تشكلت العصبة القسامية الجهادية كما ذكرنا في الجزء الأول، بوساطة الشيخ عز الدين القسام عام 1921، أيّ بعد وصوله إلى مدينة حيفا على الفور. وبدأ الشيخ القسام بتطوير هذه الفكرة بعد عودته من زيارة الأزهر الشريف، وبات هدف الشيخ القسّام تعزيز روح الجهاد في نفوس الشعب، وبناء القاعدة التي ستساعده على رفع مستوى تنظيمه، واختيار الأعضاء المناسبين للقيادة والعمل الجهادي.
آمن الشيخ القسام بضرورة بناء التنظيم القوي، فعمل على إنشاء خلايا سرية متخصصة، ولم يكن عدد الخلية يزيد على خمسة أشخاص، ومع توسع الخلايا تعددت مهامها من الدعوة إلى التحريض على الجهاد والتعليم والإصلاح والوعي السياسي والتكوين العسكري والاستخبارات، وكان يسيّر أعماله وتنظيمه بتؤدة وهدوء، ولم يكن مستعجلاً لإطلاق الثورة، رغم مطالبة عدد من رفاقه وأتباعه ببدء النضال الثوري المسلح عام 1929 بعد حادثة مسجد البراق. وفي عام 1932، انضم عز الدين القسام إلى فرع حزب الاستقلال في حيفا، وبدأ بجمع التبرعات من السكان لشراء الأسلحة والمعدات.
تميزت العصبة القسّامية بتنظيم دقيق، حيث كانت هناك وحدات متخصصة للدعوة إلى الجهاد، والاتصالات السياسية، والتدريب العسكري، والتجسس على الأعداء. وكان ثبات العصبة على الأسلوب المقتبس من السيرة النبوية يمنع أخذ العون المالي من زعيم أو حزب أو دولة لهم مآرب، في وقت كان هناك أطراف كثيرة تكره الإنجليز، ولذلك حصر القسّام موارد العصبة من تبرعات الأعضاء، ومن التبرعات التي يجود بها أهل الخير. ومن إقامة بعض المشروعات الزراعية، وكان للعصبة أراضٍ في أشرفية بيسان، يشرف عليها الشيخ محمد الحنفي، ويروي الشيخ الحنفي أن القسّام أخذ منه خمسمئة جنيه فلسطيني لشراء السلاح، نصفها من مورد المزروعة، ونصفها الثاني من صندوق الجمعية.
وفي عام 1931، بدأت كتائب العصبة القسامية في تنفيذ عمليات فدائية ضد المحتلين، ومنها الهجمات على المستوطنات الصهيونية، والتجمعات العسكرية التي أقاموها في أطراف حيفا، كما شمل نشاطهم إعداد كمائن للدوريات الإنجليزية. وكان الهدف الرئيسي هو التضييق على المحتل الإنجليزي، ومنع الهجرة اليهودية، ومطاردة العملاء الفلسطينيين الذين يتجسسون لصالح الإنجليز.
ومع ذلك، توقفت نشاطات المجموعة بعد فترة قصيرة، بسبب تسريب بعض أسرار التنظيم إلى الإنجليز، واستمرت هذه الحالة حتى أواخر عام 1935م.
الشيخ عز الدين القسّام ومرحلة الجهاد العلني
في نوفمبر 1935، اضطر الشيخ عز الدين القسّام لإعلان الجهاد ضد المستعمرين، على الرغم من عدم استكمال استعداداته العسكرية بشكل كامل. فهو اضطر إلى ذلك، بسبب زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين إلى درجة لا يمكن تحملها، وتوسعهم في الأراضي التي استولوا عليها، فقد وصل عدد اليهود إلى فلسطين في عام 1935 إلى نحو 62000 يهودي، وامتلك اليهود في السنة نفسها، مساحة تقدَّر بـ 73000 دونم من الأراضي الفلسطينية. وجراء تشديد السلطات الإنجليزية الرقابة على تحركاته، قرر القسّام الانتقال إلى المناطق الريفية، وبدء حركة الجهاد من هناك.
