تخطي إلى المحتوى
بيبليوثيرابيا»: وصفة كتب بدل وصفة دواء بيبليوثيرابيا»: وصفة كتب بدل وصفة دواء > بيبليوثيرابيا»: وصفة كتب بدل وصفة دواء

بيبليوثيرابيا»: وصفة كتب بدل وصفة دواء

في العادة، الجزائريون لا يقصدون الطبيب النفساني، فمن يذهب إلى ذلك الطبيب يخشى نظرة الآخرين إليه، يخاف أن يوصف بكلام مشين أو يعتقد أحدهم أنه يدنو من الجنون، لذلك فإنهم يستعيضون عنه بالعلاج التقليدي، لكن القلة منهم التي لا تتحرج من دخول عيادة نفسانية من أجل استشارة طبية، تخرج منها فتتجه إلى صيدلية لاقتناء أدوية، ولم يسبق أن رأينا مريضاً يخرج من تلك العيادة فيتجه إلى المكتبة، بحكم أن الطب النفساني في الجزائر ليس مهتماً بما يُطلق عليه: «بيبليوثيرابيا» قد تبدو كلمة غامضة، فهي لم تُعرب إلى حد الساعة، والمقصود منها هو: العلاج بالكتب، إي القراءة بغرض التخلص من القلق أو الوسواس أو الضغط النفسي. فمنذ بداية هذا القرن تطور مفهوم «بيبليوثيرابيا» مع أن هذه الممارسة تعود إلى بدايات القرن الماضي، حيث واظب الأطباء العسكريون في الجيش الأمريكي على معالجة الجنود القادمين من جبهات القتال، بمطالعة الكتب، وكانت أعمال جين أوستن (1775-1817) أول الأدوية التي استخدموها، كانت رواياتها مهدئاً نفسياً، تقلل من الحالات المستعصية التي واجهها أشخاص عادوا من الموت، ونجوا من رصاصة أو من لغم، ثم شيئاً فشيئاً تطورت صيدلية الكتب، بل صارت هناك وصفات مشتركة، بين الأطباء في ما بينهم، ينصحون بروايات حسب الحالة التي يعاني منها المريض، والنتائج كانت في الغالب مرضية، وأقل تكلفة من الأقراص أو المحاليل المتعارف عليها. فماذا ننتظر إذن كي تتحول المكتبات إلى صيدليات في الجزائر أيضاً؟

المريض في عزلته

لقد سبق لأرسطو أن طرح في «فن الشعر» مفهوم «التطهير» بما معناه أن مشاهدة التراجيديا، في شكلها الفني، من شأنها التنفيس على عواطف المتلقي، وهو مصطلح يقترب مما وصلت إليه «بيبليوثيرابيا» في العصر الحالي، كما طرح رولان بارت، من جهته، مفهوم «لذة النص» حين القراءة وما لها من تأثير في نفسية القارئ.
قد ينسى الإنسان في زحمة الحياة اليومية أن القراءة هي أكثر الأفعال ديمقراطية، فكل شخص من حقه أن يقرأ ويؤول النص الأدبي من منظوره، وتعداد وجهات النظر يحيلنا إلى تنويع أساليب العلاج، فكل قارئ يبحث عما يُشبهه في النص الأدبي، كما يبحث عن نظير له يخلصه مما يحيا فيه من تأزم داخلي. فحين يتعاطى مريض قرص دواء فهو يتعاطاه في لحظة عزلة، إنه يجلس أو يقف واحداً إزاء الدواء الذي بين يديه، إنها لحظة مستقطعة، يواجه علاجه بنفسه، تماماً مثل القراءة، فالإنسان يقرأ بنفسه، وحيداً، ممسكاً بكتاب كمن يمسك بقرص مهدئ أو محلول مزيل للأرق. وبما أن اللجوء إلى دواء يتأتى من حاجة فإن اللجوء إلى مطالعة كتاب أيضاً يتأتى من حاجة، كي يؤكد القارئ يقينه بشأن موضوع ما أو يدحض ذلك اليقين، في الحالتين إنه يتعامل مع الكتاب مثل من يتعامل مع دواء.

