تخطي إلى المحتوى
رحيل مفكِّر اللّاعنف العربيّ رحيل مفكِّر اللّاعنف العربيّ > رحيل مفكِّر اللّاعنف العربيّ

رحيل مفكِّر اللّاعنف العربيّ

"الإنسان هو اللّاعنف وإلهه العدل والإحسان" هذا ما كتبه بخطّ يده جودت سعيد المفكّر السوريّ اللّاعنفيّ، وأرسله إلى جامعة اللّاعنف في نظرةٍ استبشاريّة بإنشاء مؤسّسة أكاديميّة تُعنى بثقافة اللّاعنف وفلسفته وتاريخه والتربية عليه وحلّ الخلافات بواسطته في إطار نشْر قيَم السلام والتسامُح والتآخي والعَيش معاً لمُقاوَمة الظلم والدّفاع عن الحقوق، وذلك عبر تخصّصاتٍ حديثة وغير مسبوقة مثل الأديان واللّاعنف والإعلام واللّاعنف والتنمية واللّاعنف وصولاً إلى مسرح اللّاعنف.

رَحَلَ جودت سعيد عن دنيانا في إسطنبول فجر يوم الأحد 30 يناير/ كانون الثاني 2022 عن عمرٍ ناهز 91 عاماً، حيث وُلد في مدينة القنيطرة السوريّة (1931/ قرية بئر عجم) التّابعة للجولان السوري التي دمّرتها القوّات "الإسرائيليّة" خلال حرب تشرين/ أكتوبر من العام 1973. ومن المُفارَقة أن يرحل بعد أيّامٍ من رحيل رفيق مشروعه الفكري جان ماري مولر فيلسوف اللّاعنف المُعاصِر (12 يناير/ كانون الثاني 2022)؛ فمنذ لقائهما الأوّل في دمشق في العام 2004 كان ثمّة كيمياء بين الرجلَيْن اختلطتْ مكوّناتها وعناصرها بتفاعُلٍ كبير في بيروت من خلال الجامعة وزادتها مُداخلاتٌ ومُراسلاتٌ عديدة، فضلاً عن حوارٍ موسّع بينهما نَشَرَه مولر باللّغة الفرنسيّة وتُرجم إلى اللّغة العربيّة.

مُفكِّر اللّاعنف العربيّ

يُعتبر جودت سعيد من أوائل المفكّرين العرب الذين استخدموا كلمة اللّاعنف منذ كِتابه "مذهب ابن آدم الأوّل – مشكلة العنف في العالَم الإسلامي" الصادر في العام 1964، وحاوَلَ فيه الردّ على سيّد قطب زعيم "حركة الإخوان المُسلمين" الذي كان يدعو إلى العنف بزعْمِ أنّ القرآن الكريم "يشرِّع العنف لنُصرة دين الله" في قراءة مُبتسرة للنصوص القرآنيّة من دون أخْذها بسياقها التاريخي، فضلاً عن تفسيراتها الإغراضيّة وتأويلاتها السياسويّة بعيداً من روح العصر، وهو ما عارضه سعيد الذي كان يدعو إلى ضرورة ارتقاء البشريّة إلى مستوى الروح.

ويتوقّف جودت سعيد عند حكاية هابيل وقابيل ليؤكّد أنّ التاريخ بدأ بموقفٍ لا عنفي وليس بجريمة قتل، وأنّ هابيل خاطَرَ بنفسه لكي لا يكون قاتلاً بما يظهر المسؤوليّة الأخلاقيّة التي ينبغي على الإنسان أن يتجشّمها من خلال رفضه أيّ تواطؤٍ مع الشرّ. ويذهب أبعد من ذلك حين يؤكّد أنّ الإسلام وجميع الأديان والأنبياء يُشاطرون ابن آدم في مقاومته الشرّ والصبر على الظلم الذي ينزل على الإنسان، وذلك بالدعوة إلى الحوار وتحمُّل النتائج ورفْض الأذى والعزم على مُواجهة العنف باللّاعنف، بإعلاء حريّة التفكير والاعتقاد "ولنصبرنّ على ما آذيتمونا" (سورة إبراهيم – الآية 12).

