تخطي إلى المحتوى
عالم استخبارات جديد.. كيف يغير الذكاء الاصطناعي طرق التجسس؟ عالم استخبارات جديد.. كيف يغير الذكاء الاصطناعي طرق التجسس؟ > عالم استخبارات جديد.. كيف يغير الذكاء الاصطناعي طرق التجسس؟

عالم استخبارات جديد.. كيف يغير الذكاء الاصطناعي طرق التجسس؟

في 27 يونيو/ حزيران عام 2010، ألقى مكتب التحقيقات الفيدرالي القبض على 10 جواسيس روس عاشوا وعملوا كمهنيين أميركيين بالقرب من مدينة نيويورك، كشفت القضية واحدة من أكبر شبكات التجسس في الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي كانت تعتمد في عملها على نظام معقد من الهويات المزيفة والاجتماعات السرية.

يزعم مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أن جهاز المخابرات الروسي قد أرسل جواسيس للعيش في الولايات المتحدة بأسماء مستعارة بقصد أن يصبحوا أميركيين بحيث يمكنهم بناء علاقات مع المصادر وجمع المعلومات دون إثارة الشكوك. تزوج بعض هؤلاء الوكلاء داخل المجتمع الأميركي وأصبح لديهم أطفال نشؤوا أميركيين ولا يعرفون أن والديهم روس. وذكر المكتب أن هؤلاء الجواسيس نجحوا في جمع معلومات حيوية، بدءا من معلومات حول الأسلحة النووية، مرورا بمعلومات حول سوق الذهب، ووصولا إلى التغييرات في أفراد في وكالة المخابرات المركزية.

يمكن اعتبار هذه الشبكة الاستخباراتية الروسية واحدة من أكثر الشبكات المكتشَفة تعقيدا وتركيبا، لكن في النهاية اكتُشِفت، وهذا هو السيناريو الغالب مع العملاء والجواسيس، فمهما طال أمد تخفيهم فإنهم يُكشفون في النهاية.

تغيير جذري!

الآن لنسافر إلى 22 يونيو/ حزيران من عام 2023 الجاري، حينما انعقدت قمة بلومبيرغ للتكنولوجيا في سان فرانسيسكو تحت شعار "نقطة تحول للتكنولوجيا". ركزت القمة التي استمرت ليوم واحد على موضوعات، مثل التطور السريع لوسائل التواصل الاجتماعي، ومستقبل تكنولوجيا العملات المشفرة، وقوة وتهديدات خدمات الذكاء الاصطناعي؛ وقد أعرب العديد من خبراء الصناعة عن قلقهم بشأن دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز عمليات التجسس.

تظهر أنظمة الذكاء الاصطناعي في واجهة خادعة جذابة، لكن التكنولوجيا في الواقع تدخلية واستغلالية. زعم بعض المتخصصين أن نماذج الذكاء الاصطناعي تعمل كشكل من أشكال تكنولوجيا المراقبة، حيث تُجمَع كميات هائلة من البيانات من المستخدمين وتُعالَج بواسطة شركات الذكاء الاصطناعي لاستخدامها في مراقبة الجمهور. ومع هذا التقدم الكبير في التكنولوجيا، يمكن لوكالات الاستخبارات الدولية، في عصرنا هذا، الحصول على المزيد من البيانات لمعالجتها أكثر من أي وقت مضى. 

