تخطي إلى المحتوى
"قيثارة السماء"... الشيخ محمد رفعت صوت رمضان المصري "قيثارة السماء"... الشيخ محمد رفعت صوت رمضان المصري > "قيثارة السماء"... الشيخ محمد رفعت صوت رمضان المصري

"قيثارة السماء"... الشيخ محمد رفعت صوت رمضان المصري

مع اقتراب موعد أذان المغرب في رمضان، خاصة في الريف والأحياء الشعبية، يبادر الأهالي إلى أجهزة الراديو الصغيرة والبحث بين محطاتها عن صوت فريد لا يرضون له بديلاً، كي يستمعوا منه إلى تلاوة آيات قليلة من القرآن الكريم قبل أن يتابعوا الأذان الذي يرفعه الصوت نفسه، كأن صومهم لن تقبله السماء إلا مع صوت القارئ الشيخ محمد رفعت.

البداية من "درب الجماميز"

في حي المغربلين بالقاهرة، كانت البداية، وتحديداً يوم 9 أيار/مايو عام 1881، عندما استقبل ضابط البوليس (بحسب معظم المراجع) محمود رفعت، مولوداً صحيح الجسد والنظر دعاه محمداً، حسبما كتب فؤاد مرسي في مؤلفه "معجم رمضان".

لكن حفيدة الشيخ السيدة هناء حسين تقول إن جدها الأكبر، والد الشيخ، كان يعمل في التجارة ولم يكن ضابطاً، حسبما ينقل عنها سامي كمال الدين في كتابه "رسائل المشاهير".

كان قدر الطفل الصغير أن يصاب بمرض كف معه بصره وهو في الخامسة من عمره، أو الثالثة بحسب بعض المصادر، وكعادة الكثير من المصريين في ذلك الزمن، اتجه به أبوه نحو "نور الله"، وألحقه بكُتَّاب مسجد فاضل باشا بـ"درب الجماميز"، فأتم حفظ القرآن وتجويده قبل بلوغه العاشرة.

أدركت الوفاة والد الصغير، فوجد الابن نفسه عائلاً لأسرته، ولجأ إلى القرآن الكريم يعتصم به، ولا يرتزق منه، وأصبح يرتله في المآتم ليوفر لقمة العيش لذويه، حتى عيّن، وهو في الخامسة عشرة، قارئاً للسور بمسجد فاضل باشا، فذاع صيته، وكانت ساحة المسجد والطرق تضيق بالمصلين ليستمعوا إلى صوته الملائكي.

ظل رفعت يقرأ القرآن ويرتله في هذا المسجد قرابة الثلاثين عاماً. ولم يكتف بموهبته الصوتية الفذة ومشاعره المرهفة في القراءة، بل راح يدرس علم القراءات وبعض التفاسير، واهتم بشراء الكتب ودراسة الموسيقى الرفيعة والمقامات الموسيقية.

عقب هذه الشهرة، عرضت عليه إحدى الإذاعات الأهلية التي سيطرت على الاجواء المصرية قبل انطلاق الإذاعة الرسمية عام 1943، أن يسجل الأغاني المأخوذة عن الشعر القديم، ووافق، فغنى "أراك عصي الدمع"، "وحقك أنت المنى والطلب"، و"سلوا قلبي". لكنه اشترط عدم إذاعة اسمه أو الإفصاح عنه، لكن المطرب محمد عبدالوهاب تعرف على صوته، وفقاً لكتاب مرسي.

لدى قرب افتتاح الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، عُرض عليه أن تفتتح بصوته، وهنا ثار الشيخ رفعت وغضب قائلاً: "إن كلام الله وقار نزل من السماء لا يليق بمقامه أن تذاع إلى جانبه الأغاني الخليعة التي تقدمها الإذاعة".

ألحت الإذاعة عليه، فلجأ إلى الشيخ السمالوطي، أحد أعضاء هيئة كبار العلماء، يعرض عليه الأمر، وبرر رفضه بقوله: "سأقرأ القرآن والناس يستمعون إليه في المقاهي والحانات وصالات القمار"، فقال له الأخير: "أنت ستتلو القرآن في مكان طاهر... أليس كذلك"، فقال له: "نعم، فقال له: لا تخش شيئاً"، وأخيراً اقتنع.