ويُرجِع سعيد سبب الحروب إلى عوامل عدّة أهمّها العوامل الفكريّة، والمقصود بذلك "التعصُّب"، سواء لدينٍ أم مذهبٍ أم أيديولوجيّةٍ سياسيّة أم نظام أم غير ذلك، والسعي للهَيْمنة تحت مزاعم شتّى تارة بادّعاء الأفضليّات أو امتلاك الحقيقة أو المظلوميّة أو الأغلبيّة، تلك التي تقوم على الإقصاء والإلغاء والتهميش والعَزْل، ولاسيّما "بالتطرُّف".

وحين يُصبح هذا الأخير سلوكاً وينتقل من القول إلى الفعل يتحوّل إلى "عنف"، والعنف حين يضرب عشوائيّاً يصير "إرهاباً"، وحين يتجاوز الحدود بهدف إضعاف ثقة الإنسان بالدولة والمُجتمع وبالقوانين الوطنيّة والدوليّة يكتسب صفة "إرهاب دولي".

في العنف يتمّ اختيار الضحيّة بذاتها ولذاتها، لأنّ مَن يُمارس العنف يعرف ضحاياه، سواء لأسباب فكريّة أم سياسيّة أم اقتصاديّة أم دينيّة أم طائفيّة أم عنصريّة أم شخصيّة، في حين أنّ مَن يرتكب الإرهاب يستهدف زعْزَعَة الأمن وإحداث الرعب في المُجتمع ككلّ، وبما يتعدّاه إلى المُجتمعات الأخرى، وخصوصاً حين يكون الفعل الإرهابي عابراً للحدود.

وبحسب جودت سعيد فإنّ الكراهيّة هي "جراثيم فكريّة" تتغلغل في بعض المُجتمعات كما تَخترق الجراثيمُ جسمَ الإنسان، لدرجة أنّ بعض الأفراد من جرّاء تأثيرها يقومون بأعمالٍ وحشيّة، وذلك بسبب الجهل (المادّة الحاضنة للكراهيّة) والدّافع أحياناً لاستخدام العنف ضدّ الآخر، والمعرفة هي التي تتيح للإنسان سلوكَ سبيل الصراط المستقيم، صراط الحِكمة بتجنُّب الشرّ والركون إلى فعل الخير. وبعكس ذلك، فإنّ الجاهل قد يلجأ إلى العنف لأنّ معارفه للتفريق بين الخير والشر شحيحة إن لم تكُن معدومة.

اللّقاء المُثير

قرأتُ لجودت سعيد قبل أن أتعرّف إليه ثمّ التقيتُ به أكثر من مرّة واستمعتُ إليه وحاورته، المرّة الأولى في صيف العام 2009، حيث فوجئت بهذا "الشاب" الثمانيني حينذاك وقد جاء من سوريا ليُشارِك الطالبات والطلّاب فصلاً دراسيّاً، وحين سألته عن رحلته الطويلة والعويصة مع العنف، قال لي: جئتُ أتزوّد بفلسفة اللّاعنف وثقافته أكاديميّاً. وكم كان مسروراً ومُتفائلاً بتجربته تلك مع "زملاء" قال عنهم يشاطرونه مقاعد الدراسة وهُم بعمر أولاده وبعضهم بعمر أحفاده، الأمر الذي أضفى حيويّة على المشهد. والشيء بالشيء يذكر، فقد كان في الصفّ الذي أدرّسه عن ثقافة اللّاعنف وحقوق الإنسان، الشيخ زهير الدبعي مدير أوقاف السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة والمسؤول عن 168 جامعاً في الضفّة الغربيّة، وتشاطره المقعد الدراسي ابنته التي جاءت هي الأخرى للحصول على شهادة عليا في اختصاص اللّاعنف، كفرعٍ إضافي جديد ولتتعلّم مهارات وخبرات جديدة ومُفيدة. وقد أصبح الشيخ الدبعي داعيةً لاعنفيّة متمسّكاً بالمُقاومة المدنيّة.

