تخطي إلى المحتوى
قراءة في (كتاب الخطاب الإسلامي إلى أين؟) 2/3 قراءة في (كتاب الخطاب الإسلامي إلى أين؟) 2/3 > قراءة في (كتاب الخطاب الإسلامي إلى أين؟) 2/3

قراءة في (كتاب الخطاب الإسلامي إلى أين؟) 2/3

ليس من شك أن في هذه المجموعة حقائقَ يتفق عليها المشاركون، قد نجملها في ثلاث هي: «أن الوضع في العالم الإسلامي سيئ»، و«أن لهذا السوء أسباباً موضوعية » و«أن النهوض بدفعه واجب عاجل»؛ لكن ظلَّ ما عداها من الحقائق موضع خلاف يشتد تارة ويخف أخرى، ذلك أنَّ الرؤية التي تم، انطلاقاً منها، مقاربة هذه الحقائق تردَّدت بين حالين: حال تنزع إلى التقليد ، وأخرى تنزع إلى الإبداع ، فتكون بعض هذه الآراء نتاج رؤية مقلِّدة وبعضها نتاج رؤية مبدِعة.

والواقع أن هذين المفهومين: «التقليد» و«الإبداع» معنيان مجملان، ويحتاجان إلى تفصيل؛ فالتقليد ليس - كما استقر في الأذهان - نوعاً واحداً، لا يصدق إلا على الذي يتمسك بما سلف، وإنما هو، على الأقل، نوعان، ويصدق بذلك أيضاً على الذي يتمسك بما يعدُّ حديثاً. فحد التقليد هو أن يتبع المرء قولَ سواه - أو فعلَه - من غير أن يتمثل أدلته عليه، بَلْه أن يأتي بما يضاهيها؛ ومتى ثبت أن المتَّبِع للقول - أو الفعل - الحديث يقصر عن الإتيان بالأدلة على ما يتَّبع بما لا يقصر عنه المتبع للقول - أو الفعل - السالف، جاز أن يكون المتبِع الأول أشد تقليداً من الثاني؛ والحال أن شدة قصوره تظهر في كونه يأخذ القول - أو الفعل - عمَّن هو مفصول عن ثقافته، أمّا الآخر فيأخذهما عمّن هو موصول بثقافته. ومعلوم أن تمَثُّل الأدلة المفصولة أعسر على الذهن من تَمثُّل الأدلة الموصولة؛ وما كان بهذا الوصف أولى من غيره بأن يكون محل تقليد.

وعلى هذا، فالذي ينظر إلى وضع العالم الإسلامي قد ينظر إليه بعين المقلد للحديث كما قد ينظر إليه بعين المقلد للقديم؛ فالأول يصف هذا الوضع ويحدد أسبابه وسبل مواجهته، مستحضراً في ذهنه وضع العالم الغربي، فيقيس عليه، سواء بطريق مباشر، مُثْبتاً للوضع الإسلامي بعض ما ثبت له، ونافياً عنه بعض ما نُفي عنه؛ أو بطريق غير مباشر، نافياً عن الوضع الإسلامي بعض ما ثبت للوضع الغربي، ومُثْبتاً له بعض ما نُفي عنه؛ أما الثاني، فيصف وضع العالم الإسلامي ويُعيِّن أسبابه وسبل مواجهته، مستذكراً الوضع السالف للعالم الإسلامي، فيقيس عليه، سواء بطريق مباشر، مُثْبتاً للوضع الإسلامي الحالي بعض ما ثبت للوضع السالف، ونافياً عنه بعض ما نُفي عنه؛ أو بطريق غير مباشر، نافياً عن الوضع الحالي بعض ما ثبت للوضع السالف، ومثبتاً له بعض ما نُفي عنه.