لا يقتصر عمل وكالات الاستخبارات الدولية على البيانات المتاحة بشكل عام، حيث تأمل هذه الوكالات في أن يعزز الذكاء الاصطناعي قدرتها على التطفل على المعلومات الخاصة. وفقا لتقرير نشرته لجنة الأمن القومي الأميركية للذكاء الاصطناعي، وهي مجموعة رفيعة المستوى يرأسها "إريك شميدت"، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "ألفابيت"، الشركة الأم لغوغل، و"بوب وورك"، نائب وزير الدفاع السابق؛ فإن الذكاء الاصطناعي سيُحدث ثورة في مجال الاستخبارات. أشار التقرير إلى أنه بحلول عام 2030 يجب أن تكون وكالات التجسس الأميركية قد شيد بنية استخباراتية قوية قائمة على الذكاء الاصطناعي، من أجل مواكبة التهديدات التي تلوح في الأفق. (4)

عند هذه النقطة، تظهر "إيمي زيغارت" التي أمضت معظم حياتها المهنية في دراسة التفاعل بين التكنولوجيا الجديدة وجمع المعلومات الاستخبارية. "إيمي زيجارت" هي عضوة بارزة في معهد "فريمان سبوغلي" للدراسات الدولية في ستانفورد ومؤسسة هوفر، وقد كتبت الكثير من التقارير حول قدرة الذكاء الاصطناعي وطوفان المعلومات مفتوحة المصدر الجديدة على إحداث تغيير جذري في فن التجسس التقليدي (3)، قائلة إن التحديثات التي جعلت الذكاء الاصطناعي جذابا لمجال الاستخبارات في السنوات الأخيرة هي توافر المزيد من البيانات، وتطور الخوارزميات بشكل كبير، بالإضافة إلى المزيد من قوة المعالجة.

حول التغييرات التي سيفرضها الذكاء الاصطناعي على مجال العمل الاستخباراتي، تقول "زيغارت": "منذ فجر التاريخ وحتى اختراع الإنترنت في الستينيات، كان هناك أمران يوفران الأمان للدول المختلفة، هذان الأمران هما: القوة والجغرافيا". لم يعد هذا قائما الآن، في الفضاء الإلكتروني يمكن لأي شخص التهديد عبر الحدود دون إطلاق رصاصة واحدة لأن الجميع متصل بالإنترنت، لا توجد محيطات أو سلاسل جبلية تحمينا.

في الوقت نفسه، القوة ليست كما كانت عليه من قبل، الولايات المتحدة هي أقوى ممثل في الفضاء السيبراني وأيضا الفاعل الأكثر ضعفا في الفضاء السيبراني لأننا مرتبطون رقميا، ونتيجة لذلك يتعين على مسؤولي المخابرات فهم وتوقع مجموعة واسعة من التهديدات من الدول الضعيفة والجهات الفاعلة غير الحكومية، وليس فقط من الدول والمنافسين الأقوياء.

تغيير آخر يفرضه الذكاء الاصطناعي على المجال الاستخباراتي، هو السرعة، المعلومات تنتقل بسرعات أكبر، واتخاذ القرار يجب أن يتم بسرعة أكبر أيضا، وهو ما يخلق الحاجة إلى تقنيات ذكاء أسرع وأكثر فاعلية. تقول "زيجارت" في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول كان لدى الرئيس جورج دبليو بوش كانت لديه 13 ساعة فقط لتقييم المعلومات الاستخبارية حول المسؤول عن هذا الهجوم وكيف سترد الولايات المتحدة، اليوم قد يكون الوقت المتاح لاتخاذ القرار 13 دقيقة أو أقل.

المزيد من الجواسيس

في عصر الذكاء الاصطناعي الجديد، أصبحت عملية جمع المعلومات الاستخباراتية لا مركزية للغاية أيضا، أصبح الآن هناك شركات تكنولوجيا خاصة وأقمار صناعية تجارية ومواطنون عاديون يبثون مباشرة ما يحدث لهم أو ما يعانون منه أو ما يتعرضون له من مواقف مختلفة عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. إذا أصبح العالم مكشوفا إلى هذا الحد، فما مدى الاحتياج إلى عميل يتنكر بهوية مختلفة أو جاسوس يجلس على المقهى ليسمع ويجمع ما يقوله الآخرون، في الوقت الذي يشارك فيه الجميع على مواقع التواصل الاجتماعي ليس أحداث حياتهم فحسب، بل حتى أفكارهم؟

يرتبط هذا بتغير متوقع في عمل أجهزة الاستخبارات التي ستعين عليها التعامل مع تحدي معالجة كميات هائلة من البيانات، والاستفادة من حقيقة أن جمع المعلومات الاستخباراتية هو عمل بات من الممكن أن يقوم به أي شخص بشكل غير مقصود. بالطبع سيظل التجسس التقليدي مهما، لكن التعلم الآلي يمكن أن يحرر البشر من بعض المهام التي تستنزف الوقت والجهد.