والتقيتُ به في العام 2010، حيث كان في غاية الانشراح والاستمتاع، فلم يأتِ للتزوّد من مَعين اللّاعنف أكاديميّاً، بل هو مَن قدّم زاداً وفيراً للطلبة خلال محاضرة ألقاها عن "الإسلام واللّاعنف"، وأَشار إلى أنّه حاولَ أن يزرع ثقافة اللّاعنف في سوريا منذ أن دخل اللّاعنف إلى حياته قبل 6 عقود ولم يخرج منها. وكان قد دَرَسَ في الأزهر الشريف وعاد إلى بلده لأداء الخدمة العسكريّة وتجادَل مع مرؤوسيه فاعتُقل أكثر من مرّة، وانصرف بعدها إلى الزراعة وتربية النحل وإلى إلقاء المُحاضرات في اللّاعنف.

وكنتُ قد سألته كيف اهتدى إلى اللّاعنف، فقال: تلك حيرتي الإنسانيّة منذ يفاعتي، حيث كنتُ وأنا الشركسيّ أميل إلى التواصُل والتعامُل والتفاعُل مع الآخر على أساس العَيش المُشترَك والمُساواة واعتماد قيَم التسامُح والسلام، وأضاف حتّى بعد تدمير القنيطرة، لم أتخلّ عن قناعاتي بأهميّة المُقاومة اللّاعنفيّة، بل وضرورتها لردْع العدوان.

وحين اندلعت حركة الاحتجاج السوريّة في العام 2011 كان جودت سعيد من أوائل الذين حذّروا من اللّجوء إلى العنف وسفْك الدماء، وتلك إحدى ثوابته الأساسيّة التي ارتكزت عليها نظرته إلى العلاقات الإنسانيّة، فضلاً عن قضيّة السلام الذي ينبغي أن يكون هدفاً للبشريّة جمعاء.

رافد اللّاعنف الإسلاميّ

قارَبَ سعيد فكرة اللّاعنف وفلسفته من رافده الإسلامي، وهناك نماذج باهرة يزخر بها التاريخ العربي – الإسلامي مثل "حلف الفضول"، حين اجتمع فضلاء مكّة في دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا على إعادة الحقّ إلى أصحابه وردّ الظلم وأن لا يَدَعوا مظلوماً من أهل مكّة أو مَن دَخَلها إلّا ونصروه على ظالمه وأعادوا الحقوق إليه.

أو من خلال "دستور المدينة"، وهي "شرعة" كَتَبها الرسول محمّد (ص) الذي جاء "يثرب" مُهاجراً، فضمَّنها حقوق الطوائف والأديان والمجموعات والعشائر المُختلفة (يهود نجران والنصارى والمُسلمون – المُهاجرون والأنصار) باحترام حريّة الدّين والمعتقد. وتُعتبر صحيفة "دستور المدينة" نواةً للدولة الجديدة بالإقرار بالتعدّديّة والتنوُّع للمجموعات الثقافيّة.

أو "صلح الحديبيّة" الذي أكَّد لجوء الرسول محمّد (ص) إلى الصلح والسِّلم والتسامُح واستبعاد جميع الوسائل لتجنُّب الحرب واللّجوء إلى العنف، وقد اضطرّت قريش إلى الرضوخ له.

أو "العهدة العمريّة" التي هي عبارة عن وثيقة أصدرها الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطّاب (رض) بعد معركة اليرموك التي انتصر فيها العرب على الروم، فحين دخل مدينة القدس العام 15 ﻫ تعهّد ﺑحفْظ الحقوق لكونه مؤتمناً على حياة نصارى القدس وطوائفها وعلى أمنها وكنائسها وأموالها. وكان ذلك بحضور البطريرك صفرنيوس.