اضطر الشيخ القسّام إلى الخروج من حيفا إلى قضاء جنين، وبدأ من قرية كفردان أولى فعاليات الثورة، حيث بدأ رسله يتقاطرون إلى القرى شارحين لأهلها ضرورة الثورة وأهدافها، قبل أن يعودوا برفاقٍ من الشباب والرجال والكهول المستعدين لبذل الدماء قبل المال فداء لفلسّطين.
وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1935م، فجر الشيخ عز الدين القسام شرارة الثورة الفلسطينية الأولى، وأصبح الشيخ القسام المطلوب الأول الذي يسعى الإنجليز لتصفيته أو إلقاء القبض عليه، خوفاً من انفجار الوضع من تحت أقدامهم، ولا سيما بعد أن بدأت كتائبه تحصد الانتصارات تلو الأخرى، عبر عمليات عسكرية دقيقة لم تستطع القوات الإنجليزية، تحديد مواعيدها أو مصدرها أو المسؤولين عنها. وكان لا بدّ للقسام أن يختار موقعاً حصيناً يُحارب منه الإنجليز، لذلك جال في القرى والمناطق المحيطة يستكشف أفضلها، فاختار قرية يَعْبَد (إحدى قرى مدينة جنين الفلسطينية) لكثرة وتكاثف أشجارها وأَحراجها، وكونها ذات موقع استراتيجي يتحكم بالمناطق المحيطة.
وفي جامع الاستقلال، ألقى الشيخ القسّام خطبته الجهادية الأخيرة، يدعو الناس فيها إلى الجهاد، والخروج على الإنجليز الذين راحوا يفتشون عنه، لكن هيهات. فقد كان متأهباً حاملاً بندقيته ماضياً إلى الجبال مع العديد من رفاقه الذين لا يمكن حصر عددهم، بينما تفرق بعضهم في القرى دعاة للجهاد، واتفقوا على الالتقاء في قرية نورس.
وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1935م، اتجهت كتائب القسّام، نحو خِربة الشيخ زيد قرب يعبَد، لكنهم في الطريق أحسوا بمن يتابعهم فانقسموا فريقين: فريق إلى الشمال، وفريق إلى حيفا والناصرة. وفي الطريق يُخرب هذا الفريق الأخير سكك الحديد، ويقطع أسلاك الهاتف للإنجليز، ثم يذهبون إلى نورس عند الشيخ فرحان السعدي، ويلتقون جميعاً في الوادي الأحمر بين نابلس والغور، وكان الفريق يضم الشيخ عز الدين القسام وحسن الباير وعربي البدوي وأحمد عبد الرحمن جابر ونمر السعدي وعطية المصري وأسعد المفلح ويوسف الزيباوي. وبينما يسير الفريق الثاني نحو مكان اللقاء نفد الماء، كما أن الأحمال كانت ثقيلة من سلاح وعتاد، ولكن أحد المجاهدين أشار إلى نبع ماء قريب، فجلبوا الماء منه ليرتووا، ثم واصلوا السير حتى خربة الشيخ زيد، مع أن التحرك صار صعباً لأن الطريق أصبحت مزروعة بالجواسيس.
يروي عربي البدوي (كان حارساً في طرف حرش يعبَد): صبيحة الأربعاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1935مع طلوع الشمس، بدأ رجال البوليس يهجمون علينا على ظهور الخيل، فبدأوا بالتوزع والاستعداد للمعركة: تسعة رجال في مواجهة البوليس الذين تزايد عددهم حتى وصلوا إلى ما بين 200 و400. فلم تكن المواجهة متكافئة، فانسحب المجاهدون داخل الغابة، وتمترسوا خلف الصخور، وأصيب أحدهم، لكن رجال البوليس (ومنهم عرب) طوقوهم، وشرعوا يقتربون، فأعطى القسام أوامره بالتصويب على رجال الشرطة الإنجليز، وليس على العرب، لأن الإنجليز أوهموا رجال الشرطة العرب أن المعركة ضد قُطّاع طرق، ووضعوهم في المقدمة.
كان المجاهدون يتنقلون بين الأشجار، بينما يُحكم الإنجليز الطَّوْق عليهم، وينادون باستسلام رجال المقاومة، لكن القسام كان يجيب بأعلى صوته: لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله، ثم هتف: موتوا شهداء. فردّد الجميع خلفه بصوت واحد: الله أكبر.. الله أكبر. فنهضوا نهضة رجل واحد يطلقون النار، لكن رصاص الإنجليز كان أسبق، حتى أصيب القسامَ فاستشهد مع ثلاثة من رفاقه (رحمهم الله).
