بمناسبة ذكرى احداث 11/09/2001 نعيد نشر لقاء مع الخبير الاقتصادي السوري د. عصام الزعيم تم نشره بعد عام من الحدث.
* بداية كيف يمكن أن نحلل خلفية أحداث أيلول/ سبتمبر/ 2001؟
أصاب الوهن النظام الدولي وعملية عولمته في بداية العقد الأول من هذا القرن الجديد، وبعد عقد من النمو الاقتصادي الحثيث للولايات المتحدة المعتمد أساساً على الاستهلاك والاقتراض والاستثمار في التقانات والخدمات الرفيعة عالية الإنتاجية، دخل الاقتصادي الأمريكي في أزمة دورية وتقليدية مميزة لدورة السوق في النظام الرأسمالي، حيث دخلت فروع صناعات تقانات المعلومات في أزمة فائض الإنتاج، وانحدر الطلب عليها، وعانت من خسائر بعد أن كانت قد حققت توسعاً فائقاً، وقادت النمو في النظام الاقتصادي الأمريكي.
هذا هو البعد الأمريكي الداخلي للأزمة، ولكن لهذه الأزمة بعداً دولياً يرتبط بالنظام المعولم، حيث اشتد في الوقت نفسه التنافس بين الشركات الكبرى الأمريكية والشركات الكبرى الأوربية والآسيوية، ونمت صناعات وخدمات منافسة في آسية وأوربة منافسة لصناعات الخدمات في الولايات المتحدة.
أدت عولمة التجارة والاستثمار منذ عام 1990 إلى زيادة التمركز في الاستثمار والنمو والتبادل التجاري في دول الشمال، كما أدت إلى زيادة الاستقطاب والاختلال في الدخول واختلالها داخل دول الشمال وبين الشمال والجنوب وداخل دول الجنوب، مما أدى إلى ظهور حركات مناهضة للعولمة من منطلقات مطلبية اقتصادية وسياسية وإيديولوجية وثقافية وحضارية، وما ميز هذه الحركات أن أكثر العناصر انضماماً إليها ودوراً فيها هي أقل الفئات الاجتماعية اندماجاً في النظام الجديد وأكثرها هامشية.
كذلك أدت الثورة العلمية والتكنولوجية والعولمة إجمالاً إلى انتشار النفوذ الأمريكي اللغوي والثقافي والقيمي على الصعيد العالمي وداخل دول الشمال وفي دول الجنوب من جهة أخرى، وتأثر بهذا الانتشار وانخرط فيه بشكل رئيسي الشباب والطلاب المتعلمون والعاطلون عن العمل وهي الفئات الاحتجاجية تقليدياً.
أدى انتشار العولمة في الوقت نفسه إلى انتشار المنظمات الأهلية، أي غير الحكومية، وقد وجد فيها الشباب والطلاب وأنصار البيئة ودعاة رفض التسلح ودعاة الدمقراطية صيغة ملائمة التنظيم والتعبير والعمل السياسي، في الوقت الذي سعت الأوساط الرأسمالية النافذة والدول المتطورة إلى احتواء هذه الحركات الأهلية من خلال تمويلها تارة وإعطائها دوراً وتقنين دورها تارة أخرى، فانقسمت هذه الحركات ضمن حركات مناصرة للعولمة وأخرى مناهضة لها. وفيما عمت هذه الظاهرة الدول الرأسمالية المتطورة، فإنها لم تخترق البلدان النامية ومجتمعاتها إلا بصورة محدودة وذلك بسبب ضعف قدرة الحكومات على تمويل هذه الجمعيات من جهة، وتحفظها تجاه دورها (المستورد) فضلاً عن تمويلها المباشر في كثير من الأحيان من دول الشمال أو من الوكالات الدولية من جهة أخرى.
هكذا بقي جزء كبير من الشباب والطلاب ممن لا تتوفر لهم فرص متابعة تحصيلهم العلمي العالي أو فرص العمل في دول الجنوب خارج أطر التنظيم والتعبئة الرسميين أو المناصرين للدولة، وخارج أطر التنظيم الأخرى المصدرة إلى هذه الدول من مؤسسات الشمال أو المؤسسات الدولية.
