تخطي إلى المحتوى
تاريخ الحروب… من الخنادق إلى طائرات بلا طيار تاريخ الحروب… من الخنادق إلى طائرات بلا طيار > تاريخ الحروب… من الخنادق إلى طائرات بلا طيار

تاريخ الحروب… من الخنادق إلى طائرات بلا طيار

تفتقر المكتبة العربية للكتب التي تعنى بدراسة الحروب وتحولاتها في العقود الماضية. وعلى الرغم من أن المدن العربية غدت في السنوات الأخيرة مكانا واسعا للحروب المحلية والإقليمية، مع ذلك ما تزال الجهود المتعلقة بدراسة معنى الحروب، وتقنياتها، وانعكاساتها على المكان والناس، محدودة، إن لم تكن نادرة. فالمتابع لما ينشر من مراكز الأبحاث والدراسات العربية، يلحظ تركيزا كبيرا على متابعة السياسي، دون فهم لتأثير الحرب وانتشار السلاح والمجموعات المسلحة على واقع المدينة العربية.
ويشكل كتاب «مختصر تاريخ الحروب» للمؤلف المختص كرس مكناب إضافة جيدة في هذا المجال، إذ يحاول المؤلف تقديم قراءة موجزة وكثيفة لمعنى الحرب، وتطورات تقنياتها وانعكاسات ذلك على الناس، وعلى ظهور أشكال أخرى من الحروب الجانبية. ولتبيان هذا الأمر، يرصد الكتاب حياة الحروب منذ زمن اليونانيين وحتى ظهور الطائرات دون طيار، التي أصبحت اليوم واحدة من أكثر الأدوات المستخدمة في الحروب الجديدة. ولأن من الصعب المرور على كل هذه الفترة، فإننا سنقف عند تأريخه للحروب مع بدايات القرن العشرين، وبالأخص مع اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية. إذ كان العالم برمته تقريبا قد غرق حرفيا في صراع عالمي لم يشهد تاريخ العالم مثيلا له.
في 28 حزيران /يونيو 1914، أطلق شاب قومي من صرب البوسنة يدعى جافريلو برينسيب، رصاصتين على السيارة الملكية التي كانت تقل الدوق النمساوي ـ الهنغاري فرانز فيردينايد وزوجته، وتوفي كليهما لاحقا متأثرين بجراحهما. وهنا اندلعت الحرب العالمية الأولى، وواجهت الجيوش بعضها بعضا، في ما عرف بحرب الخنادق. وكانت المسافات الفاصلة بينهما تقاس في الغالب بعشرات أو مئات الياردات. وأصبحت شبكات الخنادق أعمالا تتميز بالتطور، تبرز على نحو نموذجي خطوط متوازية من خنادق الخط الأمامي وخنادق الدعم والاحتياط. وقد ربطت جميعها طوليا بخنادق الاتصالات للسماح بحركة المؤن وتدوير وحدات الخط الأمامي. وقد عززت الخنادق بأرضية ممرات، وزودت بالكهرباء، مع ذلك بقيت أماكن غير صحية إلى درجة مخيفة، بحيث لا يمكن العيش والقتال فيها، خاصة أثناء أشهر الشتاء، التي وجد الجنود فيها أنفسهم غارقين في الطين إلى مستوى الركبتين. وكانت مشكلات استعادة الجثث من مشهد الخنادق تعني في أغلب الأوقات أن الأحياء والأموات يعيشون جنبا إلى جنب. وقد ساعدت الأسلاك اللولبية الشائكة والشديدة التحصين، التي توضع أمام الخنادق، في إبطاء المهاجمين الذين كان يضطرون إلى الزحف. فضلا عن ذلك، كانت المدفعية هي السلاح التعريفي من حيث كمية وقوة وحجم النيران، وظهرت وسائل أخرى ساهمت في زيادة أعداد الضحايا، إذ صار في إمكان البنادق الآلية الموثوقة إلى درجة الدقة، مثل رشاشات فيكرز البريطانية، التي كانت تستطع إطلاق سيول من النيران العالية السرعة ساعة بعد أخرى، لتحصد صفوفا من جنود المشاة. كما أصبحت البنادق التي تعمل بالصاعق سريعة ودقيقة في الرمي، وأصبحت قوات المشاة مسلحة تسليحا ثقيلا ببنادق آلية خفيفة وقنابل يدوية. وغدا الغاز السام من مختلف الأنواع، والذي استخدم لأول مرة جديا على الجبهة الغربية بتاريخ 22 نيسان/ أبريل 1915، سلاحا مخيفا بالفعل. وتراوحت آثاره من التسبب بحدوث بثور على الجلد إلى الإصابة بالعمى والاختناق. ولعل التطور الأبرز تمثل أيضا في ظهور الغواصات التي تبحر بصمت تحت سطح الماء. وفي هذا المجال، كانت ألمانيا في الريادة، بإسطول متنام. وكان من النادر أن يدرك المرء أن الطائرات الهشة المصنوعة من الأسلاك والنسيج بأجنحتها المتعددة، يمكن إعادة تصنيعها لخدمة أهداف حربية. وقد استخدمت الطائرات أساسا للاستطلاع وتحديد مواقع المدفعية، لكن سرعان ما أضافت أسلحة أساسية نارية، يتحكم بها الطاقم، وقد جهزت هذه الطائرات ببنادق آلية، تطلق في نهاية المطاف النار مباشرة.

