تخطي إلى المحتوى
اليمين أو اليسار: ديمقراطية اختيار من سيفترسك تالياً الذئب أم الثعلب! اليمين أو اليسار: ديمقراطية اختيار من سيفترسك تالياً الذئب أم الثعلب! > اليمين أو اليسار: ديمقراطية اختيار من سيفترسك تالياً الذئب أم الثعلب!

اليمين أو اليسار: ديمقراطية اختيار من سيفترسك تالياً الذئب أم الثعلب!

يسمونه عام «الديمقراطيّة»، حيث يتوجه أربع مليارات شخص – أي نصف سكان الأرض – إلى صناديق الاقتراع لاختيار نواب عنهم إلى البرلمان آت، وبالتالي تنصيب حكوماتهم وحكامهم: من الهند إلى أوروبا، ومن فنزويلا إلى الولايات المتحدة. ومع وصول هذا العدد من صحيفة القدس العربي اليوم «الجمعة» إلى القراء تكون نتيجة الانتخابات التشريعية المبكرة في بريطانيا (عدد سكانها 67 مليون نسمة) قد أعلنت بالفعل على شاشات التّلفزيون منهية أيّام حكومة ريشي سوناك في السلطة بعد 14 عاماً من حكم حزب المحافظين، بينما يتحضرّ الناخبون في الجارة فرنسا (عدد سكانها 68 مليون نسمة) لحسم نتيجة انتخاباتهم التشريعية المبكرة من خلال الإدلاء بأصواتهم في الجولة الثانية هذا الأحد، والتي تشير بدورها إلى هزيمة قاسية لحزب النهضة، حلفاء الرئيس إيمانويل ماكرون وانتقال السيطرة على الجمعية التشريعية – وتشكيل الحكومات – إلى مناهضيه في أقصى اليمين المتشدد.
انتقال السّلطة المتزامن في البلدين يسير مع ذلك في اتجاهين مختلفين: فالبريطانيون يزيحون اليمين ويستبدلونه بحزب يسار الوسط، فيما الفرنسيون يزيحون الوسط ويستبدلونه بأقصى اليمين. فهل الذي بين بريطانيا وبين فرنسا لمختلف جداً، فلا تُحَرّك الناخبين على جانبي القنال الإنكليزي ذات الدوافع، ولا تقلق ليلهم الهواجس ذاتها؟
لقد تراجع مستوى معيشة الغالبية العظمى من الأوروبيين على اختلاف دولهم خلال العقد ونصف الأخير، إذ تضخمت أسعار مختلف السلع والخدمات بشكل أعاد لهم ذكريات الحرب العالمية الثانية، وفقدت أجورهم من قيمتها الحقيقية مقارنة بالأجور أيّام أجدادهم قبل 75 عاماً، فيما فرضت عليهم الحكومات خدمة سنوات أطول، قبل أن يتاح لهم التقاعد، وقللت أو حجبت عنهم التقدمات الاجتماعيّة التي اعتادوا عليها طوال عقود، وتركتهم حكوماتهم عمداً فريسة للغوغائيين والشعبويين وتجار الحروب الثقافيّة ليعبثوا بعقولهم كي يلقوا باللائمة في كل ذلك على المهاجرين من بلاد كان الأوروبيون شركاء أساسيين في تخريبها.
وفي هذا الوقت، أتلفت النّخب الحاكمة عبر القارة الميزانيات العامّة عبر حرق مليارات الدولارات، فيما لا يخدم مصالح أكثرية المواطنين، بداية لإنقاذ المقامرين في الأسواق المالية، خلال الأزمة المالية العالمية 2008، وتالياً للتغطية على سوء إدارتها لمرحلة تفشي وباء كوفيد-19، وأخيراً في دعم المجهود الحربي لأوكرانيا في مواجهتها مع روسيا، بينما تركت البنية التحتية وما تبقى من الخدمات العامة لتتآكل وتهرم وتتيبس.
هذا كلّه، تسبب في تراكم مشاعر الغبن والسخط في قلوب الغالبية العظمى من المواطنين على نحو أخذ – كما هو المفترض بالنظام الديمقراطيّ – شكل تصويت احتجاجي في كل فرصة انتخابيّة، فتعاقب فيها النخب الممسكة بزمام السلطة، وتمنح فرص الصعود لكل ذي صوت عال في انتقادها – يميناً أو يساراً -. وهكذا شهد العقد الماضي تحولات ظاهرة في تركيبة النخب السياسية مع بروز ظاهرة أحزاب وشخصيات تأتي من أقصى اليمين وتقفز إلى السلطة في غير ما بلد، أو تقود المعارضة فيها.
ويحق للمراقب هنا أن يفترض أن ما يجري عمليّة صحيّة في إطار الديمقراطيات الليبراليّة، تتيح تداول السلطات بدون إراقة دماء، وينتخب في إطارها المواطنون من يرون أنهم الأقدر على إدارة مصالحهم، والأقرب إلى تمثيلهم. لكن الغوص في تفاصيل ديناميكيات هذه العمليّة يظهر أن ذلك أقرب إلى أحلام اليقظة، إذ يتبيّن دائماً أن البدائل ليست حقيقية، وأن النخب الحاكمة ذاتها تظلّ في موقع السيطرة على الدولة عبر تقديم خيارات من ذاتها في لعبة كراس موسيقيّة تمنح المواطنين وهم الاختيار، بينما هي في الحقيقة مجرد تغيير في الألوان والوجوه دون المضمون.