كما بقيت وتبقى أعداد غفيرة من الشباب المهاجر من الأرياف إلى المدن أو الشباب الحضريين المهمشين خارج سوق العمل وخارج مؤسسات التعليم العالي، دون أن تتوفر لهم إمكانات الزواج والسكن والاندماج الاجتماعي في المدن، فأصبح هؤلاء يمثلون مئات الملايين من الغاضبين والمحتجين والمتمردين ممن لا يملكون معرفة عميقة بالنظام الرأسمالي وظاهرة العولمة، ولا يملكون تجربة في العمل الدمقراطي والاجتماعي، راحوا يبحثون عن ملاذ إيديولوجي سياسي بجانب بحثهم عن ملاذ علمي واجتماعي، وهكذا انتسبوا أو انضموا إلى حركات منظمات تؤمن بالإرهاب.
ما يميز هذه الفئات وخاصة منها الريفية الأصول أنها حملت وتحمل فهماً محافظاً وتاريخياً للدين والثقافة والقيم، مما جعلها مقفلة أمام العولمة الثقافية، ومعادية أقصى معاداة لها في الوقت نفسه، مما جعلها أسيرة إيديولوجيات ومذاهب وبرامج عصبوية وقائمة على التعصب من جهة أخرى.
نجد ظاهرة اللجوء إلى القراءة المتطرفة للعقائد الدينية (أو استخدام البدع الدينية) واستخدامها التعسفي نتيجة الجهل بجوهرها والتهرب من الالتزام الجماهيري في دول الشمال، كما يتضح من مثال المجموعة الإرهابية اليابانية التي أرادت تسميم أنفاق مترو طوكيو في اليابان، ومثال الإرهابي الذي قام بأعمال إرهابية في ولاية أوكلاهوما في الولايات المتحدة.
لكن هذه الظاهرة أي بروز هذه الإيديولوجيات واستغلالها الإرهابي أوسع انتشارٍ في مجتمعات الجنوب التي لم تعرف تجربة الثورة الصناعية وما اقترن بها من ثورات اجتماعية وثقافية وقيمية، هذه المجتمعات التي همشها النظام الرأسمالي اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
إن ما يتصف بأهمية فائقة لجوء القيادات السياسية والأمنية لأكثر هذه الدول الرأسمالية تطوراً وأشدها هيمنة على عملية العولمة إلى سياسات ومواقف ميكيافيلية تجاه تلك الحركات الإرهابية المتخلفة فكرياً وثقافياً واجتماعياً، والتعاون وحتى التحالف معها في مناطق مختلفة من الجنوب، هذا ما يدل عليه التحالف الأمريكي مع حركة طالبان في أفغانستان، حيث قامت الولايات المتحدة بمساعدة الباكستان بتمكين الطالبان على تسلم سدة السلطة في أفغانستان قبل أن ينقلب تحالفهما إثر أحداث 11 أيلول 2001
لا يقل عما تقدم أهمية أن هذه الحركات الإرهابية نظرت بدورها نظرة ميكيافيلية أيضاً إلى علاقتها مع الولايات المتحدة واستفادت، فنمت بفضل معوناتها وتسهيلاتها التدريبية، ثم ابتعدت عنها، ودخلت في عداء معها قبل أن توجه لها ضربة 11 أيلول في نيويورك وواشنطن.
* ضمن هذا السياق كيف تنظر إلى نتائج أحداث أيلول ؟
لعل أولى الدروس التي يمكن استخلاصها من أحداث أيلول هو تحول التحالف السابق بين القيادات السياسية والأمنية والعسكرية لقوى العولمة والحركات الدينية والحركات الأصولية المتطرفة الإرهابية إلى تناحر ومواجهة مصيرية.