ومَثَل الإبداع كمَثَل التقليد؛ فهو الآخَر ليس - كما ساد الاعتقاد - نوعاً واحداً، فيصدق على الذي يُحدث شيئاً بغير مثال سابق، وإنما هو، على الأقل، نوعان، يصدقان أيضاً على الذي يختار بنفسه ما أحدثه سواه بغير مثال سابق. ومتى ثبت أن الأصل في الأفعال هو الاختيار، وليس الإحداث، جاز أن يكون المبدع المحدِث أقل إبداعاً من المبدع المختار؛ وغير خاف أن كل إنسان، عرفاً كائن مختار، في حين ليس كل إنسان كائناً محدِثاً، فقد لا يستطيع أن يحدث كل ما يختار بنفسه؛ ويجوز أن يكون ما يختاره الإنسان، وقد أحدثه غيره، خيراً له مما قد يحدثه هو بنفسه؛ فقد يكون هذا المحُدث أعلم بمصالحه منه أو أقدر على تحصيلها له، فيستحق ما أحدثه الاختيارُ؛ فما الظن إذا كان هذا المحُدِث هو بديع السماوات والأرض؟ فأي شيء إذن يضاهي إبداع هذا الاختيار!

وعلى هذا، فالذي ينظر إلى وضع العالم الإسلامي قد ينظر إليه بعين المبدع المحدث؛ كما قد ينظر إليه بعين المبدع المختار؛ فالأول يصف هذا الوضع ويكشف أسبابه وطرق التصدي له، ممارساً ما يعدّه نوعاً من «التقريب التكاملي»، إذ يرى أن تغيير الوضع في العالم الإسلامي لا يكون إلا بتوسيع المفاهيم والتصورات الإسلامية المقررة، حتى تتلاءم مع المفاهيم والتصورات الحديثة، بل حتى تنضبط بها انضباطاً، فيُثبت لها كل ما ثبت نفعه المادي في هذه، وينفي عنها كل ما خالف العقل على مقتضاه الأداتي أو يتأوله بما يوافقه. أما الثاني، فيصف هذا الوضع ويقف على أسبابه وطرق التصدي له، ممارساً ما يعدّه نوعاً من «التقريب التداولي»، إذ يرى أن تغيير الوضع في العالم الإسلامي لا يكون إلا بتهذيب المفاهيم والتصورات الحديثة، حتى تتلاءم مع المفاهيم والتصورات الإسلامية، بل حتى تنضبط بها انضباطاً، فيُثبت لها كل ما ثبت نفعه الروحي في هذه، وينفي عنها كل ما خالف الوحي على مقتضاه القيمي أو يتأوله بما يوافقه.

وهكذا، يظهر أن اختلاف الآراء في المجموعة الأولى يرجع إلى كون الفاعلين الحواريين فيها يشكّلون أربعة أنموذجاتٍ مستقلة هي: «المقلِّد السلفي» و«المقلد الحداثي» و«المبدع المحدِث» و«المبدع المختار».

أما المجموعة الثانية من الأجوبة المتضادة، فتتحدد بناء على المواقف المتخذة من أحداث أيلول؛ فلقد تردَّدت هذه المواقف بين عدَّ هذه الأحداث أحداثاً فاصلة في الزمن الإسلامي، وبالأوْلى في الزمن الغربي، حتى صح عند بعضهم أن نؤرخ بها لمسار الإنسانية، فنتكلم عن عالم ما قبل 11 أيلول وعالم ما بعده، وبين عدها أحداثاً عادية في أثرها في التاريخ الإسلامي، وفي إمكان توظيفها في خدمة النظام العالمي الجديد، ولكنها غير عادية بالنظر إلى ما تكشف عنه من اختلال غير مسبوق في هذا النظام.

انطلاقاً من هذا، كان لا بد أن تختلف الرؤية إلى الخطاب الإسلامي، تعرُّفاً وتوجُّهاً، باختلاف هذه المواقف من أحداث أيلول؛ فتتمثل الحوارية غير المباشرة على مستوى هذه الرؤية في جملة من الأطروحات المتقابلة:

فهناك أطروحة تؤكد على أن الخطاب الإسلامي اضطر إلى أن يختلف عما كان عليه تحت تأثير الأسئلة الحاسمة التي فُرضت عليه والتحديات الكبيرة التي أصبح يواجهها؛ في حين أن ثمة من يعتقد أنه خطاب لم تُغيّره الأحداث وبقي على حاله في رفض النقد والمراجعة.