الحرب العالمية الثانية: الجميع أعداء

ومع قدوم الحرب العالمية، ركزت استراتيجية الحرب الخاطفة على الفرق المدرعة ووحدات المشاة الآلية، التي استفادت من حركتها وسرعتها للمرور من خلال نقاط ضعيفة في خطوط العدو، والقيام بعمليات نفاذ عميقة تدخل اتصالات العدو واستجاباته في حالة مبعثرة. فقد ولت أيام الهجمات الأمامية الكبيرة، وأصبحت المواقع الدفاعية شديدة التحصين من الماضي، وصارت الجيوش تتفاداها، وحلت محلها السرعة والمناورة باعتبارها المبادئ الإرشادية. وتعززت قوة الضربة المدرعة بهجوم للمشاة، بدعم جوي قريب من غارات سلاح الجو الألماني. وكان الاتحاد السوفييتي وإيطاليا وألمانيا هي الدول الرائدة في تطويق القوات المحمولة جوا خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ثم بدأت بريطانيا والولايات المتحدة بتكوين وحداتها المحمولة جوا في عام 1940، وبحلول 1944 أسست فرقاً محمولة كاملة. وقد وفرت هذه القوات بعدا عموديا جديدا للتكتكيات المحمولة. وساعدت في إنجاح عدد متنوع من المهام المتنوعة، مثل قطع خطوط إمداد العدو.
وبالتوازي مع ذلك، ظهرت حرب حاملات الطائرات، التي كانت هي السفن الأقوى في البحار القادرة على نشر الطائرات المقاتلة، وحاملات الطوربيدات، إلى مدى يصل لعدة مئات من الكيلومترات. وسيطرت الولايات المتحدة فعليا على هذا التطور، من خلال المعدلات المدهشة في صناعة الناقلات. فقد أنتجت141 حاملة سفن بين عامي 1939 ـ 1945 مقابل 16 حاملة أنتجتها اليابان. ويرى مؤلف الكتاب، أن التطور الأهم في الحرب العالمية الثانية تمثل في اتساع فكرة العدو، بعد أن أطلقت القوة العسكرية ضد كل من الجيوش العسكرية والسكان المدنيين. وقد جندت مجتمعات وطنية بكاملها أو أشركت في المجهود الحربي.
وكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت والولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة المسلحة نوويا في العالم، وسرعان ما فجر الاتحاد السوفييتي عام 1949 أول قنبلة ذرية في موقع للاختبارات في كازاخستان، وأعاد بذلك هندسة توازن القوى دوليا. وتلا ذلك سباق تسلح نووي يقاس بعدد الرؤوس الحربية في كل جانب. وجاءت لاحقا الخطوة الأهم في إسقاط سلاح نووي في خمسينيات القرن، مع تطوير أول صواريخ بالستية عابرة للقارات. ومع تزايد قدرات الأسلحة من حيث المدى والقدرة التدميرية القاتلة، أدركت القوى العظمى أن الحرب النووية ستؤدي بالتأكيد إلى محوهم ومحو الطرف الآخر. وهكذا، وخلال عقد الستينيات، دخل العالم حقبة الدمار المضمون للطرفين. وهذا الأمر فتح الباب أما ثورات متواصلة في تقنيات الحرب التقليدية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك اختراع الكلاشنكوف، الذي ظهر منه ما يقارب الـ100 مليون قطعة، ما جعله السلاح الأكثر إنتاجا بالجملة في التاريخ.. وبسبب توفره، أشتعلت الحروب في كل مكان.

