تخطي إلى المحتوى
جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/4) ...المـغـرب جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/4) ...المـغـرب > جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/4) ...المـغـرب

جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/4) ...المـغـرب

لم تكن العلاقات الثقافية بين المشرق والمغرب متكافئة، فلطالما تطلّع المغرب إلى الشرق العربي لأسباب دينية وثقافية، فكان الكثيرون من الحجاج إلى مكة يؤثرون البقاء في مدن الشرق بدل العودة إلى ديارهم حتى صار في كلّ مدينة مشرقية حيّ يعرف بحارة المغاربة.

في المقابل لم يكن المغرب يثير اهتمام أبناء الشرق ولا يتابعون أخباره. وفي نهاية القرن التاسع عشر، التفت الإصلاحيون إلى المغرب، إذ قام الامام محمد عبده عام 1884، بزيارة إلى تونس حيث التقى العديد من خريجي جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية، ثم كانت له زيارة إلى تونس والجزائر عام 1903، وكان تأثير زيارتي الإمام عبده بعيدة الأثر في نشوء الجمعيات الإصلاحية في تونس والجزائر، كذلك في المغرب الأقصى، وكانت النخبة الدينية تتابع أعداد مجلة "المنار" للسيد رشيد رضا، إضافة إلى ما كان يصدر من أعمال أدبية وفكرية في مصر.

وأبرز الجمعيات كانت جمعية العلماء المسلمين في الجزائر التي ترأسّها الشيخ عبد الحميد ابن باديس، الذي ركّز في أحد أقواله على عروبة المغرب: "ينكر الاستعمار عروبة الشمال الأفريقي بالقول، ويمحوها بالفعل.. وإنما يتعمد العربية بالحرب لأنها عماد العروبة وممسكة الدين أن يزول".

العروبة في المغرب العربي لم تفصل ما بين العروبة والإسلام

وكان الشيخ ابن باديس قد زار مصر بعد عودته من الحجاز حيث أدى فريضة الحج عام 1913، ولم تنقطع زيارات قادة بلدان المغرب إلى بلدان المشرق، فزعيم الحزب الدستوري في تونس عبد العزيز الثعالبي كانت له زيارات عديدة إلى مصر، وكان التقى في مؤتمر السلام عام 1920، بكلّ من زعيم الوفد المصري سعد زغلول كما التقى بالأمير فيصل بن الحسين. إلا أنّ فكرة تكوين وفد عربي مشترك لم تلقَ تجاوبًا. ولم يجد سعد زغلول فائدة من ذلك.

والواقع أنّ مطالب كل جهة كانت مرتبطة بأوضاع كل بلد على حدة. فالأمير العربي كان تحالف مع الإنكليز وأعلن الثورة على العثمانيين، أما المصريون فكانت قضيتهم الاستقلال وإخراج الإنكليز من بلدهم، أما التونسيون والجزائريون فكانت قضيتهم هي الاستعمار الفرنسي. وكان لكل ذلك تأثيره على الاتجاهات الفكرية والسياسية. فإذا كانت العروبة المشرقية قد اتّخذت منحى علمانيًا، فإن العروبة في المغرب العربي لم تفصل ما بين العروبة والإسلام.

بدأ اهتمام المشرق بأخبار المغرب يتّسع مع نضالات تونس والجزائر والمغرب ضد الاستعمار. وكان لتأييد مصر لقوة الجزائر أثره الكبير على مستقبل هذا البلد الذي انتهج سياسة "عروبية" بالمقارنة مع البورقيبة التونسية والملكية المغربية. إلا أنّ ذلك لم يمنع من تطوّر العلاقات الثقافية بين المشرق والمغرب، ومن رموز ذلك الإقامة الطويلة لكلّ من المفكّر والسياسي المغربي علال الفاسي والمفكّر الجزائري مالك بن نبي في مصر.

حركة ثقافية عرفتها بلدان المغرب تتّسم بمعرفة الفكر الأوروبي والتأثر بالأسماء الكبيرة

في تلك الأثناء كان المغرب يتلقّى تأثير الثقافة الفرنسية عبر الطلبة الذين يتابعون دراساتهم العليا في باريس، ومن بين أوّل من تعرّف المشرق إلى مؤلفاته هو عبد العزيز الحبابي، صاحب كتاب الشخصانية الإسلامية، من بين مؤلفات أخرى. إلا أنّ الذي لفت الانتباه في المشرق هو عبدالله العروي في كتابه الأيديولوجية العربية المعاصرة الصادر بالفرنسية عام 1967، والمترجم إلى العربية عام 1970. وكان العروي قد أمضى سنة في القاهرة عام 1960، تعرّف خلالها إلى بعض المفكرين المصريين، ولعلّ إقامته قد أوحت له بمؤلفه المذكور، علمًا بأنه سجّل لاحقًا انطباعًا سلبيًا عن المثقفين المصريين. وقد قُرِأ كتابه بطرق مختلفة، فلم يكن المثقفون في المشرق معتادين على منهجيات البحث الحديثة في النقد الأيديولوجي. وزاد الأمر تعقيدًا حين نشر بالعربية كتابه العرب والفكر التاريخي، إذ طرح من خلاله مفهوم "التاريخائية".

ولم يطل الأمر حتى أطلّ باحث من تونس هو هشام جعيط، المؤرّخ والمفكّر، الذي نشر أول كتبه بالفرنسية. الشخصية والصيرورة العربية الإسلامية، ثم أوروبا والإسلام، ثم أطروحته الكوفة في القرن الأول الهجري، ليقدّم منهجًا جديدًا في قراءة التاريخ وعلاقة الإسلام بأوروبا. وبعد ذلك برز اسم محمد عابد الجابري في أوّل كتبه نحن التراث الذي طرح فيه مفهوم القطيعة بين المشرق والمغرب، ليبرز بعد ذلك في كتابه نقد العقل العربي، قدّم هؤلاء طرائق جديدة في البحث اعتمادًا على منهجيات ونظريات متداولة في أوروبا، وكانوا واجهة لحركة ثقافية عرفتها بلدان المغرب تتّسم بمعرفة الفكر الأوروبي والتأثر بالأسماء الكبيرة التي برزت أمثال فوكو ودريدا، إضافة إلى اطلاع على التيارات الفلسفية الكبرى. وقد تميّز بعض المفكّرين المغاربة بمعرفتهم المزدوجة بالتراث العربي الإسلامي وبالمنهجيات والنظريات الأوروبية على حدٍ سواء. إلا أنّ الأبحاث ذات الطابع الأكاديمي، يكاد بعضها يكون أقرب إلى ترجمة لأصول أوروبية وخصوصًا تلك التي تكرّس جهودها للحداثة وما بعد الحداثة. وهي تتوجّه للنخبة ولا تخاطب جمهورًا واسعًا من القرّاء.

ومع ذلك فإنّ المغرب يشهد نشاطًا ثقافيًا جامعيًا في مجال الاجتماع والسياسة والأنثروبولوجية بالمقارنة مع المشرق الذي أفقرته الأيديولوجيا وحروبها وأنظمتها وأفقرت فكره وإبداعه.

المصدر: 
عروبة 22