القراءة الحرة

سادت، في السنين الأخيرة، ظاهرة ساعدت عليها وسائط التواصل الاجتماعي، حيث إن القراء باتوا لا يقرؤون كتاباً، بل يركضون خلف استخراج الاقتباسات من كل رواية، كما لو أنهم في لعبة (الألغاز الخمسة) وصار الكتاب الأكثر رواجاً هو كتاب يتضمن أكبر عدد من الاقتباسات التي يتعاطاها قراء في ما بينهم، في المقابل امتعض بعض الكتاب من هذه الظاهرة، برأيهم أن الكتاب يُقرا ككل وليس كجزء، لكن فاتهم أن ذلك القارئ إنما يتعالج بالمطالعة، فإن لم تكن «بيبليوثيرابيا» موجود كظاهرة طبية، فهناك من القراء من يلجأ إليها، عن غير قصد منه، وذلك البحث الدؤوب عن اقتباسات من رواية، إنما هو شكل من أشكال العلاج الذي ينحو إليه القارئ. فليس من الضروري أن يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره، فهناك من يقتني كتاباً أو ينكب عليه بحثاً عما يشفي فضوله أو قلقه، أو رغبة منه في العثور على مقولات تشبهه أو تُساير هواه. لذلك لا يصح أن ينتظر الكاتب من القارئ أن يُطالع نصه كما أراد هو، أو أن يؤله كما أوّل هو نفسه نصه لحظة الكتابة، لأن القراء يسعون إلى القراءة تلبية لحاجة ـ كما ذكرنا سلفاً ـ وهذه الحاجات تتعدد، ومن هنا تتعدد أشكال القراءة والتلقي، فمن القراء من يود الخروج من عزلة، أو الضجر، منهم من يرجو أملاً قد يعثر عليه في جملة أو في فصل من رواية، منهم من يود أن يسترد ثقته في نفسه، منهم من يريد التصالح مع عائلته أو هجرها، منهم من يشعر باغتراب أو يشعر بأنه شخص غير مرغوب فيه، فيقلب صفحات الرواية بغرض العثور عما يطمئنه أو يُصالحه مع ذاته، منهم من يبحث عن الحب أو الإيمان، منهم من يبحث عن صديق أو يود التخلص من التدخين، كلها علات وغيرها تحيل الناس إلى تصفح رواية، ومن حقهم البحث فيها عما يرضيهم، وهكذا فإنهم يمارسون «بيبليوثيرابيا» بشكل انفرادي دون وصفة طبيب، بحكم أن هذا التخصص لم يجد له موطأ قدم في بلادنا.
قد يقول قائل إن هناك كتب التنمية البشرية، من شأنها أن تتيح حلول لما يستعصي حله، وهو رأي متسرع، ينبع من الأنانية أكثر من الإلمام بمفهوم البيبليوثيرابيا، بحكم أن كتب التنمية البشرية تستند إلى تجربة شخصية لمؤلفها، الذي يسقط حالته على الناس أجمعين، عكس الرواية الموجهة في الأصل إلى الجمهور الأعم، وتتضمن تحليلاً نفسياً لحالات متعددة، متناقضة في ما بينها في بعض المرات، من هنا لا يمكن حصر البيبليوثيرابيا في كتب التنمية البشرية، التي تخوض في الأساطير أكثر مما تخوض في التحليل النفساني. مع ذلك ما تزال الطريق طويلة قصد الوصول إلى هذا التخصص الطبي، فإن تأسفنا في بداية المقال عن غياب البيبليوثيرابيا في الجزائر، فالسبب موضوعي، بحكم غياب صيدليات كتب، فلا يمكن أن نصف لمريض كتاباً للعلاج، بينما هو غير متوافر. إذن فهذا التخصص محكوم بتوافر مكتبات، وهو واقع لا يزال بعيد المنال، على الأقل في الوقت الراهن.

المصدر: 
القدس العربي