تخطي إلى المحتوى
عن "الثقة والأخلاق والعقل البشري" عن "الثقة والأخلاق والعقل البشري" > عن "الثقة والأخلاق والعقل البشري"

عن "الثقة والأخلاق والعقل البشري"

من اليسير لنا إن أجلنا النظر أن نلمح ذلك البون الواسع بين ما يفترضه العقل النقدي المتشكك بطبيعته، والذي يعد ركناً أساسياً من أركان التطور، وبين مفهوم الثقة كمكون حياتي لازم لا يمكن العيش بمعزلٍ عنه، ولا يمكننا الاستمرار في المضي قدماً في مجاهل هذه الحياة، دون أن نركن إلى قدرٍ كبيرٍ من الثقة، فنحن نشتري الدواء ونشربه، ونطيع الطبيب الذي يصفه ونثق بتشخيصه، وكذلك نثق بمحتوى السلع التي نشتريها وندفع ثمنها، ونثق بما يخبرنا به الآخرون عن أنفسهم فلا نطلب من أحدهم وثيقة تخرجه إن زعم أنه طبيب أو محامي أو مهندس، بل وننقل ذلك وكلنا ثقة بصحة ما زعمه ولا نقول إنه يزعم أنه مهندس.

وكما هو حال القديس أوغسطين قديماً حيال مسألة الزمن، حيث يخبرنا في اعترافاته: من أجل أن نتحدث عن الزمن، فإننا نجد لدينا في اللغة عدداً قليلاً من الجمل الدقيقة، ولكن لدينا جمل أكثر غير دقيقة على الإطلاق" ونحن نعرف كثيرا عنه حين لا يسألنا أحد، لكن ما أن يسأل عنه أحد، لا نعرف بماذا نجيب، كذلك فإن السؤال عن ماهية الثقة سيخلق ذات النوع من الإرباك، وكما أنَّ أي تعريف سيتعذر عليه تفسير الثقة لمن لا يعرفها أصلاً، لكن يبقى من المهم معرفة السياقات التي يستدعى فيها مفهوم الثقة للنقد أو المعالجة.

سبق لـ ديفيد هيوم "فيلسوف واقتصادي ومؤرخ أسكتلندي 1711-1776" أن ذكر في هذا المعرض: "الاعتماد المتبادل بين البشر كبير جداً، لدرجة أنه يندر أن يكون أي فعل بشري مكتملا تماما بذاته، أو منجزاً من دون الإشارة إلى أفعال الآخرين، التي تكون مطلوبة لجعله يستجيب بشكلٍ تامٍ لمقاصد الفاعل".

وفي الوقت الذي أصبح فيه الركون إلى مفهوم الثقة أمراً مستهجناً، وربما يشير إلى مدى السذاجة والغفلة عن الاحتياط اللازم، فإن مدينة صناعية مثل مدينة حلب، والتي تشتهر بصناعة النسيج يتم تداول مئات أطنان الخيوط والمنسوجات يوميا دون عقود موثقة قانونياً، إنما تأسيساً على ثقة متبادلة درجت عليها العادة منذ آلاف السنين.

وبالرغم من ندرة الكتب التي تناولت مفهوم الثقة تاريخياً، خاصةً في المباحث العربية، إلا أن هذا المفهوم لا ينثني يظهر في مطاوي القضايا القانونية والسياسية والاجتماعية والتعاملات اليومية، بأشكال شديدة الكثرة بحيث يصل الناظر إلى رأيٍ مفاده، استحالة الحياة إن نحن أسقطنا من حسباننا هذا المفهوم البسيط والخطير بآن معاً.

ويمكننا ملاحظة ثلاثة اتجاهات في محاولتنا مقاربة قضية الثقة من موقف عقلاني:

  • الأول: يجد أن الثقة رغم المظاهر تتكون من جملة اعتقادات وتصورات مسوغة، تتعارض ظاهريا فقط مع الأفكار المقبولة عن العقلانية والتعقل.
  • الثاني: يرى أن الثقة كميلٍ بشري لا يمكن لها أن تصنف بعقلانية أو غير عقلانية، بل هي تنطوي على نتائج وعواقب مفيدة "احترازية، نفسية، أخلاقية" تجعلها مقبولة ومعقولة وربما ضرورية في ذات الوقت.
  • الثالث: يجد أن الثقة ليست خارجة عن العقل البشري تماماً، بل هي تشكل جانباً مهماً منه، لكننا لفهم هذا نحتاج أن نراجع تصوراتنا عن مفهوم العقلانية أصلاً.

ويمكن القول: إن الثقة هي شيء وفق المعنى العقلاني، لا يجب أن يكون موجوداً أصلاً، لكنه بالرغم من هذا هو موجود بشكلٍ واضحٍ وكثيف، ولا مندوحة عنه، وإن هو استدعى في بعض الأحوال بعضاً من التفسير والتسويغ العقلاني، وهكذا تجري الأمور غالباً.

صحيح أن التعامل العقلاني المحض ولو نظرياً، يوحي أنه يسير وفق منظومة دقيقة من المحاكمات المنطقية، والمصفوفات الرياضية والأنماط الإجرائية، كما هي الآلة والأنظمة الإلكترونية، إلا أنها بالوقت ذاته لا يمكنها النجاة من نسبة وإن كانت ضئيلة من الارتياب الذي تكبر معه زاوية الخطأ، كلما ابتعدنا عن المركز زمنياً أو مكانياً، قانون الارتياب ذاته ينطبق على مفهوم الثقة، وإن كان بتجليات أوسع كونها (الثقة) تتسم بمساحة واسعة للحرية لا تمتلكها الأنماط العقلانية المنضبطة بالقواعد والقوانين.

ويمكننا القول في مقاربة تعريف الثقة بشكلٍ سلوكي عندما نقول نحن نثق بشخص ما، أو أن شخصاً ما جديرٌ بالثقة، فنحن نعني ضمنياً، أن احتمالية أنه سيؤدي فعلاً مفيداً أو على الأقل غير ضارٍ لنا هي احتمالية مرتفعة، بما يكفي لنا كي نفكر في الانخراط معه في شكلٍ من أشكال التعاون.

هذا المنطق يذكرنا بما يقوله الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون "1859-1941" في كتابه "منبعا الأخلاق والدين": "إن معظم العلاقات الاجتماعية الناجحة تقوم على الوهم الزاعم، أن الآخرين خيرٌ منا". وهذا تعبير متقدم وبسيط عن مدى أهمية الثقة في تأسيس واستمرار الاجتماع الإنساني.

وفي عالم اليوم ومع ذروة التقدم التقني وتلاشي المسافات، بفعل ثورة الاتصالات، التي لا تتوقف عن تسارعها الذي يخلق ظروفاً وشروطاً مختلفة كل الاختلاف عما ألفناه وألفه أسلافنا، إلّا أن الركون إلى عالم تتعزز فيه الثقة أو لنقل بعبارة أخرى، عالم من الممكن أن تجد فيه من هو جدير بالثقة، هو عالم أكثر أمانا وأكثر دفئاً، وإلا لكانت الثقة التي لا يمكن التحرك بمعزلٍ تامٍ عنها، ضرباً من ضروب إدارة المخاطر المستمرة وهذا شكل من أشكال الحياة السقيمة.

Attachments area

المصدر: 
دار الفكر