لكن درساً آخر يفوق من حيث الأهمية الدرس السابق من أحداث 11 سبتمبر، هو أن الميكيافيللية والإرهاب لدى الحركات التي تنتهي إلى معارضة العولمة والاحتجاج عليها ومحاربتها بالعنف الإرهابي، سرعان ما تصبح حجة وذريعة بيد أشد قيادات العولمة الرأسمالية غلواً وبطشاً وعدوانية، وهكذا وكما دلت الأحداث اتخذت الولايات المتحدة أحداث نيويورك وواشنطن ذريعة لإعادة تأكيد همينتها العسكرية المطلقة، وتحقيق مطامع التوسع في مناطق جديدة، وهي آسية الوسطى فضلاً عن إعادة تأكيد الهيمنة على مناطق النفوذ التقليدية المتزعزعة كالباكستان، بل إن الحرب الأمريكية في أفغانستان قد أعطت الولايات المتحدة فرصة لم يسبق لها أن نالتها وهي الدخول إلى البوابة الخلفية الشرقية لروسية من جهة، والوصول إلى البوابة الغربية للصين من جهة أخرى.
نتيجة أخرى ترتبت على أحداث أيلول - سبتمبر، هي إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية على القوى الغربية للحلف الأطلسي، وتجديد إخضاع أوربة الغربية للقرار الاستراتيجي الأمريكي بشكل لم يسبق له مثيل منذ التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة ضد الاجتياح العراقي للكويت في العام 1991
مما يتسم بالأهمية أن الولايات المتحدة قد أعطت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر الدامية دلالة عالمية، ومثله أعطت لاحقاً قرارها بمحاربة الإرهاب حيث دعت إلى تشكيل حملة عالمية مفتوحة لمكافحة الإرهاب، وما هو جدير بالتنويه هنا الطابع المفتوح زمناً وموقعاً للتدخل العسكري بحجة مكافحة الإرهاب.
* على الصعيد العسكري كيف ترى النتائج؟
أدت أحداث 11 أيلول إلى عدد من النتائج العسكرية بالغة الأهمية وشديدة التهديد للبلدان النامية عموماً والدول العربية خصوصاً.حيث أدت إلى نشر العولمة الأمريكية العسكرية وذلك بأشكال وحجج شتى، منها مد التدخل الأمريكي العسكري إلى الفيلبين وزيادة التدخل الأمريكي العسكري في أمريكة الوسطى، ويتم نشر العولمة العسكرية المسلحة عبر إعلان حرب صليبية على الإرهابيين، وقد أدرج في قوائم الاتهام بالإرهاب أناس شتى سواء كانوا ضالعين في الإرهاب أو مشتبهين بممارسته أو اعتناقه، أو كانوا برآء منه. تركزت هذه الحملة على الأقليات القومية والجماعات من أصول عربية وإسلامية بشكل خاص.
كذلك اندفعت الولايات المتحدة إلى التلويح لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية وأزمات الحرب الباردة بالضرب النووي ضد أية دولة نرى فيها تهديداً خاصاً لمصالحها. لا يمكن لمن يقرأ التاريخ ويتعظ به ويعرف واقع السلطة وعملية صنع القرار في بعض العواصم الغربية إلا أن يولي التهديدات المتكررة التي صدرت باستخدام السلاح النووي اهتماماً فائقاً ومشوباً بالقلق الشديد.
ثالثاً - استغلت الولايات المتحدة حملتها العسكرية في أفغانستان من أجل اختبار عدد من أسلحتها الفتاكة الجديدة على غرار ما فعلت خلال حرب 1991 ضد العراق، وإذا كان اختبار الأسلحة الجديدة نتيجة مباشرة للتدخل في أفغانستان، فإن أحداث 11 أيلول قد أدت وتؤدي إلى نتيجة عسكرية أبعد أثراً ألا وهي تفعيل الصناعة العسكرية وتعزيز نفوذ المجمع الصناعي العسكري، ومضاعفة عقود السلاح ودورها في الاقتصاد الأمريكي، إن من حيث تعبئة العمالة أو من حيث تطوير التكنولوجية وإيجاد مناخ دولي لزيادة الصادرات العسكرية وبيع السلاح، وهو أمر ينال المنطقة العربية، ولا سيما الخليجية منها بشكل خاص، ويمثل تجديداً مقصوداً لظاهرة بيع السلاح، كما جرى في أعقاب الحرب ضد الاجتياح العراقي للكويت.
لكن نتيجة أخرى لأحداث 11 أيلول لا تقل أهمية عما سبق، هي توسيع العولمة الأمريكية الأمنية ومد نفوذها وهيمنتها لا في الدول الأوربية والآسيوية الحليفة وحسب، وإنما في الدول النامية، وخاصة منها الدول العربية والإسلامية.
