اتجهت الرواية في البلدان العربية، بدءًا من الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم، نحو اكتشاف عوالم جديدة، وذلك بعد أن شهدت تطورات لافتة في الأساليب والمواضيع، على خلفية سعي روائيين كثر إلى تجديد محتوى أعمالهم الروائية وتنويع لغة السرد لديهم، فراحوا ينهلون من عوالم متعددة، وكان للتصوّف والصوفية، خطابًا وفكرًا وسيرًا، حضور مميّز فيها، الأمر الذي أضفى على تجاربهم الروائية منحًى جديدًا، حمل في طياته معاني ومواضيع ودلالات صوفية في مضامينها وفي لغتها الإيحائية والرمزية، وباتت تمظهرات عوالم التصوّف وتجلياته ظاهرة بشكل جلي في روايات بعضهم، عبر توظيفهم مصطلحات ومفاهيم صوفية، والدخول في عوالم التصوّف وتجلياته الكاشفة والسحرية.
بالمقابل، انشغل نقاد الأدب، والرواية تحديدًا، بكيفية استثمار الروائيين التصوّف في رواياتهم، سواء على مستوى الخطاب أم الحضور، وكيفية تعاطيهم معه وتوظيفه في نصوصهم، وتقمّص شخصيات المتصوّفة في المتخيل الروائي، وتحويل محطات من حياتها وسيرها إلى حكايات روائية، وأضحى حضور التصوّف في الروايات العربية المعاصرة ظاهرة لافتة، حظيت باهتمام النقاد والدارسين. وفي هذا السياق، يأتي كتاب الناقد المغربي عبد اللطيف حسو "تجليات التصوّف في الرواية المغربية"، كي يقتفي حضور التصوّف وخطابه في روايات بعض الروائيين في المغرب، حيث يعد بأن يلقي مزيدًا من الضوء على الجانب المعرفي المرتبط بالتصوّف والكشف عن تواجده في الإبداع السردي الروائي.
يتجسد الكتاب في دراسة حول حضور الخطاب الصوفي في رواية "مسالك الزيتون" للروائي ميلودي شغموم، ورواية "مدارج الليلة الموعودة" للروائي مليم العروسي، ورواية "جدتك في هذا الأرخبيل" للروائي محمد السرغيني، ورواية "جارات أبي موسى" للروائي أحمد توفيق، التي تحولت إلى فيلم بنفس العنوان، أخرجه محمد عبد الرحمان التازي عام 2003، ويخلص إلى أنها تشابهت في توظفاتها للتصوف.
غير أن حضور التصوّف، بخطابه وعوالمه، لا يكشفه الزعم بأن النصوص الروائية لا تختلف عن بعضها، من حيث "إيراد بعض النصوص الصوفية مصاحبة لأسماء أصحابها"، فضلًا عن أنه لا ينحصر في الروايات الأربع التي كتبها روائيون من المغرب، بل يمتد، على سبيل المثال لا الحصر، إلى رواية مصطفى لغتيري "الأطلسي التائه"، ورواية بنسالم حميش "مجنون الحكم"، ورواية "التسلم" للروائي عبد الإله الحمدوشي، ورواية "زمن الشاوية" لروائي شعيب حليفي، ورواية "مدارج الليلة الموعودة" للروائي مليم العروسي، إلى جانب روايات أخرى لروائيين في المغرب وفي غيره من البلدان العربية، حيث لا تقف القائمة عند رواية "كتاب التجليات" لجمال الغيطاني، الذي يعتبر أبرز الروائيين العرب الذين اهتموا بالتراث الصوفي وشخصياته، ورواية "رحلة ابن فطومة" لنجيب محفوظ، التي استثمر فيها التصوّف بكل أحواله ومقاماته وظواهره، بل تمتد إلى رواية "رحلة الأشواق الطائرة" لإدوار الخراط، ورواية "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" للطاهر وطار، ورواية" شجرة العابد" لعمار علي حسن، ورواية "نقطة النور" لبهاء طاهر، ورواية "موت صغير" لمحمد حسن علوان، ورواية "إشراق العشق" لزياد حميدان، ورواية "سيرة الشيخ نور الدين" لأحمد شمس الدين الحجاجي، وغيرها.
