يحظى العربي بنجلون (مواليد فاس 1947) بالكثير من التقدير في وسط الثقافة والأدب في المغرب، وفي الخارج أيضاً. فالرجل ذو تجربة كبيرة ومهمة في ميدان الكتابة الخاصة بالطفل، تحديداً في مجال التأليف، فضلاً عن النقد والتأطير والمتابعة.
اشتغل ما بين التدريس والإعلام. شارك في تحرير صحيفة "الشعب" المغربية منذ نهاية الستينيات إلى أواسط السبعينيات، وكان عضواً في اتحاد الصحافيين العرب في هولندا، كما شغل منصب رئيس تحرير القسم العربي في الشركة الدولية للإعلام في سويسرا، ومدير مجلة الطفل "سامي"، ومدير تحرير مجلة "كتابات" الفكرية والإبداعية. معظم مؤلفاته كانت مخصصة للطفل، وله كتب أخرى في السيرة الذاتية والنقد والبيبليوغرافيا وأدب الرحلة.
اعتمدت دول أوروبية، ومنظمات عالمية، كـ "منظمة البحث عن أرضية مشتركة" في أميركا، إنْتاجه القصصي في التربية غير النظامية. نشّط "ساعة الحكي" للأطفال في العديد من المدارس والإعداديات والمعاهد والنوادي والجمعيات والدور الاجتماعية في المغرب ودول عربية وأوربية. وحاضر في كليات الآداب ومعاهد الإعلام داخل المغرب وخارجه.
عن قيمة أدب الطفل بين الآداب الأخرى، وعن استسهال الكثيرين له، وعن الروح التجارية التي صارت تطغى عليه، وعن مواضيع وإشكالات أخرى يدور هذا الحوار.
* لنعد إلى البدايات. أصدرت أواخر الستينيات جريدة خاصة بالطفل، لكنها تعرضت لمضايقات غريبة. حدثنا عن هذه التجربة؟
- في 1969، كنت معلماً في مدينة مولاي إدريس، حيث كانت هناك مدرستان وثانوية، ففكرت في إصدار صحيفة بواجهتين: الأولى للأطفال الصغار من ستّ إلى تسع سنوات، والثانية للفتيان من عشر إلى سبعَ عشرةَ سنةً. وكان عليَّ أنْ ألتزم بقواعد الكتابة للصغار والكبار معاً، مما جعلني أقتني كتب علم النفس والتربية وأدب الأطفال، لأستأنس بها. وبالفعل، نجحت التجربة وذاع صيْتُ الصحيفة في المدينة. لكنَّ هذا النجاح أزعج المحافظين، وتوجّسوا من أهدافها التي قد تُطيح بمكانتهم في المدينة. الأمر الذي دفع بهم إلى تحريك القضاء ضدها، بحجة أنها توزَّع في المدارس. لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فقد حضر إلى المدينة الصغيرة، نائب الوكيل العام، وأجرى معي تحقيقاً، أسفر عن إطلاق سراحي. وكانت الكلمة التي تلفّظ بها، ولن أنساها، هي: "لو كان يوجد عشرة أساتذة مثلك، لأصبح المغرب يابان العالم العربي!"
* هل اختلف تلقي أدب الطفل اليوم قياساً مع تلك الفترة؟
- أظن أن كل ما كان يصدر في تلك المرحلة، ما زال إلى اليوم، يُطبع مرات متعددة ويُستهلك من طرف الأطفال والأساتذة، على الرغم من تطور الأجيال ووسائل الاتصال. فمثلاً، مجلة "العربي الصغير"كانت تصدر منذ الخمسينيات وما زالت. وكتب جحا والأنبياء والمكتبة الخضراء، كانت وما زالت. أي أن أدب الأطفال، لم يُستغن عنه. وبالتالي، فلا شيء تغير. وما زال الأطفال في كثير من المدن المغربية، يستهلكون الكتب والمجلات السالفة الذكر. بل حتى الأساتذة، يتوارثونها عن سابقيهم، ولم تؤثر فيها التحولات الطارئة. كما أن جولاتي في المؤسسات التعليمية، أكدتْ لي أن لا فرق بين تلقي طفل اليوم عن الأمس، في المدن القديمة والأحياء الشعبية من المدن الكبرى، وفي القرى والبوادي، وهي الأماكن حيث وجود أكبر شرائح الطفولة المغربية. وهذا سيؤثر، بالتالي، في تطور البلاد، إذ ستظل رهينة الماضي، ولن تعرف أي تقدم في الجوهر.
* دعني أسألك عن مسألة القيمة والاعتبار. هل يُنظر في عالمنا العربي إلى أدب الطفل بوصفه أدباً من درجة ثانية؟
- ألاحظ أن رؤية العالم العربي إلى أدب الطفل، تتخذ لها بُعْدين: الأول، هو وسيلة للربح المادي، كأي منتوج آخر، من سلع وبضائع، إذ يُستغل تجارياً فقط. والثاني، هو وسيلة لملء الفراغ، وتمتين المستوى اللغوي ليس إلا. وهذا يدل على أن العالم العربي لم يُدرك أهمية أدب الأطفال في الإبداع والفكر والتنمية، وأنه الوسيلة التي تدعم التعليم، لتكوين الإنسان المبدع في المجالات كافة!
