز معروفة مثل (جائز البوكر العربية)، وبعض الروايات التي تستلهم موضوعات (شرقية) تغري الناشر والقارئ الأجنبيين في اكتشاف حال الإنسان العربي خاصة بعد أحداث 11سبتمبر.
والمراقب لمؤشر بيع الروايات العربية المترجمة إلى اللغات الأجنبية حتمًا سيلاحظ أن عددًا كبيرًا من تلك الترجمات لا يتجاوز أثرها خبرًا في صحيفة وغالبًا عربية. من الجهة الأخرى نال العديد من الروايات الأجنبية المترجمة إلى العربية صفة الأكثر مبيعًا، لكن نادرًا ما جنت الرواية العربية المترجمة هذا الوسام الذي يبدل حال الكاتب، والقارئ العربيين.
القارئ الذي ما عدتُ أؤمن بأرقام بعض المؤسسات الدولية التي ترى نسبة إقباله على قراءة الكتب متدنية، بل على العكس من ذلك تمامًا فإن نسبتهم في ازدياد ملحوظ، لكن عدم الاكتراث بقوانين الملكية الفكرية جعل كثيرًا من المواقع الإلكترونية تنشر كتبًا مجانية مُقرصَنة، الأمر الذي ساهم في تراجع مبيعات الكتب الورقية.
من الضروري، بل من الضروري جدًا، أن يقرأ العربي ما كتب الآخر، سواء كان قارئًا أم كاتبًا، أم أكاديميًا، وليس هناك من مجتمع منغلق على نفسه حقق خطوات في طريقه نحو التطور فكريًا وثقافيًا، ومن الضروري أيضًا أن نتعاطى مع القراءة كخيار إنساني حر.
الكثير من رواد الرواية العربية قد تأثروا برموز الرواية الغربية، أو لأقول بشكل آخر تأثروا بأصحاب السبق في هذا الشكل الأدبي الذي يشهد هذه الأيام رواجًا على الصعيد العالمي أمام تراجع الأضواء الإعلامية عن الشعر.
لكن واقع الرواية العربية ما عاد دوره فقط يحوم في دائرة المنتِج المتأثر، بل تأسست منذ زمن رواية بشروط وأساليب ورؤى عربية غاية في الأهمية، وما عاد لعلاقة المركز بالأطراف في هذا الشأن ذلك الأثر الذي يؤدي إلى نصوص تحاكي المصدر، خاصة أن مرحلة ما بعد الحداثة جعلت من الفرد مركزًا بحد ذاته، لكننا هنا أمام مسألة فيها اختلال توازن، فإضافة إلى الرصيد الروائي العربي المهم، تُصدِر دور النشر العربية سنويًا آلافاً من الروايات، ومن بين هذا الرقم اللافت وقد أخذ يزداد منذ تلك الحجر التي ألقتها الجوائز في المياه الراكدة، يمكنني القول إن هناك الكثير من تلك الروايات تتبوأ مكانة إبداعية عالية في رصدها واستشرافها لواقع الإنسان العربي في ظل المتغيرات العالمية الجديدة.
لكن القليل من هذه الروايات يتجاوز الطبعة الأولى مقابل الروايات الأجنبية المترجمة التي يعاد طبعها عشرات المرات. هل يكمن السبب في سوية الرواية العربية وجودتها إن تطرقنا إلى الأمر من زاوية النجاح أو ضده؟ ومن أي باب ظهرت تلك الطائفة من القراء التي تردد دومًا بأنها لا تقرأ إلا الرواية الغربية سواء بلغاتها الأصلية أو مترجمة؟ هل هذه قناعات أم هي تقليعة؟ ومن أسس إلى ذلك؟
رغم ما يأخذه البعض فيما يتعلق بغزارة الإنتاج الروائي العربي إلا إني أرى أن الرواية العربية في أفضل أحوالها، وكثير من هذه الروايات تتجاوز بقيمتها الإبداعية أعمالًا عالمية. إن ما يحدث بالتأكيد يدفع بالكاتب العربي إلى خارج أولويات القراء، وبالتالي تحدث قطيعة مخلفاتها خطيرة بين العربي وأهم منابر ثقافته.
من دون تعميم يمكنني القول إننا إزاء حالة لها أكثر من مسبب، أكبرها هو تغليب العنصر التجاري لدى الناشر العربي، وتغييبه للعنصر الثقافي الذي يفترض أن يكون ضمن توازن معقول مع نظيره (التجاري) ليضمن له الاستمرار. بسلوكهم هذا خلق بعض الناشرين العرب تلك الطائفة من القراء التي أشرت إليها، وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي وقد استخدمتها دور النشر تلك إعلاميًا وببراعة في إقصاء الكاتب العربي وجعله في آخر قوائم القراء، هذه الطائفة التي في نسبة ليست هينة منها تتخذ من خياراتها في القراءة مجرد تقليعة لا تفضي إلى أي رصيد معرفي ثقافي.
هناك الكثير من الروايات الأجنبية المترجمة تستحق الاهتمام والاحتفاء، الرواد منهم والجدد، لكن في المقابل هناك الكثير أيضًا منها لا يستحق ذلك. ثمة روائيون أجانب في هذه المرحلة صاروا نجومًا في العالم العربي بينما لا يحظون بهذه المقروئية في بلدانهم، فكيف خسر الروائي العربي مكانة بين القراء كان يفترض أن تكون له.
المسألة ليست شعورًا قوميًا أو وطنيًا حيال ما يجري؛ فالأدب إنساني في نهاية المطاف، لكن هذا الأدب هو ابن بيئته يستلهم رؤاه، وعناصره منها، وأهم هذه العناصر هو القارئ الذي نؤمن أنه جزء من عملية الكتابة وأهدافها بشكل أو بآخر.
ربما يقول قائل إن مسير الناشر في هذا الاتجاه فرضته متطلبات سوق الكتب. قلت مسبقًا إن دور النشر هي التي أسست لهذه المتطلبات، لذلك أؤمن أنه من المقبول والمنطقي حتى لو أننا ما زلنا في سياق المتغيرات والتبدلات العالمية أن نطالب بالتوازن التجاري بالثقافي لدى دور النشر، وهذا لن يتأتى إلا بجهود المؤسسة الرسمية العربية، والمؤسسات الأكاديمية، واتحادات وروابط الكتاب، ونوادي القراءة، والقراء أنفسهم.