ونجد أيضاً رأياً يقول إنَّ الخطاب الإسلامي خطاب دفاعي يَرُدُّ عن الدين الأراجيفَ والتُّهم التي يتعرض لها، مبرزاً دعوته إلى الاعتدال والوسطية وإلى التعارف والتسالم بين الأمم؛ وهناك رأي مضاد يقول إنَّه خطاب أصولي متطرف لا يحتمل حق الاختلاف ويقبل أن توظفه القوى العظمى لصالحها.

كما أن هناك أطروحة ترى أن الخطاب الإسلامي استبدل في همومه وتوجُّهاته المسألة الاجتماعية بالمسألة السياسية، متعاطياً تأسيس بنية المجتمع المدني؛ ويضادّها القول إنَّه خطاب يُبقي على النزعة إلى التسييس والرغبة في الوصول إلى السلطة.

ونجد كذلك دعوى تقول إنَّ الخطاب الإسلامي أضحى قادراً على نقد الحداثة الغربية، منطلقاً من رؤية معرفية شاملة؛ وعلى العكس من ذلك، هناك من يقول بأنه لا يزال خطاباً وجدانياً انفعالياً لا يملك من أسباب العلم ما يجعله قادراً على مقاربة أوضاع المسلمين بما يخرجها من التردّي الذي أصابها.

وثمة أخيراً دعوى تقرر أن هذا الخطاب خطاب واحد ومُتوحّد ولو تعددت أشكاله ومظاهره؛ ويخالفها الرأي الذي يصرح بأنه خطاب متعدد، غير متوحد؛ وقد ينحصر هذا التعدد عند البعض في خطابين اثنين متعارضين (خطاب تبريري وخطاب إنكاري؛ أو خطاب تقليدي وخطاب تجدبدي؛ أو خطاب إحيائي وخطاب إصلاحي)، كما أنه قد يتعدى ذلك، عند غيرهم، إلى أكثر من خطابين (نحو خطاب تقليدي، وخطاب جهادي، وخطاب إصلاحي، أو خطابات أشبه بمراتب السُّلَّم، ينزل أقصاها الخطاب العلماني في دار الإسلام، وأدناها الخطاب الإسلامي الحركي).

كما تحتوي المجموعة نفسها الدعاوى التي تتعلق بالإسلام السياسي، متمثلاً في الحركات الإسلامية.

فثمة مَن يدعي بأن الإسلام السياسي يركز على الصلة بين الدين والسياسة، مغلّباً الجانب السياسي فيه، وغير مكترث بشمولية الإسلام، ومبتغياً الاستيلاء على زمام الحكم؛ في حين نجد من يقول إنَّ الإسلام السياسي لا ينحصر دوره في هذا الجانب، بل يجاوزه إلى كل جوانب الحياة التي من شأنها أن تنهض بتجديد الهوية الإسلامية، حتى إن مدلوله يتطابق ومعنى (الإسلام) من غير تخصيص بصفة معينة، منبّهاً على أن الغرب هو الذي استحدث هذا المصطلح، وأطلقه على الصحوة الإسلامية في السبعينيات، مبتغيا من ورائه تشويه توجُّهها والإيقاع بأهلها.

وثمة أيضاً من يدَّعي بأن الإسلام السياسي يُضادُّ الإسلام التقليدي، فهذا الأخير جمود على الجزء العقدي والشعائري من الدين، مع تجاهل مشكلات الحياة وتحديات الواقع؛ بينما نجد من يقول إنه لا تَضادَّ بينهما، ما دامت المؤسسات الدينية التقليدية تقوم هي الأخرى بدور سياسي ولو أنه غالباً ما يتمثل في تدعيم شرعية السلطة القائمة، وما دام الإسلام التقليدي ينزل منزلة المجال الحيوي الذي يتغذى منه الإسلام السياسي، مستمداً منه قاعدته النضالية وقوته العقدية والأخلاقية.