*: اشتغلت في التعليم منذ الستينيات كما أشرتَ من قبل. هل كانت مهنتك بوابة نحو أدب الطفل؟
- أجل، فالتعليم هو الذي أوحى إلي بأهمية أدب الطفل. ذلك أنني في بداية عملي، واجهت مشكلة التفاعل مع تلاميذي، ففكرت في تغيير طريقة تواصلي معهم، وهو ما جعلني ألتجئ إلى التدريس عن طريق القصة والمسرح واللعب... ثم لملمت تلك الأعمال، وأصدرتها في كتيبات، كسلاسل قصصية ومسرحية وشعرية.
* كان انشغالك بأدب الطفل من مداخل متعددة: التأليف والنقد والعمل البيبليوغرافي. هل ثمة مسافة بين النقد والإبداع في مجال أدب الطفل؟ أم أن الحقلين يكملان بعضهما؟
- بعد تجربة طويلة في الكتابة للطفل، رأيت أن عدداً من الكتّاب، يستسهلون هذا اللون من الكتابة، فيعيدون قصص جحا وابن بطوطة والرسل وكليلة ودمنة وألف ليلة، كما هي، أي لا يكيفونها مع مستوى الطفل اللغوي والنفسي والفكري وحتى التربوي، ما يدل على أن هؤلاء يتوهمون أن الكتابة للطفل سهلة، انطلاقاً من حجمه وسِنِّهِ، الأمر الذي حفزني على تأليف كتب في ثقافة الطفل، منها: (ثقافة الطفل: مبادئ وقيم) الصادر عن دار التوحيدي، وسيصدر قريباً كتاب آخر بعنوان: (أدب الطفل: تأسيس وتجنيس)
الخصائص الادبية
* ما المهارات التي يحتاجها مؤلف هذا النوع من الأدب؟ لا أتحدث هنا عن المعرفة، فأحياناً يبدو لي أن كاتب أدب الطفل عليه، وهو يكتب، أن يتقمص روح الطفل وأن يلج عالمه ويتماهى معه.
- أهم نقطة في الكتابة للطفل، هي معرفة مراحل النمو وخصائصها اللغوية والنفسية والفكرية، سواء كان هذا الكاتب عربياً أو أوروبياً أو أميركياً... لأن مراحل النمو عند الطفل عامة ومتشابهة، والاختلاف يتجلى في المضمون، من قيم اجتماعية ودينية وتقاليد... وثاني نقطة، هي توظيف أقل ما يمكن من الشخصيات والأحداث، وما قل ودلّ من الكلام، لأن الطفل يتيه وينفر من تعدد الوجوه والوقائع والكلام. والثالثة، هي انتصار الخير على الشر بالتفكير الجيد، كالحيلة... والرابعة، هي روح التفوق وتحقيق الآمال والأحلام!
* هل تسللت الروح التجارية إلى أدب الطفل، كما يحدث مثلا ًفي الرواية؟ أم أنه لا يزال أدباً بريئاً وحالماً؟
- أدب الطفل، هو الوحيد الذي يُستغل تجارياً، أكثر من أي أدب آخر، بل هناك من يؤلف فيه من دون أن يذكر اسمه، لأن ما يهمه هو الربح فقط. ولهذا نجد كثيراً من الدور تعيد طبع قصص جحا واحديدان (أسطورة شعبية مغربية) والحيوانات والأنبياء والصحابة، سعياً وراء الربح، لا التثقيف والتعليم والتربية. وأذكر أنني في معرض بدولة عربية، رأيت طفلاً يريد اقتناء كتاب، فسألته: ما الذي أعجبك في هذا الكتاب؟ فأجابني: لا شيء، أريد أن أشتريه بما لدي من نقود! وإذا بالكتبي يعبس في وجهي، ويرسل من عينيه شرراً، لأنه لا يريد أن تضيع منه هذه الفرصة، ولا يهمه ما إذا كان الطفل سيقرأ الكتاب أم لا! وما كان مني إلا أن أرشدت الطفل إلى كتاب آخر.
* هل تصادف أحياناً نصوصاً موجهة للطفل فيها اعتداء على روح الطفولة؟ أقصد أننا قد نجد أدباً موجهاً للطفل، هو في الحقيقة أدب ضد الطفل.