غني عن القول: إن هناك علاقة منطقية وثيقة بين الاستراتيجية العمالية لاستغلال الولايات المتحدة أحداث 11 أيلول الدامية وتجلياتها الإقليمية في أفغانستان وجمهوريات آسية الوسطى وجورجية وجنوب آسية، وخصوصاً الباكستان وآسية الغربية ولا سيما تجاه إيران والعراق والمشرق العربي.
لكننا نريد أن نؤكد هنا العلاقة الوثيقة بين رد الفعل الأمريكي على أحداث 11 أيلول وتدهور الوضع الإقليمي في فلسكين، وفيما يخص الانتفاضة الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي؛ فقد استخدمت الولايات المتحدة أحداث أيلول لتجدد سطوتها العالمية، إن على الأمم المتحدة أو الحلفاء الغربيين أو الدول العربية.
نجد انعكاساً إقليمياً مفجعاً للسياسات التي ردت بها الإدارة الأمريكية على أحداث 11 أيلول، في تجديد تطرفها لصالح عدوان إسرائيل واحتلالها واستيطانها وإرهابها، ودفعه إلى أقصى درجات الرعونة واللا مسؤولية في ممالأة إسرائيل، وتبرير أعمال شارون الإجرامية، والانتهاكات التي لم يسبق لها مثيل في القانون والنظام الدولي التي ارتكبها ويرتكبها بحق الشعب العربي الفلسطيني.
* كيف تقوّمون رد فعل الدول العربية والإسلامية على الحدث؟
بالنسبة إلى العرب والمسلمين الوضع في غاية الحساسية، صحيح أن الغرب هو الذي نكبنا بالاستعمار وبتجزئة بلداننا وبنهب ثرواتنا، وهو الذي زرع الكيان الصهيوني في قلب وطننا العربي، ولكن هذا لا يعني إطلاقاً أن نفرح إذا مات آلاف الأبرياء، إن هذا الموت سيعطي الحجة لقتل الآلاف المضاعفة من الأبرياء العرب والمسلمين، وسيعطي الحجة لتضليل الملايين من الناس في الولايات المتحدة، نحن نعتبر الحادي عشر من سبتمبر كارثة، ويجب ألاّ نفرح بعمليات من هذا النوع فهي عمليات تضر أفدح الضرر بالعرب والمسلمين داخل الولايات المتحدة، وانعكست فوراً على حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية والعربية، وازداد الضغط عليها أكثر بكثير من السابق وذلك بحجة مقاومة الإرهاب.
* هل تعتبر تأزم الوضع في المنطقة الآن نتيجة مباشرة لأحداث أيلول؟
لم أقصد هذا، ونحن لا نعتبر أن تأزم الوضع في المنطقة مرتبط بنتائج عملية أيلول، فالسبب الأساسي للتأزم هو اختلال الموازين الدولية وعجز الاتحاد الأوربي وعجز روسية وعجز الصين عن أن يفرضوا على مجلس الأمن والأمم المتحدة حلولاً عادلة للقضايا العالمية.
* هل يمكن القول: إن الولايات المتحدة استطاعت فعلاً إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد وفق الرؤية الأمريكية بعد أحداث أيلول؟
الولايات المتحدة تحاول الآن استثمار أحداث أيلول لفرض رؤيتها للنظام العالمي، ولكن هذه المحاولة تصطدم بمقاومة من عدة أطراف، فالاتحاد الأوربي، وروسية والصين، فضلاً عن الجنوب لا أحد منهم يريد أن يكون ملاحق للولايات المتحدة، ومن ثم، فإن جنوح واشنطن للهيمنة بشكل أكبر من قبل عزز وصعد الاعتراض، ويمكن القول: إن الوعي الآن بخطأ هذا التوجه أكبر من قبل، ولكن يجب الانتباه إلى أن أمريكة الآن ظافرة ومنتصرة وتريد أن تطبق رؤيتها ومفاهيمها وتفرض هيمنتها في كل مكان، وهي تقوم بحروب حسب مشيئتها، وهذا يثير قلقاً شديداً وخوفاً من أن تؤدي أي هزيمة تكتيكية للولايات المتحدة إلى عدوانية أكبر بكثير من قبلها، فالولايات المتحدة دولة قوية وتملك قوة عسكرية ضاغطة فيما الاتحاد الأوربي مثلاً دولة قيد التشكيل، ولا يملك قوة عسكرية موحدة ولا استراتيجية موحدة، ومن ثم، فالاتحاد الأوربي لا يستطيع أن يشكل نداً للولايات المتحدة، ولا أقصد بهذا أن نواجه الولايات المتحدة، ليس هذا القصد، القصد أن القوة الوحيدة في العالم تنظيماً وقوةً وسلاحاً هي الولايات المتحدة، وهذا يعني أنه إذا غيبت الولايات المتحدة أو عزلت في معركة محددة، فيمكن أن تفجر استراتيجية أشد خطورة على السلام العالمي، وعلى حريات الشعوب، بكثير مما هو الآن.