مثلا، الأقمار الصناعية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي تكون جيدة جدا في حساب عدد الشاحنات على الجسر، لكنها لن تستطيع إخبارك بما تعنيه تلك الشاحنات، أنت بحاجة إلى البشر لمعرفة رغبات الآخرين ونيّاتهم. لكن، كلما قلّ الوقت الذي يقضيه المحللون البشريون في عدّ الشاحنات على الجسر، زاد الوقت الذي يمكنهم خلاله التفكير ومعرفة ما تفعله هذه الشاحنات. بشكل مماثل، لن يكون هناك حاجة لعملاء بشريين لتحديد موقع الصواريخ التي تحتفظ بها دولة ما، حيث يمكن لخوارزمية لتحليل صور الأقمار الصناعية أن تُحدد الأماكن المُحتمَلة لوجود هذه الصواريخ، ما يوفر جهد البشر للقيام بتفكير تحليلي عالي المستوى.

الرسائل السرية

كان مما اكتُشِف خلال قضية شبكة التجسس الروسية في الولايات المتحدة الأميركية السابق ذكرها هو قدرة هذه الشبكة الكبيرة على إخفاء المعلومات بشكل غير تقليدي. أخفى جواسيس نيويورك أسرارهم من خلال جعلها على مرأى من الجميع، فمثلا، قاموا بترميز الاتصالات ضمن وحدات البكسل لصور تبدو عادية للغاية، عادية لدرجة أنها كانت تُنشَر على مواقع الويب المتاحة للجمهور. وللحصول على الرسالة المشفرة، كان على المستلم تنزيل الصورة، وترجمتها من الكود الثنائي، ومن خلال الأرقام تُترجَم الرسالة المقصودة. لكن رغم كل هذا التعقيد، كُشف الأمر في نهاية المطاف.

كانت الرسائل السرية دوما جانبا مهما من جوانب الاستخبارات، تُخبرنا الوثائق عن استخدام الجواسيس للحبر السري والرسائل المشفرة والاتفاق على استخدام مصطلحات أو كلمات بعينها يكون متفقا على أنها تُعبّر عن معنى آخر مختلف عن ظاهر النص، أو تصغير الكتابة إلى الحد الذي يجعلها تبدو نقاطا إذا وقعت في يد شخص غير مقصود، لكن الشخص المقصود سيتمكن بسهولة من تكبير الكلمات واستقبال المعنى المُرسل. أيضا ظهر علم إخفاء المعلومات، وهو فن يختلف عن الطريقة المعروفة للاتصال السري والمعروفة باسم التشفير.

من خلال التشفير، يجري عن قصد إخفاء محتوى رسالة ما وتحويلها إلى مجموعة متشابكة من النصوص أو الأرقام، أما علم إخفاء المعلومات فهو يقوم على إخفاء حقيقة وجود سر من الأساس. يقول "كريستيان كاشين"، عالم الكمبيوتر والتشفير بجامعة برن: "إخفاء المعلومات يعمل بالأساس على إخفاء وجود الرسالة. إذا تمكن الخصم من اكتشاف رسالة مخفية، فهذا يعني أن المرسل قد خسر اللعبة".

