تخطي إلى المحتوى
الفيلق المصري: ريا وسكينة وولادة القومية الشعبية الفيلق المصري: ريا وسكينة وولادة القومية الشعبية > الفيلق المصري: ريا وسكينة وولادة القومية الشعبية

الفيلق المصري: ريا وسكينة وولادة القومية الشعبية

مع صدور كتاب يوجين روغان «سقوط العثمانيين: الحرب العظمى في الشرق الأوسط» (2015 بالإنكليزية وترجم للعربية في عام 2018)، كنا أمام مشهد آخر في قراءة يوميات الحرب العالمية الأولى. لاحظ روغان، أنّ هذه اليوميات غالبا ما أهملت سير الجنود والضباط العثمانيين الذي شاركوا على الجانب الآخر، إلى جانب ألمانيا. ولذلك بحث لقرابة عشر سنوات تقريبا في سجلات الحرب عن يوميات ومذكرات هؤلاء الجنود. ومع قرب الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى في عام 2018، شاءت الصدف أيضا أن نكون أمام مجموعة من سير الضباط العرب الذين شاركوا في هذه الحرب أيضا. وأذكر هنا بالأخص يوميات الضابط البيروتي عبد الله دبوس، الذي روى لنا تفاصيل تدربه في قرية توزلا (القسم الاسيوي اليوم من إسطنبول) ولاحقا مشاركته في المعارك التي دارت في عمان والكرك.
كما أتاحت لنا هذه المذكرات فرصة التعرف مرة أخرى على إحسان الترجمان، الجندي الفلسطيني الذي كتب لنا عن يوميات عام الجراد في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى. والمهم في هذه المذكرات واليوميات، أنها كشفت عن وجود فاعل من طرف، ومؤلم من طرف آخر للعرب في الحرب الكبرى، وعن مئات الجنود الذين توفوا جراء البرد والإهمال، أو خلال المعارك، دون أن يحظوا بفرصة التأريخ لهم.
ويعدّ كتاب الباحث محمد أبو الغار «الفيلق المصري» (صدر حديثا عن دار الشروق)، امتدادا لهذه الكتابات التي تعنى بواقع العرب في يوميات الحرب العالمية الأولى. وعند المقارنة بين ما قدّمه أبو الغار في هذا الكتاب مثلا، وما قدّمه روجين، سيلاحظ القارئ أنّ الأخير كان أكثر حظاً على صعيد الكشف عن يوميات مجهولة لجنود مجهولين. وإن بقي هناك سؤال لم يجبنا عنه روغان، وهو ما الذي دفع بعض الجنود آنذاك لكتابة يومياتهم. هل هذا ناجم عن تأثّر بنخب تلك الفترة، الذين اندفعوا لكتابة يومياتهم ربما لشعورهم أنها قد تكون بمثابة توثيق للحظة، أو لتأثر ما بتيارات ثقافية غربية. ولعل هؤلاء الجنود، كانوا إما جزءا من هذه النخب أو مقربين منهم، وهذا ما نراه مثلا في حالة الجندي الترجمان، الذي يبدو أنّه تأثر بنصائح «أبو اليوميات الفلسطينية» خليل السكاكيني. وبالعودة للمقارنة، يذكر أبو الغار أنّ ما حال دون العثور على يوميات لجنود مصريين، هو أنّ معظم الذين شاركوا في هذه الحرب كانوا من الفلاحين، وفي الغالب لم يكونوا يجيدون الكتابة، أو لم تراودهم فكرة تدوين يومياتهم. كما يحول هذا الأمر لسبب آخر، عدم وجود حرية في الدخول للأرشيف المصري، مقارنة بالرحلات الميسّرة التي قضاها في الأرشيفات الغربية. لكن رغم هذا الغياب للصوت المحلي، سيتمكن أبو الغار من تقديم قراءة جيدة لواقع الفلاحين المصريين، الذين خدموا كعمال في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى (قرابة نصف مليون فلاح) عبر الاطلاع على مصادر وروايات أخرى (ضباط بريطانيين شهود)، وإعادة قراءة كل ما كتب تقريبا عن هذا الفيلق في الدراسات الجديدة حول مصر وفترة بدايات القرن العشرين (واذكر هنا بالأخص كتاب المؤرخ الأمريكي كايل أندرسون/فيلق العمل المصري 2021). وهذا ما مكنه من إعادة تقميش عشرات الاستنتاجات والوصول لقراءة مهمة في الفصل السادس حول فكرة ولادة القومية المصرية أو القومية الشعبية وفق تعبير المؤرخ الأمريكي جيمس غليفن.