- لن أبالغ إذا قلت لك إن الكثير مما يُكتب للطفل، لا علاقة له به، لأنه لا يوجد نقاد لهذا الأدب، ولا لجان للقراءة. بل هناك كتب مدعمة، وهي موجهة للأطفال، تحتوي على مشاهد عنيفة جداً، أكثر مما تفعله داعش، كتعذيب الأم، وقطع الأخ لرأس أخيه! ولقد سبق لي أن اعترضتُ على فوز إحدى القصص بجائزة كبيرة، لأنها تتضمن مثل تلك المشاهد، على الرغم من أن كل أعضاء اللجنة وافقوا على منحها الجائزة، إلا أن تحليلي للقصة، دفعهم إلى التراجع. فأنا لا أستسيغ كيف نتلاعب بمصير الأجيال، ولا كيف ننشر أو نطبع أو نمنح جائزة لكتب ستفسد سلوك أطفالنا، وستعمق تفشي الجريمة والأمية وكل الأمراض الاجتماعية في تربيتنا.
الجانب النفسي
* بدأتَ الكتابة للطفل بروح توجيهية مباشرة ورسائل واضحة "تلقين الأخلاق"، ثم تحولت لاحقاً إلى التركيز على الجانب النفسي للطفل، والخيال العلمي أيضاً، والانفتاح على قضايا أكثر راهنية. ما سرّ هذا التحول؟
- فعلاً، هذا التدرج في الكتابة يعود إلى تطور فكري بالقراءة والملاحظة، لأن هذين العاملين أساسيان في تطوير الإنسان والحياة، ولولاهما لجمدنا وبقينا في النقطة ذاتها التي فتحنا عليها أعيننا. وخلال السنوات الأخيرة، انتقلت بمواضيع الكتابة إلى المعالجة النفسية، أي أن الطفل يستطيع أن يعالج نفسه من خلال قراءته للقصة، وأعطي مثالاً بمجموعة "الطفل الناجح" التي تتناول الأمراض النفسية الشائعة، كالخجل والانعزال والانطواء والخوف وفقدان الثقة... ثم انتقلت، أخيراً، إلى الفلسفة، التي تعوّد الطفل على التساؤل والملاحظة الدقيقة، وستصدر قريباً مجموعة بعنوان: "الفيلسوف الصغير". وكان العنوان الأول لها "قصص فلسفية للأطفال"، فحوّلته إلى العنوان الثاني، لأن دور النشر، خشيتْ أن تلقى انتقاداً حاداً. فالفلسفة في نظر الكثيرين، تشكك في المعتقد، بينما هي تعالج مواضيع اجتماعية وتربوية، كجدوى الصداقة والحب والتعاون والتضحية والإيثار... إذن، كان لا بد من أن تتطور تجربتي في الكتابة، وألا أظل متشبثاً بمواضيع وأشكال مستهلكة وما زالت، إلى يومنا هذا، متداولة في الكتابات الموجهة للأطفال.
* تعاملت مع منظمات دولية، إذ كنت تؤلف، انطلاقاً من ورشات خاصة بالأطفال، قصصاً تشجع على حب الدراسة، وكانت هذه القصص، المدعومة من ألمانيا والدانمارك وبريطانيا، توزع مجاناً، وبمعدل مئة ألف نسخة من كل قصة. يبدو أن العالم العربي غير معني، على ما يبدو، بمثل هذه التجارب الرائدة.
- هذا لون آخر من الكتابة، لأنه موجّه لأطفال التربية غير النظامية، أي الذين لم يكملوا دراستهم، أو لم يلتحقوا بالتعليم في المدارس. فكان من الضروري أن نعتني بهذه الشريحة، لكن غالبيتها من اليافعين، المقبلين على العمل والاعتماد على النفس في تدبير شؤون الحياة. والكتابة في هذا المجال، تعتمد على ورشات، تُسْفِر عن مجموعة من الأفكار التي ستتضمنها القصص أو المسرحيات وتُكتب بلغة وسطى، ليست بالعامية ولا بالفصحى المقعرة، فإن قرأتها تظنها دارجة، وهي عربية فصيحة، بحيث أستغل الألفاظ والتعابير الفصيحة، التي توجد في العامية، حتى يستوعبها القارئ. مثلاً، قصة "هذا كل ما جرى" و"زواج ليلة". وهذه السلسلة، تهيئ اليافعين لممارسة الحياة العملية، وتزودهم بالترسانة القانونية والأخلاقية، المتعلقة بالشغل وبمدونة الأسرة والوساطة في النزاعات والانتخابات... ونجاحها تجلى في عدد النسخ المطبوعة التي تتجاوز أحياناً، مئة ألف، وتوزع مجاناً في القرى والدواوير والأحياء الفقيرة في المدن. وبالنسبة إلى العالم العربي، فتوجد فيه مثل هذه الكتابات، لكنها قليلة، وباللهجة العامية التي لا ترتقي بالفتيان إلى القراءة بالفصحى، فيظل في المستوى اللغوي والتعبيري ذاته، بينما الأعمال المغربية، تأخذ بيد قارئها إلى مستوى أعلى. وأستشهد بإحداهن أصبحت شاعرة، وأصدرت ديواناً في فاس!