تعتبر شخصية الشيخ المجاهد عز الدين القسام، رحمه الله، إحدى الشخصيات البارزة في مسيرة المقاومة والجهاد ضد الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والاستيطان الصهيوني "المبكّر" في العشرينيات والثلاثينيات مـن القرن العشرين، وهو الذي تمكن بفضل الله تعالى، وبما امتلك من كاريزما دعويةٍ، وخبرةٍ ومراسٍ، ودوره في التعبئة، والتوعية، والتجنيد، والتنظيم، من قيادة ثوار فلسطين ضد الإنجليز والمستوطنين اليهود في عام 1935م، وأذاقهم الويلات والمرارة لأيام وشهور طويلة.
أصبح المجاهد عز الدين القسام رمزاً من رموز الكفاح والجهاد ضد الاستعمار في فلسطين، ونموذجاً يُحْتَذَى به في حرب المقاومة الفلسطينية ضد العدو الاستيطاني "الصهيوني"، في التزامه بمنهج الله، وإيمانه، وثباته، وقوة عزيمته في طريق الجهاد والنصر. ولم تكن حياة ذلك الداعية والمجاهد الشامي أكثر من سجل ممتد من المقاومة، ونهرٌ من المطاردات، وأحكام الإعدام، فقد كان عدواً مشتركاً لدول أوروبا المستعمِرة، فحارب المستعمرين الفرنسيين في موطنه الأصلي "سوريا". كما جمع السلاح، وألَّف الكتائب، وحصّل التبرعات المالية، لدعم المجاهدين في ليبيا ضد المحتل الإيطالي، وكانت نهاية حياته حرباً مفتوحة ضد الاحتلال الإنجليزي والصهاينة في فلسطين. وقد نال في حياته التي لم تطل كثيراً أحكاماً متعددة بالإعدام، لكنها كانت أوسمة في سجلات ذكراه، وصحائف مشرقة في حقائب أيامه.
إن البحث في مسيرة المجاهدين ورجال الكفاح والجهاد الوطني، أمثال الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله) لا تنحصر في كونها مراجعةً تاريخيةً لتجربة شخص، بل هي تتبع لمسيرة هذه الأمة العظيمة، وجهاد أبنائها، وربط ماضيها بواقعها الحالي؛ لاستيعاب وفهم سنن الله وأقداره الماضية في التدافع، والابتلاء، والاستخلاف، والتمكين، والتغيير الحضاري.
عز الدين القسام (رحمه الله): مولده ونشأته
ولد الشيخ محمد عز الدين القسام في مدينة جبلة السورية، وهي إحدى عرائس الشام القريبة من البحر الأبيض المتوسط، وكبرى المدن التابعة لمدينة اللاذقية السورية، وكان مولده عام 1300هـ/ 1882م. وينتسب الشيخ عز الدين القسام لأسرة فقيرة الحال، ومشهورة بالعلم والورع. وكان والده الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المهتمين بالتصوف وعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها. وقد تزوج الوالد من امرأتين؛ الأولى أمه حليمة، وأنجب منها (فخر الدين، وعز الدين، ونبيهة)، والثانية آمنة جلول وأنجب منها (أحمد، مصطفى، كامل وشريف).
فكان القسام ابناً لرجلٍ داعيةٍ، عاش من أجل القرآن، وتحلى ببدائع قيم الدين الإسلامي، وأخذ بالسنام العالي من الاعتزاز بالإسلام، فأطلق على ابنيه اسمي عز الدين وفخر الدين، وكأنه يُهيئهما لأن يظل رنين الاسمين صادحاً في آذانهما في أسرة مشهورة بالعلم والدعوة والتعليم.
ملامح من المسيرة العِلمية والمِهنية للشيخ عز الدين القسام
أمضى الشيخ عز الدين القسام طفولته في جبلة، وتعلم القراءة والكتابة والحساب في كتاتيبها، ودرَّسه والده العلوم الشرعية، وكان واحدًا من التلامذة الذين تردّدوا على زاوية الإمام الغزالي (رحمه الله)، وفيها درسَ اللغة والتفسير والحديث والفقه.
