مرّ عام كامل على طوفان الأقصى الذي أصاب إسرائيل في مقتل. كانت الصهيونية قبل هذا الموعد مطمئنة إلى أن التطبيع مع الدول العربية سيضع حدا فاصلا لتاريخ امتد لأكثر من سبعين عاما، من الإحساس بعدم الأمان، والتفكير الدائم في احتمال حرب ممكنة، وأنها بذلك تنهي حلم الفلسطينيين في إقامة دولة إلى جانبها. وكانت أمريكا ومن ورائها إسرائيل مغتبطة بهذا الإنجاز التاريخي الذي تساهم فيه أمريكا بالواضح والمرموز، والذي تراه يتحقق مع حكومة اليمين المتطرف. لكن طوفان الأقصى كدّر الفرحة، وبدّد الوهم، وأعاد القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر. نعم النقطة التي جعلت نتنياهو يتحدث، ويتوعد، وهو في أقصى درجات التشنج، بنكبة جديدة كبرى.
وكان، ما كان مما شغل العالم بأسره خلال عام كامل. حددت إسرائيل أهدافها في إرجاع الرهائن، وتفكيك “حماس”، والقضاء على المقاومة. لم يتحقق أي من هذه الأهداف رغم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، وتدمير البنيات التحتية في غزة، بقيادة الجيش الأكثر أخلاقية في العالم! وأمام العجز المطلق عن الوصول إلى المبتغى، مارست الصهيونية حرب الإبادة، ونقلتها إلى الضفة الغربية، رغم الفارق الكبير بين مواقف وممارسة العُدْوتين، فاستباحت الضفة بالاعتقالات والاغتيالات والتدمير. فالعدو واضح ولا عبرة للالتزامات والعهود. وكان لجبهة الإسناد دور في فتح جبهات أخرى، وكأن إسرائيل كانت تتحينها لتوسيع مجالات حربها التدميرية، وإن لم تكن في حاجة إلى تسويغها للإقدام على ممارسة أكثر أعمالها وحشية وهمجية، من جهة. ومن جهة أخرى كان هدفها توريط أمريكا بشكل مباشر في التدخل إلى جانبها، وهي تعمل جاهدة على إدماج إيران في هذه الحرب التي يستخدمها اليمين المتطرف، للحيلولة دون أي حديث عن حل الدولتين، من جهة ثالثة.
إن إسرائيل، وهي تسعى إلى تشخيص أعدائها، تعمل على إعطاء شرعية مقولة “الدفاع عن النفس” تعيينا، لكن إيحاءاتها البعيدة والحقيقية هي تحقيق “أسطورة إسرائيل الكبرى”، التي تعمل على “تحضير” المنطقة، وتنظيفها من “الإرهابيين” و”المتخلفين”. شخصت الصراع أولا مع “حماس”، فرأت كل ما يتحرك في قطاع غزة يتخذه المقاومين ملاذا، فكان التدمير يطول كل شيء. ثم شخصتها في السنوار، وقادة “حماس”، فرأت في الاغتيالات انتصارات باهرة يحق لنتنياهو وزبانيته الافتخار بها، وإرغام المعارضة وأهالي المحتجزين على السكوت أمام المعجزات التي يحققها الجيش الذي لا يقهر. رفضت إسرائيل أي دعوة للهدنة أو وقف الحرب. وفي كل مرة تغير “بنك أهدافها”، تمويها وتهربا، ويدعي نتنياهو أنه أعطى الضوء الأخضر لمفاوضيه، وهو متوجه إلى البيت الأبيض، فيتم استهداف إسماعيل هنية. وعندما اشتد الصراع مع حزب الله، وبدأ الحديث عن احتمال توسع دائرة الحرب الشاملة، أشيع الحديث عن هدنة ثلاثة أسابيع، فتوجه إلى الأمم المتحدة، فكان اغتيال حسن نصر الله وبعض قادة الحزب. وكان الزهو بالانتصار الأعظم.
إن تشخيص العدو لعبة أمريكية قديمة مارستها في حربها على الحركات الإسلامية المتطرفة (بن لادن…)، ولم تكن الاغتيالات سوى مكافأة سخيفة لتزكية انتخابية جديدة. لكن مع القضية الفلسطينية لا يمكن للتشخيص أن يؤتي أكله، لأن القضية ليست قضية شخص، أو حركة، أو حزب، ولكنها قضية شعب. لم ينه اغتيال هنية، المقاومة في غزة، بل زادها اشتعالا وصمودا. ورغم مرور عام كامل، ما يزال الجيش الإسرائيلي يراوح مكانه في جهات عدة في غزة، يخرج من أي منطقة ليعود إليها. كما أن الاغتيال الشنيع والجبان لقادة حزب الله لم يقض على المقاومة اللبنانية، بل أبرزها أقوى مما كانت عليه، وما استبسالها في التصدي بقوة أمام أي محاولة للتوغل برا سوى دليل على ذلك.
مرّ عام كامل على حرب الإبادة ادعت فيه الصهيونية أولا أنها ستعيد المحتجزين إلى ديارهم. وادعت ثانيا أنها ستعيد مستوطني الشمال مطمئنين بعد دحر حزب الله، لكنها لم تحقق أيا من أهدافها، بل إن الأمن الذي تريده لمواطنيها بتقتيل الفلسطينيين واللبنانيين وتدمير بيوتهم، وفرض التهجير عليهم لا يمكنه أن يؤدي إلى أمن الإسرائيليين، الذين لا يريدون الحرب ويحلمون بوقفها. لم تدخل الصهيونية على أهالي المحتجزين فرحة عودتهم إلى ذويهم، ولم تجعل غيرهم ينعمون بالهدوء والراحة. إنه كلما تعالت أصوات الغارات والمدمرات والمسيرات على غزة والضفة ولبنان، دوت صافرات الإنذار التي تروع المستوطنين وتدعوهم إلى المخابئ. لا يمكن للدفاع عن النفس كما تروج له الصهيونية وأمريكا أن يكون على حساب تدمير شعب لا ذنب له إلا الدفاع عن حقه في الوجود. ولا يمكن للغرب ادعاء حقوق الإنسان، وحرية الأفراد، ويفرضها على الشعوب العربية والإسلامية، وهو يساهم في إبادة شعب بكامله، إعلاميا، وبتزويدها بالأسلحة المتطورة، ويظل يتفرج خلال عام كامل على “مأساة إنسانية” ساهم في تشكيلها وفرضها على شعب أعزل إلا من إرادته في الحياة.
مرّ عام كامل على حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني واللبناني. وقد كشفت هذه الحرب كل ما ظل يتستر خلال عدة عقود من شعارات، وأفكار، ودعاوى، وعلاقات. وأبانت أن الحديث عن “الإنسان” و”النزعة الإنسانية” مجرد أكذوبة، وأن التآمر والخذلان أهم مظاهرها. وأن قضية شعب يحلم بالحرية لا يمكن أن تبيدها أسطورة يهودية ـ مسيحية مبنية على الكذب والخداع، وتتأسس على المجازر والمذابح والاغتيالات.