ليست الكتابة انتصاراً على شيء. إنها، فحسب، إعلان بالغ الصدق والمجانية، بأن ثمة حياة جديرة بأن تُعاش، بالشرط الكوني للجمال والحرية اللذين يشكلان دائماً الحلم الأبدي للإنسان. والشاعر هو من بين الكائنات المعنية بالحفاظ على شعلة هذا الحلم متأججة ومحتفظاً بها في الشغاف. من هنا كنت أقول إنني كلما أخلصتُ لهذا الحلم عن طريق الشعر، تيسر لي الاطمئنان بأن الشعر يحميني ويحصنني ويثق في حبي له، وبالتالي لا يخذلني.
٭ ٭ ٭
الكتابة، هي أيضاً، تشبه الإنسان الذي يكتشف أنه لا يحسن صناعة أي شيء في الحياة، وليست له خبرات، سوى قدرته على التعبير عن نفسه باللغة. على الصعيد الشخصي، لا أستطيع أن أتخيل نفسي بعيداً عن الكتابة، بل إنني لا يمكن أن أتخلى عن الكتابة، لأنها سلاحي الوحيد، وحصني الوحيد، وقوتي الوحيدة، حيث الشاعر أكثر الكائنات ضَعفاً بهذه القوة الوحيدة.
الشعر هو شريك حياتي، وهو الشيء الذي أعيشه يومياً، وأنهمك به كل لحظة، وهو حلمي الجميل الذي يمنح حياتي معنىً خاصاً ولذة نادرة. لم أطلب في حياتي شيئاً آخر سوى الشعر. الشعر هو همي وهاجسي ودليل خطواتي. الشعر، في حياتي، لا ينازعه هاجس آخر على الإطلاق. لقد عشت تجربة السجن المريرة وكان الشعر هو الذي يحميني ويمنحني قوة صمود الأمل، لذلك لم أهزم في داخلي. فعندما تهزم الوسائل جميعها، يبقى الشعر خندق الدفاع وقلعة الحياة القوية، كان الشعر هو الذي حماني من الانهيار أو الهزيمة.
٭ ٭ ٭
ليس ثمة عذاب عندما يتعلق الأمر بكتابة الشعر. على العكس من هذا، إنني أقول دائماً بأن لحظة الشعر هي لحظة الجمال والمتعة والجنة الرائعة. ليست هناك لحظة حياة حقيقية مثل لحظة الشعر، لا عذاب أبداً، وإذا كان ثمة عذاب فهو هناك، خارج الشعر، في الحياة، قبل الكتابة وبعدها. من هنا قلت إن الشعر يحميني من العالم. فكلما صرتُ في الشعر شعرتُ بأنني في المكان الآمن للحياة.
٭ ٭ ٭
يمكنني القول بأن اللغة أكثر من الروح في النص.
إنها الصلب الأول والفرح الأخير.
وكلما صدر الشاعر عن العشق العميق للغة، حَقَّ له أن ينعم بخيراتها. ليس ثمة شاعر يبدع شيئاً إذا استخفَّ أو تقاعس أو استهان بما بين يديه من الثروات الباهرة الجمال، البالغة الخطورة في آن.
اللغة، لدى كل شاعر، هي شخصيته الخاصة، لا يقصر عنها ولا تقصر عنه. لا يقلّدها ولا يقلّد غيرها. لكن قبل ذلك وبعده، ليست اللغة أداة مفصولة عن النص والشخص كلما تعلق الأمر بالحياة. ليست اللغة فرض من اللعب الخارجي المقفوز به (المقفوز عليه) في الهواء. فالوقوف عند صقل اللغة وتغنيجها سيؤدي غالباً إلى إنتاج الأشكال الفقيرة للحياة. والأخطر في هذه اللحظة هو أن يكتب الشاعر نصاً لا توصله المسافة بين الحياة واللغة، ففي اللغة من الحياة ما يستعصي على التقدير.
من هنا أشعر دائماً بالرهبة كلما جلستُ أقرأ نصي الجديد، وأرقب حركة الحياة في تلافيفه، في ثناياه وفي عناصره وفي أحلامه. ربما هذا هو الشعور الذي يمنح الشخص امتحاناته الحاسمة: اللغة بوصفها حياة.
٭ ٭ ٭
الشاعر، فيما يثبت قدرته الإبداعية، لن يتوقف، ولن تمنعه المواضعات الموروثة، عن ابتكار لغته: شكلاً وروحاً وتألقاً. ففي حين ينبغي عدم التنازل عن حق الشكل الجديد في الكتابة، ليس من الحكمة التفريط بحق المسّ الشفيف، لكن العميق، بالماضي المعاصر، وهو واقع يقع على كواهلنا بلا هوادة، واقع ليس من الحكمة الزعم بالقدرة على تفاديه لحظة الكتابة. غير أن شرط الفن الذي يقترحه علينا المبدع، هو ما يمنح الشعر حريته الفنية وقدرته الفريدة في سبر هذا الواقع دون الخضوع له أو مجاملته.
٭ ٭ ٭
في الكتابة الأدبية، الشعر خصوصاً، لا معنى لنص دون الذاتي العميق فيه، بالمعنى الذي تنداح فيه شخصية الشاعر بحرية، ولكن بجمالية تقنعنا بأنها جديرة أن تهتك مواصفات المألوف وتجترح ما يختلف ويخالف ويتجاوز المستقر والثابت. الشخصية الذاتية للفنان في كتابته هي عنصر مقدس ليس من الإنسانية التنازل عنها أو التفريط بها.