بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم؛ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد أيها الإخوة!!
إننا أمام محور ينبغي منهجياً أن لا ننساه، مهما شتَّ بنا الحديث، ومهما تفرع الكلام.. المحور الذي ينبغي أن لا يُنسى، هو الغاية التي أكرم الله U من أجلها هذه الخليقة بهذا الدين. ولا أعلم أن هنالك حكمة تتجلى في تشريف الله U عباده في هذه الدنيا؛ أجلَّ وأقدس وأسمى من أن يحيلهم هذا الدين إلى أسرة إنسانية واحدة متآلفة..
هذا هو محور الدين عقيدة، وهو محور هذا الدين الإسلامي سلوكاً وشرعة، ومحور هذا الدين أيضاً خلقاً وقيماً، والمنهج يقتضينا- كلما أردنا أن نخوض غمار الحقائق الإسلامية - أن نتذكر الجسر الذي يصلنا إلى هذا المحور، وذلك حتى لا ينقطع مما بيننا وبين المحور هذا الجسر؛ في غمرة حديث، في غمرة نقاش، في غمرة تساؤل، في غمرة اجتهادات. وطالما كان الخط الدائــــــــــــــــــري مرتبطاً بالمحور الداخلي، فإن الدائرة مهما اتسعت، أو مهما ضاقت؛ دائرة مفيدة، بل هي حصن حصين؛ ذلك لأن هذا المحور يجذبها من كل الأنحاء، بل يجذب كل جزيئة من الجزيئات التي تتكون منها هذه الدائرة.
الهدف الأقدس من هذا الدين هو وحدة الأمة. إذن ينبغي أن لا ننسى هذا الهدف الأقدس، ثم إننا نغذي هذا الهدف بكل ما ابتعث الله U به رسله وأنبياءه؛ بدءاً بالعقيدة، إلى التشريع، إلى المبادئ والأخلاق والقيم، إلى الاعتبار بالتاريخ.
التاريخ أنا أعده دائماً عقل الدهر. التاريخ هو العقل الــــواعي للدهر، فإذا تصورنا التاريخ رجلاً من الناس، فإنما عقله هو التاريخ. والذي لا يعي التاريخ الماضي، ولا يتوقف عند معانيه، ولا يتدبر عبره؛ لا يمكن أن تحيا كوامن العقيدة في كيانه، ليجعل من هذه العقيدة طاقة عملية. والذي لا يعتبر بالتاريخ، لا يستطيع أن يمد نبضات الحياة في التشريع الإلهي العظيم.
إذن فنحن ندرس التاريخ، ونقف أمام عبره الإيجابية والسلبية، ونتفاعل مع هذه العبر من أجل هذه الغاية التي أحدثكم عنها. والخطأ كل الخطأ، بل الخطل كل الخطل؛ أن ننسى المحور، وأن نتسلى برسم الدائرة التي حول المحور. إننا إن فعلنا ذلك لن نستطيع أن نرسم دائرة حقيقية أبداً، وستتعرج بنا الخطوط، ولسوف يزجنا القلم الذي نستعين به في المتاهات. فقد علم المهندسون بأن الذي يريد أن يرسم دائرة؛ عليه أن يضبط يده، أو إصبعه الأُولى بالمحور، ومن ثم بعد ذلك يحرك الإصبع الثاني لرسم الدائرة، ولكننا في كثير من الأحيان ننسى أن نضبط إصبعنا في نقطة الوسط، ومن ثم يخيل إلينا أننا نضع الدائرة التي توحد، ولكننا بعيدون عن ذلك.
ولعل هذا هو السر في أننا ننشد الوحدة الإسلامية، ولا نجد حتى الخيال المقرب لها إلى الواقع. ننشد ألواناً من الاتحاد، ولكن يخيل إلينا أننا بمقدار ما ننشد هذا الاتحاد، نبتعد عنه. ذلك لأننا نسينا المحور، نسينا الغاية التي ابتُعث الرسل والأنبياء لأجلها، ألا وهي أن تصبح هذه الإنسانية المتشرذمة أسرة واحدة كما هي في الواقع، وكما شاء الله U لها أن تستمر.