ففي جبلة، تلقى القسام جزءاً من معارفه الإسلامية واللغوية، وتضلع منها في فتوته، قبل أن ينتقل عامه الرابع عشر مع أخيه فخر الدين إلى الأزهر الشريف لدراسة العلوم الشرعية، وكانت القاهرة يومها سفينة ثقافة تمخر عباب بحر لجّي من الأزمات والمحن التي يعيشها العالم الإسلامي، وليس من أقلها الاحتلال الإنجليزي الذي غرس أظافره بعمق في وجه أرض الكنانة البهيّ. وفي الأزهر، درس القسام معارف إسلامية واسعة، وتأثر بكبار مشايخ وعلماء ذلك العصر من أمثال الشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وبالزعماء المناضلين من أمثال مصطفى كامل وسعد زغلول، وغيرهم من الأصوات النضالية التي كانت تدق بعنف فكري وسياسي عميق جدار الصمت والجهل والهزيمة. وعاد بعد سنوات يحمل الشهادة الأهلية إلى سوريا، وقد تركت التجربة المصرية في نفسه أثراً كبيراً في حياته العِلمية والعَملية.
عاد الشيخ القسام إلى جبلة فقيهاً مُتبحراً متمكناً من العلوم والمعارف التي حازها، مستخدماً إياها لتطبيقها ولإحياء المساواة بين الناس، ولتوزيع الأراضي على الفلاحين المستضعفين المُستغلين من طرف الإقطاعيين، فقد لاحظ الظلم الواقع على الفلّاح الذي ينال جزءاً يسيراً من عمله المتعب، لذا وقف في وجه الإقطاعيين داعياً إلى إعادة الحقوق للفلاحين، ومساواتهم مع غيرهم لكونهم لا يتمايزون عنهم إلا بالتقوى.
وزار القسام الأهالي، وراح يقنعهم بإرسال أولادهم لتعليمهم القراءة والكتابة، وافتتح مدرسة في جبلة عام 1912م، كما أقام حلقات المساجد، يُعلّم الناس أصول الحديث والفقه. واغتاظ الإقطاعيون من القسام وأفعاله، فبدؤوا بالتحريض عليه، وسعوا إلى التخلص منه، فتآمروا على نفيه إلى إزمير، لكنه كان يستعد لرحلته إلى عاصمة الدولة العثمانية لمتابعة علومه، لذلك استبَق مؤامرتهم برحلته إلى البلاد التركية حيث وجد الجهل منتشراً والأميّة مُتفشية، فراح يخطب في الناس لتوعيتهم بسوء أحوالهم، لكن خُطَبَه لم تلق آذاناً صاغية، فهو لا يُجيد التركية والسامعون لا يفهمون العربية التي يتكلم بها، فقرر العودة إلى جبلة، ليتابع فيها مسيرة تعليم الصغار والكبار حتى يخَلص مدينته من الجهل والاستبداد.
وفي ما بعد، هاجر إلى فلسطين عام 1920م، وهناك عمل مدرساً في مدرسة الإناث الإسلامية، وفي مدرسة البرج الإسلامية للطلاب، وهما مدرستان تتبعان الجمعية الإسلامية في حيفا بفلسطين. وكان يَرعى طلابه علمياً، ويوجههم لبناء مستقبلهم، بإرشادهم لما يوافق قدراتهم من مهنٍ وأعمال.
كما تولى الشيخ القسام الإمامة والخطابة والتدريس بمسجد الاستقلال في حيفا، والذي أصبح منارة لبث العلم والوعي في حيفا وما حولها، وكانت خطبه ودروسه تتناول كافة شؤون الدين والدنيا، وبث فيها ضرورة العلم والعمل والجهاد حتى يحافظ المسلم على إيمانه وحياته وحريته، من سطوة المحتلين الإنجليز، والمستوطنين اليهود.