وهناك كذلك من يرى أن الحركات الإسلامية أنموذج واحد يتميز بالانغلاق على الرؤية الواحدة وادعاء الاستفراد بالحقيقة وسيطرة أسلوب الدعوة، منتقلا من فشل إلى آخر؛ في حين يرى غيره أنها تبلغ الغاية في التنوع، فالحركة الواحدة قد تَضمُّ داخلها تيارات متعددة تتدرّج أوصافها من الانغلاق والتشدد إلى الانفتاح واللين؛ فالسلفية سلفيات والإخوانية إخوانيات والصوفية صوفيات؛ بل إن هذه التيارات لا تفتأ تتكاثر؛ ولو أن هذه التيارات تختلف خصائصها ومسالكها، زيادة ونقصاناً، باختلاف البلدان التي تؤويها، إسلامية كانت أم غير إسلامية، فإنها قد توجد مجتمعةً في البلد الواحد كما هو الشأن في لبنان.

وهنالك من يدّعي بأنه لا يمكن للحركات الإسلامية أن تقبل الديمقراطية على شرطها الغربي، ولا على وجه الإطلاق، ولا على وجه الدوام؛ كيف لا وهي تمارس الاستبداد داخل صفوفها، بعيدة عن محاسبة الذات واحترام الرأي الآخر وتداول السلطة بين قياداتها! وفي المقابل، نجد من يقول إنَّ هذه الحركات لا تطالب الأنظمة بالتزام الديمقراطية في حكمها فقط، بل إنها تنهض بشرائطها في أوساطها، إيماناً منها بأن الإسلام يقر بتساوي الناس في الحقوق والواجبات كما يقر بالحريات الفردية وتعدد الأديان واختلاف الشعوب.

وأخيراً، يعتقد بعض الباحثين أن الحركات الإسلامية لا يمكن أن تسمح بوجود الأحزاب الإلحادية بين أظهرها، لأن الإلحاد فساد عقدي شأنه شأن الفساد الاجتماعي، أو لأن وجوده في المجتمع المتدين معارضةُ شريعة بأخرى؛ بينما يعتقد آخرون أن هذا الوجود يظل أمراً تقديرياً يتناسى واقع المجتمع الإسلامي؛ وحتى لو فرضنا تحقُّقَه، فإنه لا يضر هذا المجتمعَ في شيء، ولا خوف عليه منه، بل إنه يدل على مدى مرونة الإسلام وقوة براهينه وشعور أفراده بالمسؤولية.

أما مسألة العنف الذي شاب هذه الحركات، فقد رأى بعضٍ أن العنف لون واحد من الإيذاء لا يقوم به إلا معتدٍ أثيم، والإسلام ينهى عن إيقاع الأذى بالناس بغير حق؛ وعلى العكس من ذلك، يرى غيرهم أن العنف ألوان شتى أشدها إيذاء ما تمارسه الدول الكبرى وأنظمة الحكم، وأخفها ما اضْطُرَّت إليه بعض الجماعات الإسلامية، ردّاً على سوء العنف الذي تسومها إياه هذه الدول المهيمنة والأنظمة المفسدة، غير أنها أبانت أحياناً عن جهل أو تجاهل بشرائط استخدام القوة وضوابط الجهاد التي أقرها الإسلام.

هذه هي حصيلة قضايا الحوارية غير المباشرة التي تنطوي عليها المجموعة الثانية من الأجوبة؛ فلنقف الآن على بعض الأسباب التي يبدو أنها أفضت إلى اختلاف الآراء على مستوى هذه المجموعة.