وبعد فإن أهمية عاشوراء أهمية تاريخية لا تنسى. ولكن دعوني أتساءل معكم أيها الإخوة؛ من أي نقطة تبدأ الأهمية التاريخية لعاشوراء؟! الذي أعلمه أن نقطة البدء تبدأ من أيام رسول الله e وقد ورد في الصحيح أنه عندما هاجر إلى المدينة المنورة سمع أن اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسأل لِـمَ ذلك؟ قالوا إنه اليوم الذي أنجى الله فيه سيدنا موسى من فرعون، فقال نحن أحق بموسى منهم، وأمر رسول الله e منادياً أن ينادي في سكك المدينة: ألا من كان مفطراً فليمسك بقية يومه، ومن كان صائماً فليتم صومه. وكان يوم عاشوراء منذ ذلك اليوم فريضة. حتى إذا شرع الله U صيام رمضان، حلّ صوم رمضان محل صوم عاشوراء، وعاد صوم يوم عاشوراء سُنة متبعة.
ثم إن هذه الأهمية التي تبدأ جذورها من هذه النقطة؛ ترسخت وازدادت خطورة وأهمية، عندما شاء الله U أن يقع ذلك الحدث الخطير، عندما شاء الله أن يكون مقتل الحسين t في ذلك اليوم، على يد يزيد بن معاوية، أو على يد زبانية يزيد بن معاوية، وأنا لا أنكر أن هذه الأهمية التاريخية؛ إنْ بَدءاً من جذورها، وإنْ استمراراً من منطلقاتها ومعالمها التي ظهرت فيما بعد، أمر ينبغي أن لا نتناساه، وأن لا ننساه.
ولكن دعوني أسأل، كل أمر إذا أردنا أن نحتفي به يجب - وهذه نقطة منهجية خطيرة - أن نتساءل: أنحن نحتفي به وسيلة إلى غاية، أم نحتفي به غاية بحد ذاتها؟! وينبغي أن نطرح هذا السؤال نفسه على احتفالنا بهذا اليوم؛ بمعانيه الكثيرة، وبإيحاءاته الخطيرة. والجواب أن هذا الاحتفال إنما هو وسيلة وليس غاية بحد ذاتها، وإذا علمنا أنها وسيلة إلى غاية، فبوسعنا أن نتصور الأمر على نطاق أوسع؛ إذا أردنا أن نتلمس جراح أفئدتنا، فإن الأمر كما قال البوصيري كل يوم في حياتنا كربلا ء وعاشوراء:
كُلُّ يَوْمٍ وَكُلُّ أَرْضٍ لِكَرْبِي مِنْهُمُ كَرْبَلاَ وَعَاشُورَاءُ
في شهر ربيع توفي الحسن t. كلكم يعلم أن سماً ناقعاً دُسَّ له في طعامه، ولعل الذي فعلت ذلك زوجه؛ هو يوم من أيام النكبات..
في شهر رمضان توفي سيدنا علي كرم الله وجهه، ومهما أعدت وكررت تصور هذه الحادثة وهذه المأساة، عاد القلب يتنزى ألماً، بل ربما دماً، وهو يوم آخر من أيام كربلاء وأيام عاشوراء..
في شهر ربيع توفي سيدنا رسول الله e وقد قال العلماء: إذا أردت أن تقف أمام عزاءٍ وسلوى في أي نكبة من النكبات التي لحقتك، فاذكر مصيبة الكون بوفاة رسول الله e.