تختلف غايات الروائي وأهدافه من الدخول في عوالم التصوّف، التي تنهض في الأساس على توجيه العناصر اللسانية في روايته، ذلك أن النص الروائي عندما يلجأ إلى توظيف الخطاب الصوفي، المميز باختلاف طبيعته وتوجهاته، فإنه يحافظ لنفسه على بنية فنية متعددة الأساليب المناخات والفضاءات، تقوم على الاغتراف من ذاكرته وعالم التصوّف، فتندمج داخل بنيات النص الروائي إلى درجة الذوبان بمادته وروحه، وتشكل معه نسيجًا متكاملًا، يضم وحدات سردية، تغني الخطاب الروائي، وتفتح آفاقًا واسعة أمام وظائفه الفنية والجمالية والفكرية، لذلك يلجأ الناقد الأدبي إلى رصد العلاقة المعقدة بين الخطاب السردي والخطاب الصوفي، والتساؤل عن مدى قدرة لغة الروائي على استيعاب التدفق اللامنتهي للعبارة الصوفية.
استسهل المؤلف النظر في تجليات التصوّف في الرواية المغربية، وانطلق من موقف مسبق، وسلبي، حياله، حين اعتبر أن المتصوفة، يدعون "حب الله، والالتزام بتعاليم الدين الإسلامي، والتشبث بنبي الإسلام"، وأنهم بعيدون "كل البعد عن الإسلام وعن الله وعن النبي"، وأن الحسين بن منصور الحلاج لم يكن، مثله مثل كبار المتصوفة، "أكثر من ساحر". والمستغرب أنه بعد أن أطلق أحكامه القيمية، دون أن يقدم أي دليل، راح يتتبع حضور مصطلحات من المعجم الصوفي في الروايات الأربع المدروسة، ليضعها في جداول لم تسهم في توضيح حضور التصوّف وتجلياته، كما لم يتلفت إلى النظر في كيفية تجسد الخطاب الصوفي في البنية النصية للرواية، إضافة إلى عدم الكشف عن ملامح التناص مع الخطاب الروائي، داخل نسيج النص، كي يستطيع الحكم على صوفية النص الروائي، المنفتح على المدهش والغريب والطريف والمخالف للعادة والمألوف. كما أنه نظر إلى التصوّف من جانبه الديني الإسلامي فقط، في حين أن التصوّف له جانب فلسفي عميق، باعتباره يمثل سموًا روحيًا يتصل به المتناهي (الصوفي) باللامتناهي (الله)، كي يشرق له ويفيض عليه العلم، حيث أن التجربة الصوفية، تعني من جهة، سلوك أو حال للإرادة الإنسانية تغدو عبره الإرادة نقطة الابتداء لإثبات الوجود، وتعني من جهة أخرى إقرار الصوفي بوجود المطلق أو اللامتناهي وإمكانية معرفته والوصول إليه بواسطة الشهود له أو الفناء فيه أو الاتحاد به. الأمر الذي يستلزم البحث في تجربة التصوّف والنظر إليها بوصفها حياة مكتملة وخلاصة مركزة تجمع بين السلوك والفكر أو الفلسفة، حيث يصبح التصوّف ممارسة عملية لحياة شعورية تنتج أفكارًا ومفاهيم فلسفية، مع أنها تجربة شخصية تنهض على المعرفة الذوقية والحب الإلهي وغايتها الوصول إلى الحقيقة لتلتقي بالفلسفة في سعيها لتحقيق ذلك.
من الصعب على المتلقي فهم اللغة الصوفية وتفسير الخطاب الصوفي بشكل عام، بالنظر إلى أن محمولاته المعرفية لا تنسجم مع طبيعة المتلقي، ولا مع ثقافة القارئ ومعرفته |
تتبع المؤلف التقطيعات أو التقسيمات المتبعة للجمل وللمقاطع الروائية في الروايات الأربع، مع أن ذلك لا يمكن أن يمدّ الناقد بوسائل تصنيف للنص الروائي، بوصفها وقائع تندمج في سياق تفاعلي مع النص الصوفي. كما أن نقد رواية التصوّف ينهض على القراءة التأويلية والمنهج التأويلي وتناول هيكلها وبنيتها، ثم ينتهي باستكشاف الدلالات والتأويلات، وذلك كي لا يقع ضحية الانطباعات والقراءة السطحية والتسبب في ليّ عنق النص الروائي. إضافة إلى أن منهج التأويل يقوم أساسًا على تناول النظام الزمني في رواية التصوّف، وتبيان صيغة السرد فيها الكاشفة لمميزات البنية الروائية، ومعرفة زمن الحكاية وزمن السرد، ودراسة العلاقة بينهما والوقوف على مقاصد السرد، وتناول تقنيات الإيقاع الروائي بما يشمله من توقفات وحوارات مشهدية، ودراسة الكيفية التي قدم بها الروائي متنه الروائي بشكل عام.