* كيف تقوّم انعكاس أحداث أيلول على العالم العربي والإسلامي على الصعيد الاقتصادي؟
أدت أحداث أيلول إلى خلق أزمة للاستثمار العربي في الولايات المتحدة، وحتى التواجد البشري العربي في الولايات المتحدة جعلته موضع إشكالية وموضع شك، وأصبح الاستثمار العربي يواجه صعوبات كبيرة.
ولكن السؤال الذي يلقي نفسه: هل يمكن للاستثمار العربي أن يرتد إلى الدول العربية كما يقول بعض الاقتصاديين العرب المتفائلين؟
برأيي أنه قد يعود ولكن بصورة جزئية، وقد يستثمر في الأقطار العربية ولكن بصورة جزئية أيضاً، لأن محددات الاستثمار الأساسية ليست سياسية، بل هي محددات اقتصادية، والاقتصاد الأمريكي اقتصاد متطور جداً، في حين أن الاقتصاديات العربية اقتصادات متخلفة، ومن ثم، فرص الاستثمار ضئيلة في الوطن العربي، مما يعني أن القسم الأكبر من الاستثمارات العربية سيبقى في الولايات المتحدة، ويمكن أن ينتقل جزء مهم منها إلى أوربة، في حين أن نصيب العالم العربي من هذه الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة لصالح تنويعها داخل الدول المتطورة، وبصورة محدودة وجزئية لصالح الدول العربية. حتى إن الشركات التي كانت تقوم بين الدول العربية أو المستثمرين العرب والشركات الغربية تراجعت بشدة إثر أحداث أيلول، وأصبح الاستثمار العربي المشترك مع الدول الغربية أصعب، في الولايات المتحدة أولاً.. وفي الغرب بصفة عامة.. حتى داخل البلاد العربية، وأصبحت منطقتنا بالنسبة إلى المستثمر الغربي منطقة خالية من الأمان ومحفوفة بالمخاطر، ومن ثم، لا يأتون للاستثمار فيها، لا يأتون بشكل منفرد ولا حتى مع مشاركين مع رأسمال عربي، وبشكل عام فإن الاستثمار الغربي في الدول العربية قليل جداً، ولا يمثل أكثر من واحد بالمئة من الاستثمارات العالمية والاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولكن الحدث زاد الطين بلة، وحتى إذا جاء المستثمر ضمن الظروف الجديدة، فهو سيذهب إلى الاستثمارات الأكثر ربحية، ومن ثم، فهو لن يأتي مثلاً إلى الصناعات التحويلية التي تؤمن فرص العمل وتؤمن تجديداً تكنولوجياً، بل سيأتي إلى السياحة وإلى العقارات وإلى المصارف.
وبطبيعة الحال فإن العمالة العربية في الدول الغربية أصبحت في وضع أصعب، وأصبحت فرص العمل أقل بكثير في الولايات المتحدة الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول الغربية الأخرى.