وإذا أردنا أن نسير في تذكر جراحاتنا ومعالم هذه الجراحات التاريخية؛ رأينا فعلاً أنه ما من يوم من أيام السنة إلا وهو معلمة لجراح، إلا وهو معلمة لألم؛ فماذا عسى أن نصنع؟ أنلطخ أيام عمرنا بالسواد، أم نجللها بالحداد؟! أندع جراح أفئدتنا يتنزى لهباً ودماً؟! وإذن فإننا عندئذ سنستعيض عن البناء بالركون إلى الآلام، والركونُ إلى الآلام شيء يُشفي الغليل حقاً، ولكنه لا يبني خراباً، ولا يقدم أمة متخلفة، ولا يحقق غاية.
وسنة الله في الكون معروفة ومعلومة، وقد كنت منذ حين قريب أتلمس آثار هذه الجراح في الرعيل الأول؛ الذين كانوا قدوة لنا في عصر التابعين، وعصر من بعدهم؛ كانت النكبات أكثر حِدة، وكانت تلك الدماء أكثر حرارة. تُرى ما هو وقع هذه الآلام على حياتهم؟! تلمست هذا في حياة سيدنا محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق، والأسرة النبوية كلها.. نكبات وقعت، وآلام لا تنكر، ولكن أسال: هل ألهاهم ذلك عن مواصلة البناء؟! هل أنساهم ذلك الواجبَ المحوري الذي يتمثل بالهدف الأقدس الذي جاء من أجله الإسلام؟! أجل كانت القلوب مفعمة بالألم، ولكن الأيدي كانت تمتد لتتواصل، والقلوب على الرغم من نكباتها كانت تتلاقى لتتضافر.
كانت الجهود الإيجابية هي العزاءَ الأول لهذه النكبات، ثم كان كل ذلك يتوج بمعرفة حقيقية علمية، بأن سنة الله في الكون ماضية، ولن تجد لسنة الله سبحانه تعالى تبديلاً، ومحكمة الله سبحانه وتعالى ستنصب غداً، وكل إنسان شعر بسحب الظلم الداكنة في أمسه الدابر أو يومه الحاضر أو توقع شيئاً من ذلك في مستقبله الآتي، فإن العزاء الأوحد الذي يبرد لظى الفؤاد أمام هذه التصورات؛ أننا مقبلون على يوم تنصب فيه محكمة الله سبحانه وتعالى، تنصب فيه محكمة الديان. نعم (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر:40/17].
أنا أيها الإخوة في بعض الأحيان، أكاد أجد نفسي منشطراً إلى شخصيتين؛ عندما أعود فأقرأ التاريخ بتفاصيله؛ أقرأ أحداث هذه النكبة بشيء من التصديق؛ أجدني غير قادر أن أستمر، أجد قلبي يعتصره الألم، وأصدُقُكم أنني لا أستطيع أن أسترسل. لكني في الوقت ذاته أتساءل: ما الذي ينبغي أن أصنع؟! ما الذي ينبغي أن أفعل؟! إنها مؤامرة، إنها مكيدة، وسلسلة المكائد قديمة جديدة، وإنها لشنشنة أعرفها من أخزم كما قال المثل العربي. لكن ما السبيل إلى خنق هذه المكائد؟ السبيل أن أشمر عن ساعد الجد، وأقوم فأعمل وأمد يدي لإخواني من حولي جميعاً، وأقول لهم: ألا فانهضوا بنا لنفجر القلوب المتآمرة بالعمل، ولنريهم أن شجرة الإسلام مهما احترق منها غصن مقدس هنا أو غصن مقدس هناك، فإنها شجرة ستظل يانعة، ولسوف تتفجر بالخضرة، ولسوف تستمر هذه الخضرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها.
الشخصية الثانية التي أشعر بها في كياني عندما أقرأ هذه الأحداث؛ تدفعني بعقلانية، بل بمعنى من المعاني الوجدانية أيضاً، أن نتجاوز الأمر، وأن نعلم أننا أبناءُ يومنا، وأن عدونا الماكر سيتربص بنا اليوم من جديد، وسيستغل بكاءنا ويستغل صراخنا، ولسوف يبعث من ذلك جذوة من جذوات التشتيت والتفريق والتشرذم، ومن ثم يظل عبثه مستمراً، ونظل لقيمات سائغة في أفواه هؤلاء الأعداء.