الفيلق الخامس

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدت بريطانيا بحاجة ماسة إلى وجود عمال يساهمون في حفر الخنادق، ومدّ سكك القطار وأعمدة التلغراف وإزالة التلال وتمهيد الطرق وحمل الذخائر وجر المدافع وتكنيس المعسكرات وغسل الأواني والملابس، ولذلك وجدت في فكرة تجنيد فلاحين مصريين فرصة جيدة لسد العجز الذي كانت تعانيه على صعيد اليد العاملة. وهنا تشكّل ما يسمى بفيلق العمال المصري. ومما يبدو في خلاصة القراءات التي جمعها أبو الغار حول طريقة تجنيد هؤلاء الفلاحين، أنه في السنة الأولى من الحرب جرى الالتحاق بالفيلق بناء على ما كان يوفره البريطانيون مما كان يعتبر امتيازات، سواء على صعيد توفر الطعام (خبز بلدي وبقسماط وعدس ولحم) مقارنة بالريف الفقير، أو على مستوى الراتب (5-8 قروش يوميا)، والحصول على عفو من الخدمة العسكرية الإلزامية، بالإضافة لعامل آخر وإن بدا غير مؤثر، كما نعتقد، بالشكل الكافي، ويتمثل في الدعاية التي وفرتها بعض الصحف المصرية القريبة من الإنكليز، التي كانت تتحدث عن ضرورة الوقوف إلى جانب الإنكليز ضد العثمانيين. ستتغير هذه السياسة مع اشتداد المعارك، ما سيدفع الإنكليز وفق بعض الشهادات التي كتبت لاحقا في زمن محاربة الاستعمار خلال العشرينيات والثلاثينيات (وهو جانب لم يراعه أبو الغار كثيرا)، إلى أن يقوموا بالهجوم على بعض القرى وسوقهم بالإجبار. وهذا مشهد سيحفظه الفلكلور المصري من خلال الموال الحزين، الذي يبدأ بالمطلع الشهير: «بلدي يا بلدي والسلطة أخدت ولدي». وجراء ذلك، سنعثر على قصص مقابر فلاحين مصريين في فلسطين والعراق واليونان ومدن أوروبية عديدة، وهم يقومون بحفر الخنادق ويتعرضون للبرد الشديد، والوفاة أحيانا جراء ذلك.

رجال ريا وسكينة:

وكما ذكرنا، تمثّلت الفجوة في كتاب أبو الغار في غياب يوميات لهؤلاء الفلاحين توفر لنا فرصة للتعرف عليهم عن قرب. لكن هذا لن يمنعه من البحث عن مصادر محلية أخرى، مثل الأوراق التي نشرها الصحافي الراحل صلاح عيسى عن قضية المجرمتين ريا وسكينة (أوراق الجناية 33 لعام 1920 في قسم شرطة اللبان) التي كشفت أنّ معظم رجال ريا وسكينة (أزواجا أو ممن تعاملن معهم) قد خدموا في الفيلق المصري في مناطق مختلفة. وبهذا كان هؤلاء الرجال يتيحون من خلال الإفادات التي قدموها للشرطة خلال التحقيق معهم، مصدرا نادرا عما حدث لهم. فمثلا نتعرف على أحمد رجب (زوج سكينة الأول) الذي عمل في الفيلق، وأدى غيابه الطويل إلى انهيار حياته الزوجية. في حين نجد أنّ محمد عبد العال (الرجل الثاني من رجال سكينة) قضى في الفيلق ستة عشر شهرا (1917 في العراق). أما حسب الله، فقد سافر إلى جزيرة مودوروس، وعاد بعدها ووجد زوجته (ريا) تدير بيتا للبغاء السري فلم يعترض. ويعتقد صلاح عيسى أنّ شيئا غامضا حدث لهؤلاء الرجال أثناء العمل في الفيلق أدى إلى القضاء على تقاليدهم الريفية. فهؤلاء الرجال كانوا قد عاشوا في ظروف فقيرة وظنوا أنهم بالتحاقهم بالفيلق سيعودون للعيش حياة أكثر راحة في الإسكندرية. فإذا بهم يجدون أنفسهم في سيناء والشام والعراق وفرنسا في ظروف مناخية صعبة، ويعملون تحت القصف المتوالي، وتعودوا على رؤية الأشياء والدماء وتبلدت أحاسيسهم تجاه الموت. وربما هو ما يفسر قبولهم لاحقا المشاركة في إخفاء جثث النساء اللواتي قتلن على يد ريا وسكينة. وهذا الاندفاع نحو المشاركة في حوادث العنف لن يقتصر على شركاء ريا وسكينة من الفيلق، بل شمل العديد ممن شاركوا في الفيلق، وهذا يفسر في رأي صلاح وأبو الغار تغيّر نمط الجرائم وتزايدها في مصر عقب الحرب العالمية الأولى.