الشيخ عز الدين القسام وتجربته الجهادية خارج فلسطين
بدأ الشيخ عز الدين القسام بتأسيس، وتحريك ثقافة التطوع، وجهز أول فيلق من المتطوعين الساعين إلى الجهاد في ليبيا حين كانت ترزح تحت أبشع الفظاعات التي مارسها الإيطاليون بعنف غير مسبوق ضد كتائب المقاومة، حيث جهز كتيبة من 250 متطوعاً في الساحل السوري، وقد كانت تلك الكتيبة أول نواة للكتائب شبه العسكرية التي سيواصل القسام لاحقاً تشكيلها في مراحل ومحطات متعددة. ونسق مع السلطات العثمانية لنقل المتطوعين إلى إسكندرونة ثم بالباخرة إلى ليبيا، ولكن هذه الباخرة لم تصل نتيجة تفاهمات بين العثمانيين والإيطاليين، فقفل مع المتطوعين عائداً إلى مدينته.
ومع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، تطوّع للخدمة في الجيش التركي، وأُرسل إلى معسكر جنوب دمشق، حيث كان يعمل في شعبة التجنيد في جبلة بعد عودته من مصر، كما أنه استجاب لدعوة السلطان العثماني للجهاد، وراح يستحث المقاتلين على محاربة أعداء المسلمين، حتى عاد إلى مدينته مُتفرغاً للعلم والوعظ.
وبعد دخول الفرنسيين إلى الساحل السوري عام 1918، بدأ القسام بتنظيم المعسكرات، وتطويع الشباب لقتالهم، مُعتمداً في ذلك على التعبئة المعنوية، وبثّ روح الجهاد لمقاومة المستعمر، موقِناً أن القوة الإيمانية أمضى سلاح أمام المستعمر. كما اتصل بالشيخ صالح العلي الذي كان يُحارب الفرنسيين في جبال طرطوس الساحلية، لتنسيق الجهود وتشتيت هجمات المستعمر. وحين عَلِمَ الفرنسيون بأمر القسّام وجماعته، بدؤوا بملاحقتهم، فانطلقوا إلى الجبال يحتَمون بها مُلتجئين إلى منطقة الحفّة في جبل صهيون، فكانوا يغِيرون منها على معسكرات الفرنسيين حتى آلمتهم ضربات الثوار، فأرسلوا وفداً يفاوض القسام بتعيينه قاضياً شرعياً، لكنه رفض ذلك مجيباً الوفد: "لن أقعد عن القتال حتى ألقى الله شهيداً".
فما كان من الفرنسيين إلا أن أصدروا حكماً بإعدامه، ولكن المقاومة بدأت تضعف نتيجة قلة السلاح والعتاد، كما أن الفرنسيين شدّدوا حملاتهم على مناطق القسام والثوار. وبعد ذلك تحول القسام إلى نمط آخر عندما باع منزله، وانتقل من بلدته إلى قرية الحفّة الجبلية، ليكون عوناً وسنداً لعمر البيطار في ثورة جبل صهيون (1919- 1920)، وبعد إخفاق ثورة البيطار، غادر سوريا لاجئاً إلى فلسطين التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي.
الشيخ عز الدين القسام: مرحلة الإعداد والتنظيم الجهادي في فلسطين
بعد معركة ميسَلون، ودخول الفرنسيين مدينة دمشق عام 1920م، ارتحل القسام إلى بيروت ثم إلى صيدا ثم عكا التي بقي فيها فترة يُفاضل بينها وبين حيفا مكاناً للإقامة، حتى قرر أن تكون حيفا مكان إقامته، لأنها سوق رائجة للعمل يَؤمها طلاب العمل والتُجار، وله فيها بعض المعارف والعلاقات، كما أنها مركز ثقافي حيوي. في عام 1921م، وفي يوم جمعة دخل القسام وأصحابه إلى جامع الجرينة في حيفا لصلاة المغرب، فتطوع لإلقاء موعظة، مما شدَّ اهتمام الناس الذي كانوا يتساءلون عن هذا الشيخ الذي لم يروه سابقاً، ثم ما لبثوا أن اجتمعوا حوله لما له من وقار وقدرة على الحديث والخطابة.
