لكل أمة شعائرها ومقدساتها ومناسباتها التي تحتفي بها تأكيدا لهويتها الثقافية التاريخية. ورغم التطور الذي عرفه الغرب لا نجد هناك من يدعو إلى محو أو تجاوز تلك المقدسات والشعائر والأعياد ذات الطبيعة الدينية،رغم ادعاء الغرب العلمانية والإلحاد، بل إننا نجد في المغرب وغيره من الأقطار العربية من يحتفل بالأعياد والمناسبات المتصلة ببعض القديسين أو الأولياء، دون أن يرى غضاضة في ذلك. لكن حين يتعلق الأمر بالاحتفالات التي يفرح، ويحتفي بها الشعب المغربي نجد أصحاب النداءات والاحتجاجات الموسمية كلما حلت مناسبة عزيزة في حياة المسلمين يتدخلون بشعاراتهم ونقاشاتهم البيزنطية التي يرومون من خلالها التشكيك في تلك المناسبات، والدعوة إلى التخلص من قدسيتها، والتلويح بالخروج عليها، وعدم التقيد بما يصاحبها.
إن حلايقية الفضاء الشبكي يتوهمون أنهم برفع عقيرتهم بالصراخ، يحققون مآرب خاصة، عبر محاولتهم الطعن في معتقدات الشعب المغربي بدعوى الحداثة، في الوقت الذي تجدهم لا ينشطون في القضايا الحقيقية التي تهم المجتمع المغربي والمتصلة بهمومه اليومية باستثناء ما يتصل بالقضايا التي تبرز فيها الإملاءات الأجنبية واضحة بينة، والتي تسعى إلى فرضها على الشعب المغربي.
أثارني خبر أوردته قناة «الحرة» عن الحقوق الفردية، والدعوة إلى إلغاء قانون الإفطار في رمضان من قبل بعض الناشطين المغاربة. وتساءلت عن الجديد في هذه الدعوى التي يكررونها كل رمضان؟ فهل هناك ترصد لمن يفطر في بيته، ومعاقبة له على عدم ممارسته الصيام؟ وما معنى الإفطار الفردي العلني أمام مجتمع صائم؟ أين تبدأ حرية الفرد، وأين تنتهي حين تتعارض مع حرية الجماعة؟ لا أريد مناقشة رمضان من الزاوية الدينية. فدون ذلك ارتقاء بالنفس إلى درجات يصعب الحديث عنها. لكني أنظر إليه من الزاوية الاجتماعية وبغض النظر عن طبيعة الصائمين ودرجات إيمانهم.
يفرح المغاربة تاريخيا بعيدين: الصغير والكبير، وينتظرانهما مدة طويلة قبل حلول رمضان، أو عيد الأضحى. في رمضان يرى المغربي أنه أمام شهر فضيل يلزم فيها نفسه بما يتحرر منه في كل السنة، ويعتزم صلاة التراويح حتى إن لم يكن يصلي. وفي هذا الشهر يكثر الرواج الاقتصادي، وتبرز حرف ومهن كثيرة لا تبرز إلا في هذه المناسبة. والشيء نفسه مع عيد الأضحى. فهو العطلة السنوية لكل مهاجري الداخل من الحرفيين والصنايعية إلى قراهم النائية، حيث يمارسون الاحتفال مع ذويهم بتناول اللحم الذي يفتقدونه طوال السنة، من الرأس إلى الأكارع. إن من يقل للمغاربة افطروا ولا تضحوا يمارس عليهم عنفا رمزيا وماديا في آن واحد، ولا يحترم إرادتهم، ولا هويتهم الثقافية التاريخية. ولمن يغيظه امتلاء المساجد وقت التراويح لا علاقة له بالشعب المغربي ولا بمتخيله الجماعي، وأيا تكن المبررات التي يقدمونها للدفاع عن حرية فردية مصطنعة فهم يصطادون في الماء العكر.
بعد الانتهاء من حراسة الامتحان في ليون 3، خرجت والأستاذ الفرنسي فلم يرد التدخين أمامي رغم أني تركت له حرية التصرف. فأجابني جوابا لن أنساه: «الأكل والشرب شهوة من الشهوات. فهل تحب أن يراك أحد وأنت تمارس شهوة حميمية؟». ذكرني جوابه بما تربينا عليه في طفولتنا. كان من القيم المغربية الأصيلة ستر الأشياء الشهية عندما نشتريها كي لا يراها أحد من الجيران، ويكون محروما منها فيسبب له حالة خاصة. وكانت التذويقة واجبة إذا شم أحد جيرانك رائحة شوائك. وما «لا سلام على طعام» سوى دليل على مشاركة الآخر في ما بين أيدينا. لقد تحسر الأستاذ الفرنسي نفسه عن بداية تضييع مثل هذه القيم في المغرب، الذي قال لي إنه يعرفه جيدا، وإن سيره على خطانا وتقليده لنا سيضيع عليه رأسمالا تاريخيا ثمينا افتقدناه في فرنسا؟ ومن يعش في الغرب يعاين بجلاء إلى أين أدت «الفردانية» بالمجتمع.
كان تقاسم الطعام مع الآخر، ودعوته إليه قانونا اجتماعيا حقيقيا، ولم يكن يطالب به ناشط اجتماعي، أو شبه مثقف يقتات ممن يملون عليه ما يدعو إليه. عندما تكون أمام طبق شهي في مطعم، وقت الغذاء، ويمر أمامك أطفال، ومعهم أمهم وتقول لك: إنهم لم يفطروا بعد! هل تدعوها وأطفالها لتقاسمهم طعامك؟ أم أن حريتك الفردية تقول لك: «أنطعم من لو يشاء الله أطعمه»؟ فما علاقة القانون الجماعي بالقانون الفردي؟ لو طالب هؤلاء بقانون يقضي بإفطار اليتامى، والعجزة في دور الخيرية، أو التلاميذ في المناطق القروية، يليق بوضعهم الإنساني المتردي، طوال السنة، لكان مطلبهم اجتماعيا، ويمكن أن يسهم فيه الجميع لسد ضائقتهم. لكن المطالبة بغير ذلك بدعوى «الحرية الفردية» وفرضه على المجتمع، ليس سوى تسلط على حرية الصائمين.
إن بعض الشعائر والمقدسات ما دامت ذات بعد اجتماعي ـ تاريخي سليم، بل ومفيد للمجتمع إلى حد بعيد اقتصاديا ودينيا قد تؤثر فيه دعوات الوعاظ نسبيا. أما دعاوى المناوئين فهي مردودة على أصحابها قطعا، لأنها ضد الحرية والهوية الجماعية. لك أن تفطر هذا شأن يعنيك. أما تكديرك لفرح الآخرين فتدخل سافر وتهجم فاضح على معتقداتهم، وحريتهم الجماعية.