بمعنى أن أحداث أيلول لها تأثير كبير على الرأسمال العربي في الخارج، وعلى الاستثمارات الأمريكية والأوربية والغربية العاملة في الدول العربية، فضلاً عن تأثيرها على السياحة العربية التي تضررت ضرراً كبيراً أيضاً، وبشكل عام فإن عملية الحادي عشر من أيلول تركت آثاراً متعددةـ، ولكن هذا لا يعني أن ننسب لأحداث أيلول ما ليست هي مسؤولة عنه، بمعنى لا ننسب قلة الاستثمارات في البلدان العربية إلى أحداث أيلول، فالاستثمارات الغربية لا تأتي إلى البلدان العربية في الأصل لأسباب استراتيجية واقتصادية كما أسلفت، ولا نقول بالعكس إن الاستثمارات العربية جاءت بسبب أحداث أيلول لأنها لم تأت إلا بنسبة ضئيلة جداً.
* هناك دعوة لتشكيل نظام عربي جديد.. كيف ترون آفاق هذا النظام؟
النظام العربي في أزمة، ولكن هناك بصيص من الأمل في موقف التضامن العربي، واستراتيجية التضامن العربي التي تأخذ بها الدول العربية حتى تلك التي كانت تتصارع بشدة، ولكن للتضامن العربي مستويين، الأول: هو مستوى التضامن الذي يؤثر في الأحداث أكثر فأكثر، والثاني هو التضامن الذي لا يرقى إلى مستوى التأثير في الأحداث، ونحن حتى الآن لازلنا في مستوى التضامن الذي لا يرقى إلى التأثير الفاعل والإيجابي في الأحداث، لكنه أيضاً لا يسقط، ويمكن القول: إن التضامن العربي لم يصعد بشكل يسمح بالرد على التحديات، ومن ثم، فإن تأثيرنا أكثر من ضعيف فيما يجري في منطقتنا، فما يجري في منطقتنا، فما يجري في فلسطين أمر يفوق الخيال، وقبل خمس سنوات لم يكن أحد يصدق أن أمراً كهذا أن يحدث، وما يجري في العراق أيضاً مماثل، فلم يكن أحد يعتقد بأن الأمريكان يمكن أن يقرروا أمراً ما حول العراق، ويصبح أمراً لامفر منه، فالنظام العربي الحالي يحتاج إلى ترسيخ عميق، وهذا الترسيخ لا يمكن أن يتم من خلال الحكومات وحدها، الحكومات العربية التي تريد أن ترفع مستوى التضامن إلى ما يسمح بالرد على التحديات الحالية، وأقصد بذلك التحدي أول وهو تصفية القضية الفلسطينية نهائياً بانتهاك مطلق لحقوق الشعب العربي الفلسطيني والحقوق العربية، والتحدي الآخر هو شن حرب ظالمة على العراق، وفرض قيود جديدة على الخليج العربي وعلى الدول العربية من خلال العدوان على العراق، وبعد العدوان على العراق، هذا كله لا يمكن أن يتحقق من خلال جهود الحكومات العربية، دون الاستهانة بأهمية هذا الجهد، لكن أعتقد لابد من التحرك الشعبي والسياسي المنظم من أجل دفع التضامن العربي إلى مستويات الرد على التحدي، يقولون دائماً: إن القضية هي قضية الدمقراطية، وبالطبع فإن الدمقراطية تتيح التعبئة الشعبية بشكل أفضل، ولكننا نقول حتى عندما لا تكون الدمقراطية في حالتها المثلى فهذا لا ينفي ضرورة تعبئة القوى الوطنية والقومية العربية من أجل رفع مستوى التضامن العربي، لأن المستوى الحالي لا يرقى إطلاقاً إلى مستوى الأحداث، والأحداث مأساوية وذات طابع تاريخي، وما يحدث الآن لا يمكن الرجوع عنه لاحقاً، إذا نفذ المخطط الصهيوني كما هو جارٍ الآن سيصعب العودة عنه، فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء، وينبغي ألاّ نسمح بوصول المشروع الإسرائيلي إلى نهايته، وهذا يتطلب من النظام العربي أن يكون فعالاً، ويتطلب أن يرتفع التضامن العربي إلى مستوى الرد على التحديات، وبالتالي المسألة الأساسية في رأيي هي تعبئة القوى الوطنية والجماهيرية، وليس فقط