إذن ينبغي أن نسعى إلى جمع الشمل وإلى رأب الصدع، إن كان هناك صدع. وينبغي أن نعلم أيها الإخوة أن الإسلام الذي اعتنقه رعيلنا الأول السابق بالأمس؛ لا يمكن أن يكون إسلاماً آخر غير الذي نعتنقه اليوم. إسلامُ الأمس هو إسلامُ اليوم.
أفيمكن أن يكون هذا الإسلام الواحد موحداً لفئات متعادية متخاصمة متشرذمة بالأمس، ثم يكون هذا الإسلام ذاته مفرقاً لأمة واحدة اليوم، الإسلام الواحد الذي ابتعث الله به محمداً e بل الذي ابتعث الله به الرسل والأنبياء جميعاً، والدين عند الله هو الإسلام كما تعرفون؛ ذلك الإسلام وهذا الإسلام واحد، إذن لماذا نجد أن أمتنا قد تحولت إلى أمم؟ لماذا نجد أن إسلامنا قد غدا مظلة تتعادى تحتها فئات شتى، وتتخاصم وتتهارج.
لماذا أيها الإخوة؟ والله الذي لا إله إلا هو إن الذي يقض مضجعي إذا أمسيت، وإن الذي يؤرق فكري إذا أصبحتُ من حال المسلمين هو هذا الواقع. وما أكثر ما جلست أفكر وأتأمل؛ من أي نقطة نبدأ لنوحد قلوبنا؟! لا أقول صفوفنا.. ما أيسر أن نوحد صفوفنا، وكلنا يجامل بعضنا الآخر، بل من أي نقطة نبدأ؟! من أجل أن نوحد قلوبنا، حتى لا يستطيع عدو أن يخترق هذا القلب الواحد، وحتى لا يستطيع ظربان أن يتسرب إلينا، ولا أريد أن أحدثكم عن المثل العربي؛ عن الظَّربان(1)..
نعم، من أي نقطة أبدأ؟ أنا أبدأ من نقطة واحدة؛ أننا جميعاً عبيد لله U، إذن ينبغي أن نضع عبوديتنا لله U موضع التنفيذ.. إذن ينبغي أن تصطبغ أفئدتنا بهذه العبودية، هذه هي النقطة القدسية الأولى، فإذا اصطبغت قلوبنا ومشاعرنا بهذه العبودية الحقيقية لله، تساقطت عندئذ من أفئدتنا وقلوبنا بقايا العصبية، بقايا الأهواء ومشاعر الأنانية.. معاذ الله، لا والله، لا يمكن أن تلتقي مشاعر العبودية الصافية عن الشوائب، مع أي رواسب من رواسب العصبية، أو الأنانية، أو الكبر أو المصالح الشخصية، وما أدرانا لعل الله U جعل القاعدة الصلبة في إصلاح المجتمع الإسلامي؛ أن يصطبغ الإنسان بمشاعر العبودية حتى لا تقطع الإنسان في سبيله بقايا كبر، بقايا عصبيات، بقايا أهواء؛ تلك هي التي تجعل الأسرة الواحدة أسراً شتى، وتلك هي التي تجعل الإخوة فئات متهارجة متقاتلة، فهل رسمنا حقيقة العبودية نصب أعيننا ثم جعلناها صبغة لقلوبنا، هل قلنا بملء مشاعرنا؛ ( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام:6/162]؟!
أعتقد أننا إن انطلقنا فعلاً من هذه النقطة؛ لا يمكن لشذوذ الفوارق، أو جدران الاجتهادات؛ أن تحول دون وحدة هذه الأمة، مهما تكاثف وتكاثر من حولنا الأعداء المتربصون، ومهما سهروا على الخطط الماكرة الخبيثة ..