الشيخ عز الدين القسّام والمثل التربوية في مسيرته
كان النهج النبوي في التربية والإعداد الجهادي، هو الذي سار عليه الشيخ عز الدين القسّام قولاً ومنهجاً وسلوكاً، فكان يوجه المقربين منه وأتباع العصبة بـ: علنية الدعوة، وسرية التنظيم. وعلى هذا نشط في زيارة القرى، والاحتكاك بأهلها؛ يُلقي دروسه ومحاضراته في مسجدها ومضافاتها، وفروع جمعية الشبان المسلمين التي يَرأسها، وكانت كلماته تَشق طريقها إلى القلوب، فتأسرها، تُعلمهم الإسلام، وما ينبغي أن يتحلى به المسلم من عزة وكرامة وإباء، وكيف يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وعرضهم ودينهم، ضد الغزاة من اليهود والإنجليز المحتلين، وكان في الوقت نفسه، يَعرف كيف يختار أعوانه ومساعديه ممن يتوسم فيهم الإيمان وما يستتبعه من صدق وإخلاص وتضحية وجهاد في سبيل الله ينظمهم، ويفكر معهم في الطريقة المثلى للتحرك في مناطقهم بسرية وكتمان حتى استطاع أن يبث القيادات، ويوزعهم في كثير من القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، بل وصل تنظيمه هذا إلى مدينة اللاذقية في سورية، لتكون قاعدة التسليح فيها".
فكان عز الدين القسام أمةً وحده في وقته، ومؤسساً لمدرسة في التربية والإعداد والجهاد، جمع الله في شخصه مواهب كثيرة: معلماً مؤثراً، وعسكرياً مُدرباً، وسياسياً محنكاً. وكان جل أتباع القسام من العمال والفلاحين والباعة الجوالين، أزال عن أكثرهم الأمية بجهده، وثقفهم في المساجد والبيوت والمضافات، وجعلهم رجالاً أكفاء للمهام الجهادية. وربط القسام بين التعلم والعمل والإنتاج، وراعى الظروف الواقعية لتنفيذ منهجه التربوي، والتعلم ليس قراءة وكتابة فقط، وإنما شمل التوجيه والإرشاد، ومنفعة الناس.
بهذا المنهج التربوي المستمد من سيرة النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ربّى الشيخ عز الدين القسّام أتباعه الفقراء المعدمين ليكونوا قادة ومجاهدين أوفياء، وكان لسان أتباعه حسب ما قال جمال الحسيني (رئيس الحزب العربي الفلسطيني)، وإبراهيم الشنطي (رئيس تحرير جريدة الدفاع): "الإيمان نور، والتضحية لذة، فمن آمن، وعمل نجا، ومن لم يؤمن قعد وهلك…".
وكان من أشهر أقوال الشيخ عز الدين القسّام (رحمه الله): "لا تبيعوا اليهود، ولو شبراً واحداً من الأرض، ومهما أثقلوا الثمن؛ إنّ من يبيعهم أو يُقطعهم أرضاً يُقطعه الله قطعةً من نار جهنم فيها يتلظّى".
اغتيال الشيخ عز الدين القسّام، ووفاته
في 15 نوفمبر 1935م، اكتشفت القوات الإنجليزية، مكان وجود الشيخ عز الدين القسام، وحاصرته في قرية البارد، ولكنه استطاع الهرب مع خمسة عشر فرداً من أتباعه إلى قرية الشيخ زايد. وفي 20 نوفمبر من العام ذاته، لحقت القوات الإنجليزية بالقسّام، ومن معه، وطوقتهم، وقطعت الاتصال بينهم، وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنهم رفضوا، واشتبكوا مع القوات الإنجليزية، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، ارتقى خلالها الشيخ عز الدين القسام، وبعض رفاقه، وجُرح وأُسر الباقون. ووجد الإنجليز في حوزة الشيخ عز الدين القسّام مصحفاً، وبندقيةً، ومسدساً، وأربعة عشر جنيهاً، فاستشهد معتصماً بمصحفه وبندقيته، والتي كانت زاده في الدنيا، وقد كان مقتله حدثاً عظيماً في تاريخ فلسطين والشام، ودوى ذكر استشهاد القسّام في المدن والعواصم الإسلامية والعربية يومها، واعتبر يوم حزن وحداد لكل المجاهدين والأحرار في العالم.