صحيح أن في هذه المجموعة أيضاً حقائقَ أخرى يتفق عليها المشاركون، وهي على وجه العموم: «أن الخطاب الإسلامي يختص بصفات محددة»، و«أن هذا الخطاب يعبّر عن توجهات الحركات الإسلامية في مساعيها إلى التصدي لمشكلات الأمة» و«أن هذه الحركات تمرُّ بظروف سياسية يطبعها العنف»؛ لكنهم اختلفوا في ما سواها من الحقائق، وذلك لأنهم ركَّزوا عند نظرهم في الخطاب الإسلامي على مضامينه وتقريراته، لا على بُناه وآلياته ؛ وعندئذ، لا عجب أن يُثبتوا له صفات يضرب بعضها بعضاً، فاحتمالات الاختلاف أكبر في المضامين منها في الآليات، مادامت المضامين المختلفة قد تتوسل بالآلية الواحدة.

الواقع أن مفهوم (الخطاب) يدل على أمر زائد على ما يدل عليه مفهوم (القول)، إذ لا يعني مجرد النطق بألفاظ معينة، وإنما يعني «توجيه هذه الألفاظ إلى الآخر، بوصفه قادراً على أن يفهمها، ويتحمل مسؤولية ما فهم منها» ؛ لهذا، فإن كيفية توصيل هذه الألفاظ إلى الآخرين - أو قل بالاصطلاح «تبليغها» - تتطلب من المتكلم عناية تساوي، بل تجاوز عنايته بالأحكام التي تتضمنها هذه الألفاظ، واختلال هذه الكيفية يلزم منه اختلال الأحكام، في حين قد يختل الحكم المُبلَّغ، ولا تختل كيفية تبليغه.

هاهنا يجب الوقوف عند نوعين أساسيين من الخطاب الديني يختلفان باختلاف المقام، إذ لكل واحد منهما طريقه الخاص في التوجه إلى الآخر: أحدهما، «الخطاب الديني الذي يسلك طريق الوعظ والاستشهاد بالنص»؛ والثاني، «الخطاب الديني الذي يسلك طريق النقد والاستدلال بالعقل»؛ كما يجب الحكم على الخطاب الإسلامي بمدى وفائه بمقتضيات المقام الذي يتحدد بنوعية الآخَر؛ فهناك الآخر الذي يفهم الخطاب النقدي أو الاستدلالي، ولا يتحمل إلا مسؤولية هذا الفهم العقلي، وهو على نوعين: الآخر الذي يشارك المتكلم الثقافة ولا يشاركه العقيدة، والآخر الذي لا يشاركه العقيدة ولا الثقافة؛ وهناك الآخَر الذي يفهم الخطاب الوعظي - أو الاستشهادي - ويتحمل مسؤولية هذا الفهم النصي؛ وهو على نوعين: الآخر الذي يشارك المتكلم الثقافة والعقيدة ويشاركه العمل بالعقيدة؛ والآخر الذي يشاركه الثقافة والعقيدة ولا يشاركه العمل بالعقيدة.

وبناء على هذا التقسيم للآخَرين، يتبين أن الخطاب الوعظي أخص والخطاب النقدي أعم، إذ يزيد عليه قيدَ العمل؛ وفي هذا دليل قاطع على أن الخطاب الأول، خلافا للرأي الشائع، أعلى رتبة من الثاني، فلا يخاطَب الآخَر وعظاً أو استشهاداً، حتى يخاطَب نقداً أو استدلالاً، مع العلم بأن الإنسان لا ينفك يمارس الاستدلال في عامة شؤون الحياة؛ فمن يتحمل مسؤولية فهم الخطاب الاستشهادي أجدَرُ به أن يتحمل مسؤولية فهم الخطاب الاستدلالي.

