كلما تأملت ما يحدث في الأوساط الثقافية من حالات عدائية بين بعض الكتاب وبعض الذين يحققون خطوات ناجحة في طريقهم نحو الأدب أتذكر ما حدث بين اليابانيين العظيمين يوكيو ميشيما (1925-1970) وياسوناري كاواباتا (1899-1972)، فأعيد السعي إلى استنباط رأي فرويد ويونغ بهذه الحالة العدائية التي غالبا ما تنتج عن غيرة رآها فرويد من زاويته العلمية (ممارسة غير واعية).
سعى ميشيما في بداية صعوده الأدبي إلى إيجاد المُعلم في مساحة مسيرته، بينما كان كاواباتا وهو في أوج شهرته الأدبية يستشعر رغبته الملحة في احتواء التلميذ.
وحدث ما رغب به الاثنان؛ إذ شرعا بتبادل رسائل باتت إضافة لكونها ذخيرة أدبية غنية، مرجعا في فهم أديبين على نحو استثنائي من الأهمية والنبوغ.
وبعد زمن من الرسائل واللقاءات المبنية على الاحترام والإيمان بالأدب بينهما حدثت الانعطافة؛ إذ كان ميشيما يحلم بجائزة نوبل سعيا إلى العالمية، وكان لدى كاواباتا الراغب بالجائزة أيضا معلومات تشير إلى أنها ربما تمنح لليابان؛ فطلب من تلميذه ميشيما أن يرسل إلى الجائزة رسالة ترشحه لها، ففعل.
فاز كاواباتا بنوبل عام (1968)، وانسحب ميشيما -الذي خسر فرصة نيله الجائزة - من حياة معلمه من دون أن يهنئه حتى، لكنه أرسل له رسالة سوداوية لمح فيها الى انتحاره، وبالفعل أقدم على ذلك.
رسالة مؤثرة قرأ كاواباتا جزء منها في مراسيم الجنازة خاصة تلك التي يوصيه ميشيما فيها بعائلته.
تركت حادثة انتحار ميشيما أثرا كبيرا في نفس كاواباتا الذي بعد زمن انتحر هو الآخر ملتحقا بصديقه، تاركين للمكتبة العالمية ما تمخض عن علاقة عميقة، ثرية، لم تهبط إلى القاع، رغم القطيعة التي انتهت بها صداقتهما.
ربما لا يندرج ما حدث بين هذين الأديبين الكبيرين في خانة الغيرة والتصارع التي نشهدها في هذه الأيام، وفي الوقت نفسه يمكن اعتباره قريبا منها بما أنه مبني على نزعة ذاتية، لكننا لم نشهد عبر ما تركاه من إرث أدبي في رواياتهما ورسائلهما، تراشق تهم، ومكائد، وسعيا لاغتيال الشخصية، بل ظل الاحترام والتقدير الشخصي والأدبي محورا مهما في علاقتهما الاستثنائية، كل واحد منهما يرى الآخر أديبا كبيرا، وله رؤية خاصة متميزة.
ما حدث بين ميشيما وكاواباتا حدث بين بعض الأدباء في العالم، وتناقلت الأوساط الثقافية عددا من الحكايات حول ذلك وبمستويات مختلفة.
لقد فعلت المكائد في الأوساط الثقافية فعلها في الآونة الأخيرة، إذ جعلت القارئ حين لمس بعضا منها، الذي يرى في هذا الوسط بُعدا مقدسا، يتساءل عن ضرورة التقارب بين الكاتب ونصه، الأمر الذي عبث برؤية القارئ، وخلق حالة من الفرقى بين الكثير منن الكتاب، بل حتى قطيعة ألقت بظلالها السلبية على المشروع الثقافي برمته؛ فأرست مزيدا من القواعد للذاتية والفردانية بمعناها السلبي.
وحين نتحدث عن المكائد وعن قدومها من جهة الغيرة والذاتية المفرطة التي ترى بالضرورة عدم الاعتراف بالمقابل وكأن النص الأدبي يولد بمحض ذاته، فإن كثيرا منها يأتي بلبوس الجدل، من دون أن يعي متبينه أن ذلك الجدل إن لم يكن راقيا ومبنيا على أسس سليمة فقد سمته، واندرج في خانة الاغتيال لمصالح ذاتية، وهنا يغدو النص الأدبي مجرد صراخ في الفراغ.
شهدنا قديما على الصعيدين العالمي والعربي بعضا من المساجلات، والجدل، والنقاش، حول مسائل أدبية، وأفضت تلك الحالات إلى ما هو إيجابي، لكنا ما عدنا نرى مثل تلك الحالات، بل أصبحنا وفي ظل الانفجار الاتصالاتي وما نتج عنه من مواقع للتواصل الاجتماعي أمام حروب غالبًا ما تكون صغيرة، مقاصدها ذاتية بحته، ومخرجاتها ضارة للجسم الثقافي بشكل عام.
يرى البعض أن صعود أحدهم سلب للمسافة التي يفكرون بالمضي فيها.
ومن هذا الجانب هناك من يمضي في هذه الطريق سعيا إلى مراده، وهناك من يحاول عرقلة من حققوا خطوات في طرقهم، ولا تفسير لذلك غير العجز الناتج عن ذاتية تغلب على الموضوعية. هناك فرق بين الغيرة الإيجابية التي تفضي إلى نتيجة إيجابية يحظى بها النص الأدبي فتكرم صاحبها، وبين الغيرة السلبية، التي تضر بصاحبها.