راوٍ إنكليزي وفلاحون ثوار:

في مقابل غياب الراوي المحلي، سيخصّص أبو الغار الفصل الثالث لنقل وترجمة ما دونه الضابط الإنكليزي الشاب إرنست فينابلز عن حياة المصريين في الجيش البريطاني، خلال إشرافه على إدارة ألف فلاح تقريبا في فلسطين. كما ينقل عن تقارير بريطانية أخرى واقع الفلاحين المصريين في فرنسا، بعد أن أرسلوا إلى هناك لحفر الخنادق، وكيف أخذوا يعانون من الصقيع، «ووجدوا أنفسهم أمام لغة لا يعرفونها.. ولذلك كان عليهم أن يلزموا الخناق، وكان المترجمون من المغاربة لهم لهجة مختلفة تماما، والطعام كان مختلفا ولحم الخنزير كان مشكلة كبرى لهم.. ومات كثير من الفلاحين في هذه الأثناء ولم تسجل الوثائق البريطانية جميع الوفيات».

ظهور القومية الشعبية:

لن يقتصر تأثير رجال الفيلق الخامس بعد عودتهم على المشاركة في عمليات القتل والجرائم (مثلما رأينا في قصة ريا وسكينة)، بل يشير أبو الغار في الفصول اللاحقة إلى دورهم في ثورة 1919. وهو دور همّش في الغالب لصالح التركيز على سردية أنها ثورة أفندية المدن الكبرى. وهنا يعتقد المؤلف أنّ أحد العوامل التي دفعت الفلاحين المصريين للمشاركة في هذه الثورة، ما عانوه من آثار جراء حملات التجنيد في الفيلق (نصف مليون)، وأهمها انخفاض المحصول، وارتفاع الأسعار. وبالتالي فثورة الريف في 1919 هي ثورة سببها الجوع والظلم في الريف، بالإضافة إلى القهر الذي صاحب تكوين فيلق العمال في الحرب العالمية الأولى. لكن دور الفلاحين وعمال الفيلق لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيصل أبو الغار إلى نتيجة مهمة في الفصل السادس تقول إن مشاركتهم في حراك 1919 ساهم في ظهور القومية المصرية.
قبل هذه الأحداث حاول لطفي السيد من خلال حزب الأمة (الارستقراطية المصرية وفق ما يقول لويس عوض) ومصطفى كامل عبر الحزب الوطني (البورجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى وفق قراءة لويس عوض) تقديم رؤية معينة للقومية المصرية، لكنها ظلت رؤية نخبوية. في حين نرى أنّ مشاركة الفلاحين وعمال الفيلق ساهمت في ولادة «قومية الأمة المصرية»، إذ اعتبر المثقفون، الفلاحين الذين أخذوا بالقوة إلى الفيلق المصري رمز مصر، وأعلن سعد زغلول أنه فلاح ابن فلاح، ليتوارى شعار الأمة الإسلامية (الأفغاني) وأفكار لطفي السيد عن وحدة الأمة المصرية. وهكذا نرى كيف لعبت روايات الظلم التي دارت حول معاناة عمال الفيلق الخامس دورا على صعيد دفع الآلاف منهم إلى المشاركة، وفي تشكيل هوية متخيلة جديدة عن مصر وأهلها. وهي نتيجة تذكرنا بقراءة المؤرخ الأمريكي جيمس غلفن، حول صعود النزعة القومية الشعبية بعد قدوم فيصل لسوريا عام 1920، وتمثّل هذا الصعود بتراجع دور بعض النخب المحلية التقليدية لصالح سياسات جماهيرية ومنظمات حلت محل التنظيم التقليدي الضيق. ويبدو أنّ هذا ما كان يحدث في مصر من خلال محاولة سعد زغلول اجتذاب جمهور آخر (الفلاحين) لتشكيل جمهور سياسي جديد. فالثورات التي قادها الفلاحون وعمال الفيلق السابق ضد الإنكليز ليست إلا أمثلة على ما يسميه تشارلز تيلي «أعمالا جماعية تفاعلية»، ولذلك يبدو أن الظروف في البلدين (مصر وسوريا) كانت تسير بشكل متشابه في مسارات عديدة، وأهمها بروز النزعات الجماهيرية. ولعل هذه النتيجة تزيد من أهمية كتاب أبو الغار، لفهم الظروف التي كانت تتشكل في بدايات القرن العشرين في مصر والمنطقة عموما.

المصدر: 
القدس العربي