وعندما افتُتحت الإذاعة المصرية في 31 أيار/مايو 1934، كان الشيخ أول من افتتحها بصوته العذب، وقرأ: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) كما ذكر محمد عبد العزيز في كتابه " سفراء القرآن الكريم". وقد جاء الصوت ندياً خاشعاً يروي آذاناً وقلوباً عطشى إلى سماع آيات القرآن، كأنها تقرأ لأول مرة. مع الوقت لمع اسمه وعشق الملايين صوته، وأصبح أول مقرئ يدخل الإذاعة ويتلو القرآن على الهواء مباشرة، بحسب عمر طاهر في مؤلفه "صنايعية مصر".

صوت رمضان

ولكن، لماذا ارتبط الشيخ محمد رفعت بشهر رمضان؟ سؤال أجابت عنه حفيدته السيدة هناء حسين في حوار سابق مع جريدة الأهرام المصرية، مشيرة إلى أنه مع الشهرة التي حصل عليها حدثت له مضايقات، ثم أصدر الملك فاروق قراراً يلزمه قراءة القرآن وترتيله في الإذاعة ثلاث مرات في الأسبوع بدلاً من اثنتين.

وظن الملك أنه ينكل به عندما أصدر قراراً لاحقاً يلزم القارئ الذي حاز وقتذاك لقب "قيثارة السماء" أن يؤذن لصلاة المغرب يومياً في رمضان، وكان الترتيل والأذان يبثّان مباشرة من دون تسجيل، ما حرم الشيخ صحبة أسرته طوال شهر رمضان. لكن من أراد التنكيل برفعت، خلّده ومنحه عِزّة استثنائية من حيث لا يدري، إذ صار صوته مقروناً بشهر رمضان المعظم عند المصريين.

بعيداً عن شهر رمضان، أصبحت السابعة صباح كل يوم في القاهرة، مميزة بصوت الشيخ، وهو يتلو آيات الذكر الحكيم عبر إذاعة القرآن الكريم، واعتاد ذلك الموظفون وطلاب المدارس الذي يستقلون السيارات بصحبة صوته في الصباح الباكر.

جمع التسجيلات

ظل الشيخ يقرأ للإذاعة من دون أن تسجل له، لذا حين مرض لم يجدوا شيئاً يقدمونه إليه، لكن كان هناك أحد الباشوات، يدعى زكريا مهران، كلما استمع لصوته سجله من دون أن يعرف، لأن الشيخ كان يرفض ذلك. تعب أولاده محمد، وأحمد، وحسين في جمع التسجيلات، لأن مهران باشا نقلها إلى موطنه الأصلي بمحافظة أسيوط. وحين ذهبوا إليه قال لهم: "هذا ما أملكه من تسجيلات"، وقد بلغ عددها 278 أسطوانة تضم 19 سورة مدتها 21 ساعة.

"مقرئ الشعب"، كما أطلقوا عليه، تلقى عروضاً كثيرة وتنافست عليه إذاعات كبرى لكنه رفض. عُرض عليه عام 1935 أن يذهب للهند مقابل 15 ألف جنيه مصري، فاعتذر، ورُفع المبلغ إلى 45 ألف، فأصر على الاعتذار، وصاح غاضباً: "أنا لا أبحث عن المال أبداً، فإن الدنيا كلها عرض زائل". وكان دائماً يردد: "إن سادن القرآن لا يمكن أبداً أن يهان أو يدان"، وفقا لأيمن الحكيم في كتابه "مزامير القرآن".

نهاية مؤلمة لعاشق القرآن

عام 1943، هاجمه المرض، وأصيب بالفواق "الزغطة" وبعدة أمراض جعلته يلزم الفراش. وتعرض في السنوات الثماني الأخيرة من عمره لورم في الأحبال الصوتية، فحُرم الناس من صوته. ثم أصيب بضغط الدم، والتهاب رئوي حاد. وفي 9 أيار/مايو 1950، توفي في اليوم ذاته الذي ولد فيه، عن 68 عاماً.

ونعته الإذاعة المصرية عند وفاته إلى المستمعين بقولها: "أيها المسلمون، فقدنا اليوم علماً من أعلام الإسلام". وفي الإذاعة السورية قالوا: "لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام".

المصدر: 
 رصيف 22