جهد الحكومات، مع أهمية جهد الحكومات، وأعتقد أن هنالك تجربة مهمة في النظام العربي، سورية مثلاً تتعامل مع دول عربية تختلف تماماً معها في مواجهتها لإسرائيل، تتعامل معها بما يسمح بالحد من النزعات الاستسلامية، ولكن نحن نريد أكثر من هذا لأن الهجمة الآن أخذت حدودها القصوى من قبل إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص القضية الفلسطينية، ومن ثم، يجب تصعيد التعبئة الشعبية الوطنية والقومية والضغط على الحكومات بروح مسؤولة، وطبعاً أنا أنظر إلى دور الحكومات بصورة متباينة، ثمة حكومات تسعى فعلاً لوقف المخطط الإمبريالي والإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، لا أعني بهذا أن الحكومات العربية تريد أن تبقى فلسطين بأيدي الإسرائيليين، ولكن عدم تحمل المسؤولية وعدم مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص الموقف الإسرائيلي - الأمريكي من القضية الفلسطينية بشجاعة يؤدي إلى تقدم المشروع الإسرائيلي الأمريكي، ولذلك أقول: إن النظام العربي يحتاج إلى تفعيل وإلى تدعيم، وهذا يتم بتمسك الدول العربية التي تسعى لأن يتحقق التضامن العربي المعادي للاستعمار بسياسة مبدئية وانفتاحية باستمرار، وأن يتم الضغط على القرار العربي بصورة إيجابية من قبل القوى الدمقراطية العربية والقوى الاجتماعية والسياسية التي لا تريد للعرب أن يهزموا تاريخياً أمام الصهيونية.
*وكيف ترى انعكاس أحداث أيلول على الصعيد الثقافي؟
على الصعيد الثقافي انطلقت الإدارة الأمريكية من أحداث 11 أيلول الدامية لتطرح مشروعاً يهدف بصراحة إلى التدخل الفظ في النظام التعليمي بهدف تغيير القيم التربوية والمجتمعية بما تعتبره ضرورياً لتغريبها تغريباً ليبرالياً يخدم مصالحها، في الوقت الذي يفقد النظام التربوي والثقافي حق التمايز والاختلاف والمساهمة الإيجابية في الحوار بين الثقافات والحضارات.
قامت الولايات المتحدة وتقوم بهذا المسعى مستغلة عدداً من المواقف المحافظة، وأحياناً الجامدة الجديرة بالنقد والتصحيح. أو التطوير، لكي تنسف خصوصية الأمة الثقافية والحضارية، وتنقلها إلى مواقع الإلحاق والخضوع والتماثل العشوائي، ولعل أهم ما أسفرت عنه النتائج المترتبة على أحداث 11 أيلول كما تحددها سياسات رد الفعل الأمريكية نتيجتان هامتان:
نتيجة أولى نلمسها على الجبهة الثقافية في تعامل قيادات العولمة الغربية مع الدين الإسلامي، وتتحدد باختزال الفكر الديني إلى ماهية أحادية مبسطة ومبنية على أساس التعصب والتطرف ورفض الآخر، فيما يتميز الفكر الديني في بلادنا، شأنه شأن التراث الديني، بالغنى والتمايز فيما يخص المعاملات وشؤون الدنيا لدى المسلمين وتجاه بعضهم بعضاً وتجاه الآخرين. وهكذا يجري اختزال الإسلام زوراً وتزييفاً إلى إسلام الجمود الفكري والتطرف المذهبي والسياسي ومجافاة العلم وتجاهل التطور، فيما يظهر الفكر الديني كالتراث الديني بالحوار الحي الغزير والمحاججة الفكرية والتنوع والتسامح والإقرار بحق الاختلاف، وفي هذا يلتقي المتعصبون الغربيون مع أقرانهم من المتطرفين في بلاد العروبة والإسلام، أما حقيقة الأمر فهي أن التطرف في الفكر الإسلامي والفكر العربي كان ويبقى حالة استثنائية، شأنه في هذا التطرف في المواقف الاجتماعية، فالاستثناء لا ينفي القاعدة بل يؤكدها ومثله لا ينفي التوسط والاعتدال في الفكر والممارسة لدى المسلمين بل يؤكدهما.