والدليل على أن هذا هو المنطلق الذي ينبغي أن نبدأ به، أنني أعود مرة أخرى إلى الرعيل الأول، إلى عصر الصحابة، إلى عصر التابعين، إلى العصر الثالث، تلك هي العصور الذهبية الثلاثة التي أثنى عليها رسول الله e، فأجد أن الذي وقاهم من كيد الكائدين -وما أكثر تلك المكائد- وأن الذي وقاهم من خطط الأعداء، وما أكثرَهم؛ الأعداء الذين كانوا يتسربون في داخل صفوفهم، والذين كانوا يحيطون بهم من قريب أو بعيد. الشيء الوحيد الذي عصمهم عن أن يقعوا في أحبولة هذه الخطط والمكائد، وأن يذهبوا ضحايا لها؛ صدق عبوديتهم لله سبحانه وتعالى.
عندما أنظر فأجد الإمام أبا حنيفة يجلس تلميذاً في حلقة جعفر الصادق، وأجد أن معظم أئمة المذاهب الأربعة؛ هم تلامذة لوالده سيدنا محمد الباقر، وعندما أجد أن الإمام أبا حنيفة يتلقى حب عمر من كلمات يعلمه إياها سيدنا جعفر. كيف أفهم هذا؟ كيف أفهمه إلا انغماساً لهذه القلوب في بحار العبودية لله سبحانه وتعالى؟ ألا تذكرون يوم سأل الإمام أبو حنيفة أستاذه جعفر الصادق عن رأيه في عمر؛ فقال له: ألا تعلم أنه ذاك الذي زوجه علي t من ابنته أم كلثوم؟! ألا تدري من هي ابنته أم كلثوم؟! ألا تعلم أن أمها فاطمة، سيدة نساء أهل الجنة في الجنة؟! فلو لم يكن أهلاً لها لما زوجه إياها.
عندما أنظر إلى هذه الظاهرة، وأحاول أن أتشمَّم وأن أتلمس أي مذهبية، أي طائفية داخل الطائفة الإسلامية الواحدة؛ فلا أجد أبداً، مع أن الجراح جديدة، والنزيف لم ينقطع بعد، والنكبة مستمرة؟!
ترى لماذا؟ وما السبب؟ السبب أن الجميع طهرت قلوبهم من الشوائب، عندمــــا انغمست في بحار التوحيد، ثم انغمست في بحار العبودية لله ســــــــبحانه وتعالى، تلك هي الحقيقة.. أنا أكرمني الله U بشيء من هذا المعنى الجليل، وأسأل الله أن يزيدني ويزيدكم من مشاعر العبودية له. لا توجد نعمة في الكون أجلّ من هذه النعمة. بفضل هذا الشعور، والله الذي لا إله إلا هو؛ أنظر إلى المسلمين من حولي مهما كانت صبغتهم، ومهما كانت ألوانهم، ومهما كانت مذاهبهم، لا أجد أي حاجز يحجزهم عني أو يحجزني عنهم، ولا أجد أي فارق يحول بين أن أمد يدي إليهم متعاوناً، أو أن يمدوا أيديهم إليّ متعاونين، لا أجد ذلك؛ لأن أقدس معنى من المعاني التي تصلنا إلى الله قد جمعنا جميعاً، ألا وهو معنى العبودية..
