باكراً، نجحت نوارة، ابنة الشاعر أحمد فؤاد نجم، في وأد "فتنة" جديدة تخص أسرتها. فبعد ساعات من عرض والدتها، الكاتبة والناقدة صافيناز كاظم، مكتبتها الخاصة للبيع، بمبلغ حددته بمليون جنيه، في منشور كتبته على صفحتها الشخصية بفيسبوك، تراجعت عن عرض البيع استجابة لرغبة ابنتها.
قالت صافيناز إنها ستكمل 86 عاماً بعد أيام، ولم تعد قادرة على الاعتناء بالمكتبة الكبيرة لذا قررتْ بيعها لتتأكد بنفسها من أنها ذهبت للجهة المناسبة التي تستحقها، مخافة أن تمنحها ابنتها من بعدها لأي أحد دون تدقيق. قالت إنها أرادت رفع عبء التصرّف في المكتبة عن كاهل ابنتها، وليس رغبة في الأموال كما قيل في التعليقات التي وصلتها. عرض البيع لم يكن بالتشاور مع الابنة التي فوجئت صافيناز باهتمامها، بل وطلبها الإبقاء على المكتبة علّها تفيد الأحفاد بعد ذلك، لذلك قررت التراجع عن الأمر أو ارجاء الفكرة لوقت لاحق.
ليلة واحدة كانت الفاصل الزمني بين العرض والإلغاء، إلا أنها شهدت نقاشات ومناوشات بين المؤيدين والمعارضين تذكّر بما حدث قبل سنوات عقب إعلان بيع المنزل الأخير الذي سكنه أحمد فؤاد نجم، لرجل الأعمال نجيب ساويرس بغرض تحويله لمتحف، وهو ما لم يُنفّذ حتى الآن. وقتها خرجت نوارة بعدما زاد اللغط، لتحسم الجدل الدائر، قالت إن البيت الذي اشتراه ساويرس لم يكن بيت "حوش قدم" الشهير والذي هُدم أصلاً في زلزال 1992، لكنه منزل آخر كان لزوجته الأخيرة "أم زينب" في ضاحية المقطم، واستقرّ فيه أواخر أيامه وهي عرضته للبيع لاحتياج مادي. لذا لم تجدْ نوارة أي حرج في مشروع ساويرس وقتها، ولم تجدْ فيه انسحاقاً أمام الرأسمالية الجشعة كما حاول البعض تصوير الأمر، بل قالت إنّ الرجل "يُشكر" لأنه سيخلد اسم والدها في بيته بدلاً من أن يذهب لآخرين لا يعرفون من هو.
أيقونة جديدة
وكان هذا التخوف نفسه الذي حرّك الجدل ليلة الأمس. أن تذهب المكتبة لمن لا يعرف الأسرة ولا تاريخها الكبير. ألا تجد من يُقدّر ما تحويه، خصوصاً أن صاحبتها قالت في التعليقات التي توالت على عرض البيع إنها لا تجد في نفسها القدرة على الفرز ولا الخبرة في العرض، ولا حتى على بذل أي مجهود، وهي جملة أيقونية جديدة سرعان ما وجدت طريقها إلى منصات التواصل الاجتماعي كجملة "ألغى رحلتي" التي قالتها في حلقة تلفزيونية شهيرة من قبل..
أكدت صافيناز في تصريحاتها المتوالية، أنها ما زالت تتمتع بحكمتها وحزمها وصفائها الذهني، لكن عدم قدرتها على ترتيب المكتبة والعناية بها، كان أحد الأسباب الرئيسية لعرض البيع، وهو ما يؤكد طبيعتها المُنظّمة التي كتبت عنها نوارة في كتابها "وأنت السبب يابا"، بعكس والدها الذي قالت إنه يعشق الضوضاء "يمكن لأبي أن يكتب أجمل القصائد وبجواره شخص يغني وشخصان يتشاجران وخمسة أشخاص يلعبون الورق وشخص يغط في النوم"، لكنْ شريطة ألا يطالبوه بالتفاعل معهم، لذلك بنى غرفة على السطح الذي يعلو شقته ليجلس فيها ويكتب ويستقبل أصدقاءه من دون إزعاج زوجته "أم زينب".