وبهذا، تبطل الحجة التي روَّج لها «الحداثويون» كثيراً، بل اتخذوها رهانهم الرابح في حربهم على رجال الدين وهو أن الخطاب الاستشهادي يلتجئ إلى سلطة النص، وكل التجاء إلى هذه السلطة هو تبعية للغير وخروج عن مقتضى العقل؛ فقد اتضح أن مرتبة الاستشهاد تعلو على مرتبة الاستدلال، لظهور خصوصه وعموم الاستدلال، فيكون عقلياً مثلَه، بل إن عقلانيته أعلى، إذ ليس أساسها القاعدة المقررة في عقلانية الاستدلال النقدي، وهي: «إنكار القول حتى يقوم الدليل على صحته»، وإنما أساسها قاعدة أخرى، وهي: «اعتقاد القول حتى يقوم الدليل على بطلانه» ؛ وما ذاك إلا لأن مجال هذه العقلانية الاعتقادية هو عالم القيم، فلو أنها مورست على الوقائع، لأنزلت القانون الطبيعي منزلة الأمر التشريعي، متعاملة مع الأدنى بما ينبغي أن يُعامل به الأعلى؛ في حين أن العقلانية الإنكارية مجالها عالم الوقائع، فلو أنها مورست على القيم، لأنزلت الأمر التشريعي منزلة القانون الطبيعي، متعاملةً مع الأعلى بما ينبغي أن يُعامل به الأدنى.

أضف إلى ذلك، أن الالتجاء إلى النص - أو بالاصطلاح «الاستدلال بالنص» - ولو كان نصاً غير وعظي- لا يمكن الاستغناء عنه، وذلك لسببين على الأقل، أحدهما: وجود التفاوت في القدرات والمعارف والمواهب والتجارب بين الناس؛ والثاني: ثبوت الاستحالة العملية على أن يستدل الإنسان بنفسه على كل شيء.

لذا، فلا بد للمرء أن يرجع إلى غيره في أمور شتى، مسلِّماً باستدلالاته، متخذاً منها نصوصاً، ومتخذاً من صاحبها حجة، حتى إنه يصح القول إنَّ الإنسان لا بد له من التقليد حتى كأنه أمر داخل في بنيته الخَلقية؛ فكثير من علم المرء، فضلاً عن عمله، لا يُعوِّل فيه على نفسه وإنما يعوِّل فيه على الآخرين؛ فقد يكون الآخَر أعلم بمصالحه منه أو أقدر على تحصيلها منه، فيكون أوْلى له أن يعتمد استدلالاته ويعتقد نصوصه؛ فإذا كان حاله مع من هو أعلم أو أقدر منه من البشر كذلك، فكيف حاله مع العليم القدير الذي لا يحيط بشيء من علمه ولا بقدرته أحد؛ فأنى لاعتقاد أن يساوي في عقلانيته اعتقاد ما أنزَل على خلقه!

وعلى هذا الأساس، يكون الأصل في الأقوال هو الاعتقاد، وليس - كما شاع وذاع - الانتقاد؛ فكل إنسان كائن معتقد، في حين ليس كل إنسان كائناً منتقداً؛ فحتى لو فرضنا جدلاً أنه يقدر على انتقاد كل ما يعتقده سواه، فلا يقدر أن ينتقد ما يعتقده هو بنفسه وفيه ما لا يحيط بعقلانيته انتقادُ منتقد.

ونحن إذا تأملنا الخطاب الإسلاميَّ وجدنا أنه يقع في ما يمكن أن نسميه بـ«أخطاء المقام»؛ فقد استعمل أصحابُه الخطاب الاستشهادي حيث يجب استعمال الخطاب الاستدلالي، فخاطبوا أهل العقائد الأخرى والثقافات الأخرى بما ينبغي أن يخاطبوا به أهل عقيدتهم أو أهل ثقافتهم، فنُسِبوا إلى الانغلاق والتطرف، أو خاطبوا أهل ثقافتهم بما ينبغي أن يخاطبوا به أهل عقيدتهم أو خاطبوا أهل العقيدة المجرَّدة بما ينبغي أن يخاطبوا بها أهل العمل الحي، فنُسبوا إلى التشدد والتزمت؛ والغالب أن هذا الإخلال بالمقام من جانبهم لا يكون مقصوداً، ولا مرغوباً فيه، وإنما يؤدي إليه إما جهل بظروف الآخر كإنزاله رتبة غير رتبته أو إنزال الجميع منزلة الواحد أو جهلٌ بآليات الخطاب كالخلط بين مقتضياتها أو العجز عن ممارسة بعضها.

المصدر: 
الخطاب الإسلامي إلى أين؟