العبودية لله معنى جمد في حياتنا، فأصبح شيئاً تقليدياً، وأكاد أن أتميز ألماً من هذا، بينما هو أعظم معنى من معاني السعادة، أجلُّ مرقاة إلى السمو، سموّ الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى. ألا ألم تسمعوا بكلمات ذلك الشاعر التي يقول فيها؛ ولقد دفعته نشوى، وأي نشوى:
ومــــما زادني شــــــــــرفاً وتـــــيــــــــهــــــــــاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيـــــــّرت أحمد لي نبياً
هذا هو المنطلق، فلنحرر هذه النقطة، ولنبتدئ منها، وقد تأكدنا أننا قد تلمسنا عبوديتنا، وملأنا قلوبنا بشعور هذه العبودية الصافية عن أي زغل وعن أي عكر، فإذا انطلقنا من هذه النقطة، فما هي الخطوة التي تليها؟! الخطوة التي تليها أننا عندما نضمن لأنفسنا الصدق في الاجتهاد، عندما نضمن، ونحن نجتهد في الأمور التي تحتاج إلى اجتهاد، في الأمور التي تجللها غشاوات في التشخيص، في التصور، في التحليل؛ ينبغي أن نتلمس الإخلاص لوجه الله في هذا الاجتهاد، أفنحن مخلصون في اجتهادنا من أجل أن ننال مرضاة الله؟!
وتعجبني هنا كلمة استشهدت بها قبل اليوم مرتين، كلمة لأخي وصديقي الشيخ محمد مهدي شمس الدين حفظه الله، قال: كلما أردنا أن نجتهد في أمر من الأمور التي لم يستبن الحق فيها واضحاً بدهياً ضرورياً؛ ينبغي أن نتأكد من شيء واحد؛ أننا لا نقصد باجتهادنا إلا أن نمسك من اجتهادنا هذا بحجة نحملها بيدنا غداً إذا قمنا لرب العالمين، وأوقفنا الله U بين يديه، وحاسبنا وسألنا فيم اتخذت هذا الموقف؟ أقول له يا رب هذه هي حجتي، اجتهدت وتلك هي نبضات الإخلاص لوجهك فيما اجتهدت، لم يدفعني إلى هذا الاجتهاد مغنم، لم يدفعني إلى الاجتهاد أن أغذي عصبية، أن أغذي أنانية، إنما اجتهدت من أجل أن أنال مرضاتك فيما اجتهدت، وأنا أعلم أنك لو شئت لجعلت أصول الدين وفروعها جميعاً واضحة ناصعة، لا تحتاج إلى اجتهاد، لكنها معنى آخر من معاني العبودية ابتليتنا بها؛ أن تعرق جباهنا، وأن نكلّ، وأن نعتصر عقولنا في فهم المعنى الذي أراده الله، أو في تحليل مشكلة تاريخية وقعت، حتى ننال بذلك معنى آخر من معاني مرضاته.
عندما نجتهد أيها الإخوة؛ في كل ما غمض علينا من الأمور التاريخية أو حتى الاعتقادية، وهي هامشية، هي لم تكن يوماً إلا هامشية، ينبغي أن نتلمس الإخلاص لله U بين جوانحنا، وهنا أقول لكم، وكلكم يعلم فيما أتصور، أن الإخلاص لا يأتي تكلفاً، ولا يغرس في القلب بصنعة ولا بتقصد. إنما كما قال الربانيون سرٌّ يضعه الله U في قلب من أحب من عباده.. وعندما أقول هذا الكلام؛ نجد أنفسنا عاجزين عن التكلم في بيان كيفية تحقيق هذا المعنى؛ نأمل أن يشملنا فيمن أحبهم وأحبوه فأخلصوا. وأغلب الظن بل اليقين الذي لاريب عندي فيه؛ أننا إذا التجأنا إلى الله سبحانه وتعالى؛ وهبنا هذه النعمة، وهبنا هذه الجوهرة الفريدة التي سنرحل بها إلى الله U، وستكون جسرنا الواصل إلى رضوان الله سبحانه وتعالى.
أترون إلى إخوة تعاونوا فاجتهدوا تحت مظلة الإخلاص لدين الله U، أفيمكن أن يدعوهم هذا الاجتهاد إلى تهارج؟ أو إلى تخاصم؟ معاذ الله!!