لم يبينّ المؤلف طبيعة النسق المعتمد في الروايات المدروسة، الذي سعى الروائيون إلى خلقه فيها، عبر نسخة شبيهة بالعالم الصوفي، بأبعاده ورموزه الغامضة، وذلك بالاستناد إلى ثنائية الواقعي والتخيلي التي نسجوا بواسطتها أعمالهم، وتبيان مدى افتراق عالم الصوفي البعيد عن قصدية التعبير عن النص الروائي السردي، الذي لا يمكنه الانسلاخ عن الرصيد الواقعي أو التاريخي لكتاب الرواية، وبالافتراق عن الخطاب الصوفي الذي يصبو نحو تحقيق قطيعة قصوى عن كل ما هو واقعي. لذلك فإن دراسة رواية التصوّف، أو لنقل تلك التي تنهل من عوالم التصوّف، لا يمكن أن تقوم على الطريقة التقليدية التي تتناول الرواية بوصفها وحدة متكاملة، لأن التعدد الإدراكي والمعرفي يمثل الأساس فيها، على خلفية تجسيده السياق الحكائي للرواية، كما في رواية "مسالك الزيتون" التي تستند إلى تعدد مرجعي تنهل منه الرواية، يحايث تعدد مضمونها الروائي، وإن التعدد في الأشكال السردية التي وظفها شغموم، بالاستناد إلى تعدد صيغ الروائية، هو الذي ميّز "مسالك الزيتون"، وذهب بها إلى ما يمكن تسميته بالتشتت الخلاق الذي يمنح النص الروائي لذّته، التي تحدّث عنها رولان بارت، وبما يُشعر القارئ بالمتعة ويفتح أفق عوالم التفكير لديه. وهنا يتولى الناقد تناول كيفية توظيف الروائي للخطاب الصوفي من أجل إغراء القارئ، أو بالأحرى المتلقي، وجذبه إلى التلذذ بنصه، والاستمتاع ببنيته التركيبية المدهشة، وما تتضمنه من طرق نظم لذيذة ومن مجاز وتخييل لافت، وبسائر العناصر الكامنة في تراكيب اللغة والسرد التي تجعل المتلقي يتشبث بالنص، ويحاول معرفة أبعاده الروحية الخفية، وما يثيره من استغراب والتي تتسم بها الشطحات الصوفية.
يقدّم التصوّف، فكرًا وخطابًا، مادّة غنية للروائي، وهي مادة قريبة منه وتعدّ في متناوله، كونه يشكل جزءًا من التراث العربي الذي تقوم الرواية الصوفية بنفخ الروح فيه من جديد، وتعيد نشره والكشف عن جمالياته وأسراره، فضلًا عن أنه يمثل للقارئ مادة معرفية وفكرية غنية، يقدمها الروائي في قالب نص روائي ممتع، حيث يسعى القارئ إلى فهم الرواية من خلال لغتها، فيعمد إلى فك شيفرات اللغة التي وضعت فيها، كي تحيل إلى ما هو خارج النص أكثر من إشارتها إلى ما هو بداخله. إضافة إلى أن الخطاب الصوفي الموظف في الرواية يكون عادة مثقلًا بالمعاني، وكل كلمة فيه لها دلالات خاصة بها، ولغته مكثفة المعنى، لذلك يصطدم بمشكلة التلقي، لأن اللغة تجعل عملية الفهم ممكنة، ومن الصعب عليه فهم اللغة الصوفية وتفسير الخطاب الصوفي بشكل عام، بالنظر إلى أن محمولاته المعرفية لا تنسجم مع طبيعة المتلقي، ولا مع ثقافة القارئ ومعرفته، الأمر الذي لا يحقق الكفاية المعرفية واللغوية اللازمة لتحقيق التواصل والتفاعل بين القارئ والنص، وهنا تنهض مهمة الناقد في الكشف عن الاستخدام الخاص للغة من قبل الروائي، وعن مدى تمكنه من جعل عملية التلقي ممكنة أم لا.
يبقى الأمل معقودًا على أن يتمكن نقد رواية التصوّف من سبر أغوارها وتفاصيلها، بوصفها جنسًا أدبيًا يقوم على التجريب والتطوير وينهل من التصوّف توظيفًا واستثمارًا فنيًا وجماليًا عبر مختلف مظاهر التناص والاستعارة من معجمه اللغوي. وأن يتمكن كذلك من تبيان كيفية تمثل الرواية فلسفة التصوّف في بناها التعبيرية وفي أساليب وطرق تشكيل رؤيتها الفنية والموضوعية، وألا يتعامل مع رواية التصوّف باعتبارها باتت تمثل نصًا صوفيًا في معانيه ودلالاته.