في بريطانيا: ديمقراطية الكراسي الموسيقيّة

يتفق جميع البريطانيين تقريباً على أن حكومات المحافظين الخمس المتعاقبة على حكم المملكة خلال 14 عاماً قد أوصلت البلاد إلى حالة يرثى لها: تضخم وفقر وجريمة وتقشف وفساد وخدمات متردية وفضائح متتالية. لقد أتى الناخبون بالمحافظين في 2010 على أمل إنقاذ المملكة من الفوضى التي أسقطتهم فيها حكومة حزب العمال: توني بلير وتابعه غوردن بروان، التي نفذت سياسات ليبرالية الطابع أضرت بالطبقة العاملة، وورطت المملكة في حروب أفغانستان والعراق بالضدّ من الرغبة الشعبيّة، وقدمت مليارات الجنيهات من أموال دافعي الضرائب لإنقاذ البنوك والمضاربين في الأسواق المالية من الانهيار عشيّة الأزمة المالية العالمية عام 2008. بلير ورفاقه، كانوا بدورهم صعدوا إلى السلطة بأصوات الناخبين الغاضبين من سياسات حكومات المحافظين خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات. وها هم أبناء وأحفاد هؤلاء يكررون ما فعل آباؤهم، وسيعاقبون المحافظين ويستبدلونهم مجدداً بحزب العمّال.
والسؤال هنا لم لا يكسر الناخبون البريطانيون هذه الحلقة المفرغة من تعاقب الأزرق – لون المحافظين – والأحمر – لون العمال – حيث تتغير الحكومات وتتقلب الوجوه دون أن يحدث أي تطور نوعي في الأوضاع القائمة المثيرة للسخط، ويأتون ببديل ثالث، يمكنه أن يكسر نمطية استغفالهم المتكرر؟ والإجابة على هذا السؤال بسيطة للغاية وهي أن هيكلية العمل السياسي المصرح به قانوناً تقوم على واقع اقتصار قنوات الممارسة السياسية الفاعلة على منظمتين حزبيتين اثنتين كبيرتين لا ثالث لهما عملياً، بحكم أنهما وحدهما يمتلكان القدرة والماكينات الانتخابية اللازمة لتقديم مرشحين في الانتخابات على المستوى الوطني، فيما يقتصر وجود عديد الأحزاب الأخرى والمستقلين على مناطق محدودة جغرافياً فيظل عدد نوابها مهما عظم صغيراً مقارنة بكتل الحزبين الكبيرين، وبالتالي تنتقل السلطة، بحسب سخط المواطنين من الأزرق إلى الأحمر، وفي المرة التالية من الأحمر إلى الأزرق، وهكذا دواليك دون أفق لإحداث تغيير حقيقي. إنها ديمقراطية اختيار من سيفترسك تالياً: الذئب أم الثعلب.

في فرنسا: ديمقراطية على المقاس

الفرنسيون، كما جيرانهم البريطانيين، غاضبون من الفقدان التدريجي لامتيازات دولة الرعاية، ويعانون مثلهم من ارتفاع تكلفة المعيشة، وتردي الخدمات وانتشار الجريمة. وبالطبع هم ساخطون بدورهم على النخبة الحاكمة ويريدون تغييرها. البدائل: حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد. بعد نصف قرن في مقاعد المعارضة، قفز فاشيو فرنسا إلى المقدمة بعدما عملت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها النخبة ذاتها على خلق وحش اسمه المهاجرون وتحميله كل ذنوب السلطة، ومن ثم قدّمت لهم بديلاً من ذاتها: اليمين المتشدد. ومن المحتمل الآن أن يتولى هؤلاء بعد جولة الأحد تشكيل الحكومة الفرنسيّة الجديدة أو التأثير على مجمل صيغة الحكم التالية. لكن المثير، أنهم رغم شعاراتهم ووعودهم الكثيرة بالتغيير أصبحوا فجأة على أبواب السلطة وهم أقرب إلى تكريس الأوضاع القائمة.
الديمقراطية المستحيلة
ربّما تظل الديمقراطية على عيوبها الظاهرة الحد الأدنى للحفاظ على السلم في المجتمعات، لكن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حققته البشرية والأدوات التي تتوفر عليها ينبغي أن تسمح في المحصلة بتطوير هذا النظام إلى نموذج أكثر فاعلية لمصلحة الشعوب. على أن السؤال يبقى: هل ستسمح النخب الحاكمة بتبني صيغ تتيح إزاحتها من السلطة. ذلك ليس ممكناً قطعاً، ولذا ستستمر الأزمات، وتتكرر المسرحيات، وكل انتخابات وحكومة جديدة-قديمة ونحن على مائدة السراب.

المصدر: 
القدس العربي