أولاً هذا الإخلاص؛ سيذيب معظم القضايا الاجتهادية، حتى لا يبقى منها إلا اليسير، فإذا بقي هذا اليسير أثنى كل فريق على الفريق الآخر فيما أوصله إليه اجتهاده؛ لأنك عرفت ربك ولازمت محرابه، وأي محراب للعبودية فيما اجتهدت فيه فوصلت إليه. وأنا الآخر مارست أجلّ معنى من معاني العبودية، عندما لزمت محراب هذا الاجتهاد الديني في مسألة مما دفعني الله سبحانه وتعالى إلى الاجتهاد فيها، لا أقول عندئذ أعذرك فتعذرني؛ لا، بل أثني عليك وتثني علي، وسيكون هذا دافعاً - وأي دافع - لمزيد من التلاقي ولمزيد من التعاون، ولمزيد من الحب.
والخطوة التي تليها أيها الإخوة بعد هذه أننا قولاً واحداً - وهذا من مظاهر ضعف الإنسان- نشعر بظمأ شديد بين جوانحنا إلى الثأر، أنا أصف نفسي هنا، عندما أجد أن ظلماً قد وقع على واحد من أهل أسرتي؛ أو أن ظلماً قد وقع على من أحب، وهل هنالك فيمن أحب أجل وأقدس وأسمى من آل بيت رسول الله؟ عندما أجد أن ظلماً قد انحطّ علي، أجد أن مشاعر تعتلج بين جوانحي، وأن هذه المشاعر ربما زجتني في تصرفات، في أقوال، في أمور.. تُرى ما هو صمام الأمان في هذه الحالة؟ ما الملجأ والملاذ؟! ينبغي هنا أن نعالج هذه النقطة، هذه النقطة خطيرة جداً أيها الإخوة!!
ينبغي أن نعالج هذه الحالة، ونهدئ أعصابنا، ونجعل السلطة الأساسية لعقولنا، ولكن كيف؛ والله يقول: (وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء:4/28]؟ الدواء الناجع في هذه الحال أن أعلم بسرعة أن عمر الزمن قصير، وأن الدهر خلّب، وأن الزمن -والله- فيما قاله الفلاسفة قبل أن أقوله بناء على شعور؛ الزمن عبارة عن وهم وليس حقيقة، أرأيتم إلى قطعة مطاط تشدها طرفيها بيديك، فإذا بها من الطول بمكان، لكنك إن تركتها آلت إلى قطعة قصيرة لا ترى.. الزمن هكذا، إنما تمغطه الأحداث، فإذا أفرغت ما نسميه زمناً من الأحداث تضاءل وتراجع، وأصبح لا شيء.. عمر الزمن قصير والموت قريب.
أيها الإخوة، ولقاؤنا مع الله U وشيك، ولسوف تلتقي الأجيال كلها، ولسوف يقف يزيد ومعاوية، ومن قبلهم ومن بعدهم، أمام محكمة الله سبحانه وتعالى، ولسوف ينصف الله تعالى المظلوم من الظالم. هذا كله ينبغي أن أعلم أنه حقيقة، وأن بيني وبينها من العمر أياماً يخيل إلي أنها طويلة؛ لكنها في الحقيقة قصيرة، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج:70/6-7]، فإذا عرفتُ ذلك فلأسلم نفسي إلى الرب، وإلى طمأنينة البال، ولْأكِلِ الأمر إلى الديان، إلى محكمة الله سبحانه وتعالى.
إذا كان يقيني حقيقياً بذلك اليوم، ولم يكن يقيناً وهمياً، ولم يكن إيماني بالساعة وأحداثها قد آل إلى إيمان تقليدي جامد؛ فوالله إن الأعصاب لتهدأ، وإن النفس ستسكن، وإن لواعج الثورة ودوافع الثأر كل ذلك؛ يهمد ويخمد، ذلك لأن الذي قد آلى على نفسه أن يكون الحكم العدل في هذه المسألة هو الله، فماذا عسى أن أفعل بعد أن تعهد الله سبحانه وتعالى بحلّ هذه المشكلة والمعضلة؟!