أو "وثيقة فتح القسطنطينيّة" التي أعطاها محمّد الفاتح إلى سكّان الأستانة (إسطنبول) بعد فتحها (857 ﻫ / 1453 ﻡ)، مانحاً إيّاهم حقوقاً أساسيّة هي الأمن والسلامة الشخصيّة وحفظ المال والعرض وتأدية الطقوس والشعائر الدينيّة، وخصوصاً أنّ معظم سكّانها كانوا من المسيحيّين.

وقد استهوت الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر فكرة المُقارَبة الإسلاميّة للّاعنف التي أقدم عليها جودت سعيد، وحاوَل هو في كِتابه "نزع سلاح الآلهة" (بيروت – 2015) أن يأتي عليها من منظور فريضة الإسلام والمسيحيّة. فحسب مولر ليس هناك صلة بين الإسلام و"الإسلاميّة" والمقصود بذلك الإسلامويّة أو الإسلامولوجيا أي تحويل الدّين إلى أيديولوجيا وهذه الأخيرة نسقيّة وتسيُّديّة في حين أنّ دين الإسلام يُعلِّم التسامُح والسلام والعدل والرحمة والحبّ وهو ما يسمّيه "إسلام اللّاعنف" وهو الكشف عن النور في جوهر الدّين، والأمر سيّان للمسيحيّة وجميع الأديان.

ووفقاً لجودت سعيد فإنّ اللّجوء إلى العنف ستكون آثاره وخيمةً ليس على الآخر فحسب، بل ضدّ النَّفس أيضاً، علماً بأنّ عدم اللّجوء إلى العنف لا يعني تخلّياً عن الكفاح من أجل العدالة، بل اختيار أسلوب أنجع وأقلّ خسارة من المُواجهة العنفيّة أي عدم مُجابهة العنف بعنفٍ مضادّ، بل رفض تقديم الولاء والطاعة لمَن يقوم به، وذلك أفضل السبل وأقلّها ضَرراً وأكثرها إنسانيّة.

التنويريّ العرفانيّ

يُمكنني القول إنّ جودت سعيد هو أحد كبار الفقهاء الإصلاحيّين والتنويريّين والإشراقيّين العرفانيّين، وهو امتداد للشاعر والمفكّر الإسلامي الباكستاني محمّد إقبال الذي تأثَّر بأرسطو وجلال الدّين الرومي وغوته ونيتشه. وهو تواصُلٌ مع مدرسة علي عبد الرّازق وطه حسين والمفكّر الجزائري مالك بن نبي، وذلك في إطار الموجة الثانية بعد حركة الإصلاح الأولى في نهاية القرن التاسع عشر المُتمثّلة بجمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده وعبد الرّحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدّين التونسي وحسين النائيني. وهؤلاء جميعهم دعوا إلى اعتماد العقل أساساً في الدّين والمُجتمع وهو ما يدعو إلى العِلم، فكلّ عقل نبيّ على حدّ تعبير الشاعر أبو العلاء المعرّي الذي يقول:

أيّها الغرّ إن خصّصت بعقل/ فاتبعه فكلّ عقلٍ نبي

فشاور العقل واترك غيره هدراً / فالعقل خير مشيرٍ ضمّه النادي

لم يكُن جودت سعيد سياسيّاً أو مَعنيّاً بالسياسة وإن كان همّه سلام العالَم، إلّا أنّ دعوته كانت أخلاقيّة ثقافيّة تنويريّة، لأنّه كان يُدرك حجْم الكوارث والمآسي التي يُسبِّبها العنف، وعلى غرار توماس هوبز كان يعتقد أن لا إصلاح حقيقيّاً من دون إصلاح الفكر الديني، ولذلك فقد سعى إلى نشْر الثقافة الدينيّة المُتسامحة التي تقوم على الحقيقة بعدم تسييس الدّين وتوظيفه لأغراضٍ حزبيّة أو طائفيّة أو سلطويّة، وذلك بتجاوُز العصبيّات الدينيّة والمذهبيّة والأيديولوجيّة التفريقيّة.

مجلة "أفق"