نُقل الشيخ القسّام ورفاقه إلى مدينة جنين، واشترطت السلطات الإنجليزية أن يكون الدفن في العاشرة صباح الخميس بتاريخ 21 نوفمبر 1935، وأن تسير الجنازة من بيت القسام الواقع خارج البلدة إلى المقبرة في بلد الشيخ، فلا يمكن للجنازة أن تسير داخل مدينة حيفا، كي لا يلتف حولها جمع غفير يحوّل الجنازة إلى اشتباك مع الإنجليز، لكن ذلك لم يفلح، فقد خرج في تشييعه أعداداً كبيرة يُقال إنها وصلت إلى عدة كيلومترات.
أقوال في الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله) ورثائه
خلّدت الأقوال والشهادات سيرة الشيخ عز الدين القسّام، ومن أشهرها قصيدة شاعر الثورة اللبناني فؤاد يوسف الخطيب التي يقول:
ما كنت أحسب قبل شخصك أمة .. في بردتيه يضمها إنسان
لم يثن عزمك والكتائب شمرت .. نصلٌ يشب توقدا وسنان
ووثبت تخترق الصفوف مجاهداً .. والنقع أكدر والسماءُ دخان
آمنت باليوم الأخير فلم تخف .. ومُكذِّب اليوم الأخير جبان
يا رهط عز الدين حسبك نعمة .. في الخلد لا عَنتٌ ولا أشجان
شهداء بدر والبقيع تهللت .. فرحاً، وهش مُرحباً رضوان.
وقال فيه الشيخ سلمان التاجي الفاروقي (صاحب جريدة الجامعة الإسلامية): "وعسى الأمة العربية في فلسطين أن تخلد ذكرى هذا البطل عز الدين القسام ورفاقه الميامين بالاستكثار من التسمي بأسمائهم والتوفر على درس سيرهم".
وقال فيه الدكتور توفيق الشيشكلي في حفل تأبينه: "إن شهيدنا البار الأستاذ المجاهد عز الدين القسام أحيا بعمله عهداً مطوياً سبقه إليه السلف الصالح، وتقاعس الأخلاف عن السير على سنته، فاستعمرت بلادهم، وأصبحوا أذلاء في ديارهم، ولولا تفرق الكلمة، وكثرة الأحزاب، وتخاذل القوم وتحاسدهم، لكتب للقسّام الظفر، كما كتبت السلامة لصاحب الغار عليه الصلاة والسلام".
نتائج وفوائد من تجربة الشيخ عز الدين القسّام (رحمه الله) الجهادية
أصبح الشيخ عز الدين القسّام، علماً من أعلام الجهاد، يتردد اسمه في فلسطين وسوريا والعالم الإسلامي. وعُرف كفاحه وجهاده بـ" ثورة القسّام". ومن أهم النتائج والدروس المستفادة من مسيرته الملهمة:
أجمع كل من عاصر الشيخ عز الدين القسّام أو قرأ مسيرته الجهادية، على إمامة وريادة القسّام، فقد تفرد بمنهجه التربويّ، ومسلكه الجهادي، وهو ما بوّأه منزلة رفيعة بين أبطال أمّة الإسلام المدافعين عن أرضها وعِرضها وحريتها.
دخل الشيخ عز الدين القسّام كأيقونة خالدة في عمق قضية فلسطين، وأصبح رمزاً موحداً وملهماً لكل الأطياف والقيادات وحركات التحرر الوطني في فلسطين، وقد كان استشهاده السبب المباشر لاشتعال الثورة الفلسطينية الأولى (1936 – 1939م).
أخذ الشيخ عز الدين القسّام وضعه الطبيعي كأحد رموز حركات التحرر في العالم الإسلامي مثل الشيخ المجاهد عمر المختار في ليبيا، والأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وغيرهم من قادة النضال ضد الاحتلال. ومن حق الأجيال الجديدة أن تتعرف على هذه الشخصيات التي انتصرت لقيمة الحرية ورفض الاستبداد والاحتلال.