خلال أي طريقة من طرق التواصل السري، يكمن التحدي بشكل أساسي في كيفية جعلها غير مثيرة للشك بأي درجة، بمعنى أن يبدو الأمر طبيعيا للغاية للدرجة التي لا تجعل أي إنسان ولا كاشف آلي يشك في وجود رسالة. بالنسبة إلى علم إخفاء المعلومات، لطالما كان تحقق هذا الأمر احتمالا نظريا، ولكن كان من المستحيل تحقيقه من خلال الاتصالات البشرية الفعلية. (4)

لكن ذلك كله يتغير مع ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل "ChatGPT" الذي يمكن اعتباره بداية طريقة مختلفة للمضي قدما في مجال تشفير الرسائل وإخفاء المعلومات، فقد أوضحت دراسة جديدة (5) أنه يمكن بسهولة أكبر تخبئة الرسائل السرية في الوسائط التي يولدها الذكاء الاصطناعي. أضافت الدراسة أنه يمكن تحقيق درجة مثالية من الأمان عند إخفاء رسائل محددة في الرسائل التي تُنشَأ آليا، سواء أكانت رسائل نصية أو صورا أو مقاطع مُصوّرة أو أي وسائط أخرى. قام المبرمجون أيضا بتضمين مجموعة من الخوارزميات لإنتاج رسائل آمنة يصعب اكتشافها، وهم يعملون على إيجاد طرق لدمجها مع التطبيقات الشائعة.

سباق محتدم

في تصريحات لصحيفة "بوليتيكو" الأميركية، أكد "ريتشارد مور"، رئيس جهاز المخابرات البريطانية، المعروف باسم "MI6″، أن أجهزة الاستخبارات في سباق حاليا لاستخدام الذكاء الاصطناعي ودمجه في جهودها الاستخباراتية للتغلب على الخصوم الذين يستخدمون هذه التكنولوجيا ومنعهم من إساءة استخدامها.

أوضح "مور" أن الضباط في خدمته يحاولون دمج مهاراتهم الخاصة بالذكاء الاصطناعي والتعامل مع البيانات الضخمة في عملهم الاستخباري، بما في ذلك تحديد وتعطيل تدفق الأسلحة إلى روسيا لاستخدامها ضد أوكرانيا. (6) وبشكل مماثل، صرّح جهاز الشاباك الإسرائيلي بأنه يستخدم الذكاء الاصطناعي لإحباط "التهديدات" الكبيرة. وقال رئيس الجهاز "رونين بار" إن من بين الإجراءات التي اتخذها الشاباك إنشاء منصة الذكاء الاصطناعي الخاصة به، على غرار "ChatGPT"، مضيفا أنه باستخدام الذكاء الاصطناعي قد اكتُشِف عدد من التهديدات التي وصفها بكونها "غير مهمة". 

تزعم العديد من وكالات الاستخبارات اليوم إنها "مضطرة" لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ودمجه في عملها، فمثلا يوضح "ريتشارد مور"، رئيس جهاز المخابرات البريطانية، أن وكالته تهتم بتعلم كيفية إتقان تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي لأن الخصوم يفعلون الشيء نفسه، بطرق تهدد المملكة المتحدة وحلفاءها، وحذَّر من أن بعض الخصوم سيكونون مستعدين لتطوير الذكاء الاصطناعي بطرق متهورة وخطيرة، وهذا أمر مقلق.

لكن طريق أجهزة الاستخبارات في هذا المجال ليس مفروشا بالورود. في هذا السياق، يشير تقرير لمجلة "إيكونوميست" إلى أن القيود التي تواجه استخدام أجهزة الاستخبارات الدولية للذكاء الاصطناعي هي قيود "عملية" بقدر ما هي "أخلاقية". يُعدّ التعلم الآلي جيدا في اكتشاف الأنماط، مثل الأنماط المميزة لاستخدام الهاتف المحمول، ولكنه ضعيف في التنبؤ بالسلوك الفردي. هذا الضعف يزداد بشكل خاص عندما تكون البيانات شحيحة، كما هو الحال في مجال مكافحة الإرهاب.

المصدر: 
الجزيرة