قالت صافيناز أيضاً إنها ليست تاجرة ولا خبرة لديها في أمور كتلك، وأن مبلغ المليون جنيه كان رقماً جزافياً لجذب المهتمين، وأنها لم تكن ستقبل أي رقم أقل أو حتى أكبر منه! التخوف الأساسي لدى المتابعين كان أن تقع المكتبة في يد تاجر، فتتبعثر محتوياتها، وربما كان فيها أو بالتأكيد سيكون فيها النادر والنفيس في موضوعات متعدّدة ومتباينة. فشخصية مثل صافيناز، درست في القاهرة وأميركا، وحصلت على الماجستير في النقد المسرحي من جامعة نيويورك، وكتبت عشرات المقالات وخاضت عشرات المعارك السياسية والدينية، عملت في العراق، وتزوجت من الشاعر أحمد فؤاد نجم. وشخصيتها المركّبة هذه لا بد أنها راكمت في مكتبتها الشخصية الكثير مما يجذب تجار الكتب والمقتنيات، وهو سوق له خبراء أو بالأحرى عصابات في مصر الآن. فخلال السنوات الأخيرة، أصبحت المقتنيات الشخصية لكبار الفنانين والمثقفين تباع في الطرق وتعرض في صفحات التواصل الاجتماعي يومياً لمن يريد الشرء. لذا تمنى أصحاب التعليقات على منشور صافيناز، أن يحدث تدخّل رسمي يحفظ حق الأسرة ويحمي المقتنيات من الضياع.
العبث والحجاب
المؤكد أن قرار البيع لم يكن سهلاً. يكفي أن نراجع ما كتبته صافيناز سابقاً عن سعيها لجمع محتويات المكتبة، رحلتها إلى الفجالة مثلاً بحثاً عن مقدمة ابن خلدون وغيره، الكتب التي قرأتها وشكلت أفكارها وكتبت عنها وبالتأكيد ما زال بعضها متواجداً على رفوف مكتبتها... وكيف عاقبت أستاذها في النقد المسرحي، مارتن أسلن، بدس كتبه في ركن مهجور في المكتبة، بعدما علّق على شخصيتها المربكة وقال إنه لا يفهم كيف تجمع بين التزامها الإسلامي وبين الإعجاب بمسرح العبث. وقتها قالت إن "العبث كما أحببته ليس هو اللاجدوى لكنه الحقائق التي لا تعتمد على المنطق الراسخ والتي لا تعتمد على المدركات العقلية، فلا يمكن شرحها وتفسيرها وقبض اليد عليها، الذي أحببته في مسرح العبث أيضاً هو رفضه الوجه الغاشم للبطش وتصويره الكاريكاتيري للطغاة". وأخيراً، كتبت عن خشيتها من أن تلقي حتفها تحت ركام مكتبتها في زلزال 1992 الشهير، وكيف كانت ترى المكتبة الضخمة تنحني بحملها وتعود إلى مكانها مرات عديدة، فيما المبنى كله كعلبة كرتون في مهب الريح، وروَت كيف ظلت بعدها لا تدخل مكتبها إلا للضرورة "إنه المكان الذي خبطني فيه الزلزال، إنه بقعة الخبرة المخيفة، فألوذ بسريري معظم الوقت أقرأ وأكتب وأتلو وأتضرّع وأرصد الهزات حين لا يغلبني النوم. سريري في غرفة نومي التي تطل على ضجيج شارع العباسية والذي لا ينقطع ليل نهار، لكني أرهف السمع وأنخل الضجيج لأميز الروتيني والطارئ".
في صيحته "ضد المكتبة"، يقول الكاتب خليل صويلح إن المكتبة ليست بحجمها إنما في نوعية محتوياتها، ويحكي عن حادثة شهيرة جرت في القرن الثامن عشر، حين أراد الشيخ محمد سعيد القاسمي أن يبتاع شيئاً من عطار، فوضّب له العطار ما باعه في ورقة مكتوبة، ولما عاد الشيخ إلى بيته، فتح الورقة وقرأ ما فيها فأدرك أنها جزء من مخطوطة تاريخية، فعاد على الفور إلى دكان العطار وحصل على بقية الكراسة، حتى اجتمعت له مخطوطة شهاب الدين أحمد البديري الحلاق، وهي اليوم من أهم الوثائق النفيسة عن تاريخ دمشق الشفاهي في القرن الثامن عشر وتحمل عنوان "حوادث دمشق اليومية". والحوادث من هذا النوع أصبحت يومية في مصر. لذا ربما أرادت صافيناز كاظم إنقاذ مكتبتها من مصير مماثل، إذ خشيت عَرض محتوياتها في الطريق أو بيع كتبها النادرة بالكيلو لمطاعم الفول والطعمية!