عندما أتصور الأمر على هذه الناحية، أشعر أن دافعاً يحملني إلى أن أطوي هذه المشاعر؛ فأضعها على الرف، ثم أقبل إلى ما أنا بصدده من واجب البناء، من واجب العمل، من واجب النهوض بما أمر الله سبحانه وتعالى.. هذه حقيقة ينبغي أن نتلمسها..
هذه الخطوات الثلاث بدءاً من هذا المنطلق، تنهي المشكلة، وأقول مشكلة لأنها فعلاً مشكلة.. نحن نعاني من مشكلة التشرذم، وأنا أقول لكم أيها الإخوة، وأنا من شأني الصراحة، إن التشرذم لا يُقضى عليه بشعار، لا يعالج بكلمة، ولا يعالج بوحدة الصف، ما قيمة وحدة الصف إذا كانت القلوب متدابرة؟! إذا لم تكن القلوب متآلفة بل متحدة.
إنما السبيل هو أن نبدأ من منطلق أساسي، ألا وهو الاصطباغ بمشاعر العبودية الصادقة الصافية من كل عكر لله U، ثانياً الإخلاص في اجتهاداتنا لوجه الله U، ثالثاً إذا شعرنا جميعاً باللواعج بين جوانحنا في مثل هذه المناسبات، فلنتذكر عزاءنا بمحكمة الله سبحانه وتعالى التي ستنصب عما قريب.
وإذا تصورنا هذا المعنى؛ فأنا أقول لكم أنني أتصور أنه ليس في المجتمع الإسلامي شيعة وسنة؛ وما ينبغي أن يكون هنالك شيعة وسنة. والسنة أليسوا من شيعة رسول الله؟ أليسوا من شيعة آل بيت رسول الله؟ كيف؟!. والله لا أقبل أن أرحل من هذه الدنيا، إلا وأنا أتشرف بحبٍّ يهيمن على كياني كله لرسول الله وآل بيت رسول الله، وأنا أردّد مع البوصيري أبياته الجميلة:
أل بيت النبي طبتم فطـــــــــاب المد ح فــــــــــيـــــكم وطاب الـــــــــــرثــــاء
أنا حسانُ مدحِكم، فإذا نحـــــــتُ عـــــليكم فــــــإنــــــنـــــي الخــــــنســــــاء
ســـــدتم الناس بالتقى وســـــــواكــــم ســـــــوَّدته البيــــضـــــاء والصفــــــراء
فابكهم ما استطعت، إنَّ قليلاً في عظيم من المصاب البكاء
ولكنه يقول أخيراً:
غير أني فوضت أمري إلى اللـــــ ــــــــــه وتفويضي الأمـــــــور بـــــراء
أيها السادة! أنا أشكركم على أن أكرمتموني بهذا اللقاء، وأشركتموني بالحديث عن هذه المناسبة، ودعوني أُلزم نفسي وأُلزمكم بأن نعمل جهد استطاعتنا على نقيض ما يسعى إليه أعداء هذه الأمة ليل نهار؛ كلهم يسعون لتمزيق هذه الأمة وقد تمزقت، يسعون من أجل مزيد من التمزيق ومزيد من التشرذم. ونحن مسلمون؛ ديننا دين التوحيد، وديننا دين الوحدة، فلماذا لا نعيد وظيفة إسلامنا إلى ما كانت عليه من قبل؟! لماذا كان الإسلام يوحد الشعوب والقبائل المتشرذمة بالأمس، ثم لا يقوى الإسلام اليوم على مقاومة التشرذم الذي يخطط له أعداء لنا من حولنا عن يمين وشمال؟!
أقول قولي هذا، وأسأل الله لي ولكم القبول وصدق الإنابة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
(1) الظربان: دويبة نتنة الرائحة، وفي المثل " فسا بينهم الظربان" أي تقاطعوا. وإذا فست في ثوبه لا تزول رائحته حتى يبلى.