أما النتيجة الثانية، فهي الترويج مجدداً وبقوة لمقولات بائسة ومناقضة للعلم والواقع، أولاها على الصعيد الاقتصادي لخصها الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ، حيث العولمة الرأسمالية الراهنة، بكل ما تتصف به، من طابع مرحلي، وبنية مختلة، وعجز عن تحقيق النمو، وإخفاق في بلوغ التنمية المستدامة، وقصور في الفعالية الدمقراطية الاجتماعية والاقتصادية للنظام السياسي. إن نظام العولمة الراهن لا يمكن أن يكون نهاية للتاريخ، ولا يصح لأحداث 11 أيلول أن تصبح حجة لاتخاذ نظام العولمة المفعم بالتناقضات نهاية للتاريخ، كما يدعي فرانسيس فوكوياما وأضرابه. كذلك فإن الترويج مجدداً لصراع الحضارات بالارتباط مع إعلان المجتمعات الغربية مجتمعات أكثر تحضراً من المجتمعات العربية والإسلامية ومجتمعات دول الجنوب إجمالاً. إن أفضل رد على مقولات صموئيل هينتغنتون في صراع الحضارات يكون في بذلنا نحن المفكرين العرب وبذل المفكرين الآخرين المناهضين للظلم والاستغلال والعدوان في كل مكان من المعمورة مجهوداً فكرياً، يربط بين نقد نظام العولمة الاقتصادي ونقد تجلياتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية والتجسسية والإعلامية، ونقد اختلالاتها الاجتماعية ومكوناتها وتأثيراتها الثقافية والقيمية.
* على ضوء هذا كيف ترون مستقبل العلاقة مع الغرب بعد أحداث سبتمبر، وهل يمكن أن يلعب المثقفون العرب أي دور في صياغة هذه العلاقة؟
كان للمثقفين العرب، وسيبقى لهم دور هامٌّ جداً في العلاقات ما بين أوطانهم والغرب بصفة عامة، ذلك أن العلاقة بين عالمينا في جانب هام منها علاقة محددة بوسائل الإعلام والمشهد الثقافي بما يشمل من ترجمة وتأليف وحوار وتفاعل عبر اللقاءات الثنائية والكتعددة الأطراف، وعبر التأثيرات الكبيرة التي أحدثها الوجود الغربي في بلادنا لفترة طويلة، وعبر تجدد النفوذ الغربي على الصعيد العالمي في إطار العولمة، وباعتقادي أن دور المثقفين هام دائماً، ولكن بقدر ما يكون المثقفون أكفاء للقيام بهذا الدور، وبقدر ما يكونون واعين لدورهم ولدلالات دورهم والمهام التاريخية يكون دورهم مهماً، ومن ثم، فإن الحديث عن المثقفين العرب بشكل عام ليس دقيقاً لأن هناك مثقفين ومثقفين، هناك مثقفون واعون يريدون أن يقودوا معركة الحداثة دون أن يفقدوا جذورهم الحضارية ودون أن يفقدوا اعتزازهم بتراثهم، وهناك مثقفون مغربون كلياً، وهناك مثقفون لا يستطيعون أن يحاوروا أصلاً بني قومهم، لذلك فإن الحديث عن المثقفين بصفة عامة ليس دقيقاً، لكن المثقفين الذين يطلعون بدور أساسي وهام في نسج العلاقات الثقافية مع الغرب يحملون مسؤولية كبيرة ويملكون فرصة كبيرة، ومن ثم، فتحمل المسؤولية والاستفادة من الفرصة الثقافية هي شأن المثقفين العرب، ومن هؤلاء من يعرف الغرب جيداً، ومنهم من يقيم في الغرب، ولهم تأثير كبير داخل الغرب، وذكر مثلاً الدكتور إدوار سعيد الفلسطيني الذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، أن المعرفة الثقافية أصبحت تتطلب المزيد من الوعي، ومزيداً من العمق الفكري، يجب أن يستوعب المثقف كل تعقيدات العلاقة بيننا وبين الغرب، حتى يستطيع أن يعكسها في ميدانه الثقافي وإذا نجح في هذا يستطيع أن يؤثر في نسج العلاقة مع الغرب بشكل يخدم مجتمعه.