وكانت الفترة من خمسينيات إلى ثمانينيات القرن العشرين عصرا ثوريا، مشحونا أيديولوجيا، وجاءت أفكار ماوتسي تونغ حول الحرب الثورية، التي تقوم على ثلاث مراحل (تأسيس القواعد، والتمرد، وتدمير العدو) لنكون أمام نموذج جديد في القتال، وهو ما عبر عن نفسه في فيتنام، التي بينت أن الحرب الثورية يمكن أن تكون وصفة للانتصار في الحروب، وأن ذلك يشمل حتى المنظمات المتناهية في الصغر، ما جعل حضورها محسوسا على المسرح العالمي. ترافق ذلك مع ظهور الطائرات العامودية التي أخدت تعني إمكانية تحويل فرق بأكملها إلى فرق محمولة جوا، بمعنى أن الآلاف من الجنود يمكن نشرهم في آن واحد، في هجوم جوي جارف ونقلهم إلى مواقع بعيدة.

حروب أهلية

ومع تفكك الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت الذي اعتقد فيه البعض أن وتيرة الحروب قد تتراجع، وإذا العالم يصبح أمام حروب أكثر تعقيدا في ظل تطور تقنيات الأسلحة الحديثة. والجديد في هذه الحروب أنها أصبحت تترافق مع حروب أهلية، وأعمال فظيعة وصراعات دولية كبرى. ولعل هذا الشيء هو الذي حدث في البلقان، خلال منتصف التسعينيات. ومع حرب الخليج الثانية، أخذت الولايات المتحدة تتحدث عن هيمنة الطيف الكامل، بما يشير إلى تفوق عسكري جارف داخل مجالات ساحة المعركة (برا وجوا وبحرا وفضاء) واحترافية القوات والقوة النارية التي لا تقهر.
جاءت لاحقاً أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر لتكشف عن تطور نوع آخر من الحروب، حيث تقوم جماعات صغيرة بشن عمليات كبيرة وغير متوقعة في مناطق مدنية.
ويقف المؤلف في الفصل الأخير عند الحروب في ليبيا وسوريا بعيد الربيع العربي، التي تحولت في رأيه الى حروب أهلية، وهو ما ترافق مع سقوط مئات الآلاف. وقد بدأت ساحات القتال بمنافسة معارك الحرب العالمية الثانية، فقد أصبحت مدينة حلب على سبيل المثال «ستالينغراد سوريا» بعد تحويل أجزاء كبيرة منها إلى أطلال بفعل أكثر من أربعة أعوام من القتال والقصف. وتمثل التطور الأبرز في السنوات الأخيرة، بظهور الطائرات المسيرة، التي أصبحت أكثر حضورا، خاصة كطريقة لتنفيذ مراقبة تفصيلية فوق ميدان قتال العدو، دون تعريض طيار بشري للخطر، ما فتح الباب أمام أشكال جديدة من الدمار والقتل، وهو دمار يبدو أنه لا أفق قريب لصمته في ما تبقى من مدننا العربية.

المصدر: 
القدس العربي