تخطي إلى المحتوى
د. عبدالله الغذامي يكتب: أصحاب الواحدة وانحياز الذاكرة د. عبدالله الغذامي يكتب: أصحاب الواحدة وانحياز الذاكرة > د. عبدالله الغذامي يكتب: أصحاب الواحدة وانحياز الذاكرة

د. عبدالله الغذامي يكتب: أصحاب الواحدة وانحياز الذاكرة

اشتهر مصطلح القصيدة الواحدة، والسؤال الآن هل هي واحدةٌ حقاً، وهل من الممكن لأي شاعر أن يبدع نصاً واحداً ولا يبدع سواه، خاصة في الزمن الأول الشفاهي والشعري، وكل إنسان حينها كان شاعراً بمستوى ما، ويستمر الحس الشعري عربياً حتى لدى من لم يظهر شعرهم، وطه حسين مثلاً كان له شعر في مطالع حياته، وكذلك نجيب محفوظ وحمد الجاسر والجهيمان، وكثير من الأطباء وعلماء الدين وعموم الناس ستجد أنهم قالوا ويقولون أشعاراً لم يمنعها من الظهور إلا ضعف مستواها.
أما قصيدة الواحدة، فالذي أراه هو أن دور الذاكرة في الانتقاء والاختيار هو ما جعل نصاً واحداً لشاعر واحد يظل في دورة الرواية والتناقل، وبما أن الناس لا يعرفون غير ما تتناقله الروايات وثم يدونه المدونون، فإن وجود نص واحد فريد سيجعله بالضرورة واحداً وصاحبه سيكون من أصحاب الواحدة، وربما زاد شأن النص لكونه وحيداً، وهذا يثير الإعجاب ويخص النص بخاصية فريدة هي من فعل الذاكرة وشرطها في الانتقاء الذي يتجاهل العادي والبسيط ويعنى بالجيد، ولكل شاعر نصوص رديئة وأخرى جيدة، ونحن نحفظ جيد المتنبي ونتجاهل رديئه، وسبق أن قال البحتري مقارناً نفسه بأستاذه أبي تمام «جيد أبي تمام خير من جيدي ورديئي خير من رديئه»، ولن يسلم أحد من الرداءة، ولكن الحكم دوماً للجيد وقد قالها ابن قتيبة: «يحكم على الرجل من جيده وإن قل»، وهكذا هي الذاكرة الثقافية تنتصر للجودة وتحتفي بالجودة وتغض الطرف عن الرداءة، إلا حين تريد التشنيع على شخص ما أو ظاهرة ما، أما الإشادة فتقتضي دوماً الوقوف على مواطن الجودة مع التغافل عن غيرها، وميزان الثقافة منحاز وغير عادل، فإما أن يحتفي بلا حدود أو يشنع بلا حدود، وهناك شخصيات تم التشنيع عليها مع وجود حسنات لها، ولكن تم طمس الحسنات من أجل إتمام مشروع التشويه ومن ذلك صورة كافور الأخشيدي الذي لصقت به أبيات المتنبي بتواطؤ من ذاكرة الثقافة التي تعمدت تناسي حسنات كافور انتصاراً منها للمتنبي وتعاطفاً مع الفحل الشعري، إضافة إلى الانحياز الثقافي النسقي ضد شخصية لرجل أصبح أميراً على قومه خارج أنموذج الإمارة المرسوم ثقافياً، وجاء اللون ليشعل الانحيازات التي ستقارن بين الفحل الشعري بوصفه سيداً ثقافياً، مقابل رجل تسلبه الثقافة حقوق السيادة فانتصر الفحل ثقافياً على رجل لا تعده الفحولية سيداً.
وختاماً أشير لمثال معاصر بتنقل في البيت التالي:

العين بعد فراقها الوطنا              لا ساكناً ألفت ولا سكنا

وهو للسفير العلامة خير الدين الزركلي، وشاعت القصيدة التي هذا مطلعها، وللزكري شعر غيرها غير أن قصيدة واحدة منه هي التي أخذت دورها في الذواكر الثقافية، وهذا مثال على القصيدة الواحدة التي تدخل صاحبها لبيت الشعر.

جريدة الاتحاد