في البداية، عمل الشيخ عز الدين القسام معلماً وداعية ومأذوناً شرعياً، فكان ينتقل بين القرى والأرياف والمدن، وكان يزاوج بين أعمال كثيرة من التعليم والدعوة الإسلامية، ونشر الوعي السياسي، وحشد الشباب لمعركة التحرير. وقد سلك القسام في التدريس بحَيفا نفس أسلوبه الذي اعتمده في جبلة، وركز فيه على الروح الجهادية ضد الاستعمار، ورواية قصص القادة العظماء في التاريخ الإسلامي، والحديث عن الإسلام وفضائله، وعن النشاط اليهودي مُنبّهاً فيه لخطر الهجرة اليهودية، وداعياً الناس لئلا يتساهلوا معها. وكما حرّض على التمرد على الإنجليز بشراء الأسلحة، وتحويل الأموال إلى الجهاد، بدلاً من تزيين المساجد، وبناء الفنادق. وقد دعا ذات مرّة إلى تأجيل الحج، وتحويل نفقاته لشراء السلاح، فالجهاد عنده ليس قتالاً فقط، بل هو بذل للنفس والمال معاً، ويكون باللسان والقلب، وهو تربية شاملة كاملة يجب أن يتحلّى بها الفرد.
ولقد كانت خُطب القسام مُحفزة لأهل فلسطين للتوجه نحو الجهاد، فقد كان ينتقد التقاليد والخرافات في زمانه، فيظهر مُصلحاً ينتمي إلى الإصلاحيين الإسلاميين المعاصرين، مشجعاً على الالتزام بالأخلاق والقيم الروحية الإسلامية. ولم يُمَيَّزُ القسام بين الاحتلالين الفرنسي والإنجليزي، فالجهاد مبدؤه مواجهة كل المحتلّين من أجل خلاص الأمة من شرورهم.
عرف القسام بجرأته وصراحته في الدعوة إلى قتال الإنجليز، وتحريضه المستمر على تحرير الأرض منهم، والحيلولة دون إقامة الدولة اليهودية، وفي إحدى خطبه الشهيرة بمسجد الاستقلال في حيفا، رفع صوته في آذان المصلين: "إن كنتم مؤمنين فلا يقعدن أحدٌ منكم بلا سلاح وجهاد". وقد كان لتلك الخطبة وقع عاصف على الاحتلال الإنجليزي، فبادر باعتقال القسام، ثم أفرج عنه فيما بعد مرغماً تحت ضغط الجماهير الغاضبة. واستمر الشيخ القسام بالعمل على تنوير عقول الناس، وحثهم على المقاومة، وكسر شوكة العدو، وتغذية نفوس الأهالي بحب الجهاد، وتحرير أرضهم من العدو الإنجليز.
وفي عام 1926م، ترأس الشيخ عز الدين القسام جمعية الشبان المسلمين، وقد واظب الشيخ خلال وجوده في الجمعية على إعطاء محاضرة دينية مساء كل يوم جمعة، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى، ينصح ويرشد، ويعود إلى مقره. وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، وكانت الفرصة للّقاء بالقرويين، وإعدادهم للدفاع عن أراضيهم .
وفي عام 1933 كان القسام مندوباً عن جمعية الشبان المسلمين في حيفا، وعبر محاضراته، أسهم في توعية الشباب، وتخليصهم من الفساد والضياع، وقد تعززت صلته بالريف الفلسطيني، فأسهم في توعية الناس وحثّهم على الانضمام لجماعته، ليشكّل منهم بعد ذلك مجموعة من الحلقات والخلايا ذات السرية الفائقة؛ لأن عيون بريطانيا كانت موجودة في فلسطين مبثوثة فيها، لذا كانت الحيطة والحذر سمتين أساسيتين في هذا التنظيم، فلا يدخل أحد ضمن هذه الحلقة حتى يتأكد القسام منه، لذا لا توجد أرقام دقيقة عنهم، فقد قيل إنهم 200 و400 و800 أو ما يزيد على الألف، بحسب روايات متعددة.