تخطي إلى المحتوى
لماذا نقرأ المذكرات لماذا نقرأ المذكرات > لماذا نقرأ المذكرات

لماذا نقرأ المذكرات

ينصح الخبراء العازفين عن القراءة والمبتدئين بها بالالتفات لكتب المذكرات الشخصية، نظراً لجاذبيتها، وعدم الحاجة إلى التركيز الكبير خلال قراءتها، بالإضافة إلى أنها تلائم اهتمامات الإنسان المباشرة، فتقدم خبرة وتجربة يحتاجها المرء بشكل يومي ولحظي، فتختصر له الزمان والمكان. لا سيما أن سيرة العظماء تُعلي من شأن القارئ، فتجعل نفسه تتراءى في مرآة ذلك العظيم الذي يقرأ له، فتحصل عملية محاكاة بين القارئ والكاتب، فعلاً وقولاً.

فلا ملل ولا سأم خلال قراءة المذكرات، ونحن نقرأ لأحد السلف، حين سُئل: ألا تملّ من الكتب وقراءتها بشكل دائم ومستمر؟ فيجيب: كيف يملُّ من هو في صحبة أبي بكر وعمر وعثمان، وكبار الصحابة والتابعين.

يقول عباس محمود العقاد: «لا أحب الكتب لأني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني». فالمذكرات حياة ثانية، وهي تُفسر لنا في حقيقتها وكنهها الحياة، تماماً كما تشرح لنا البيئة والجو والتاريخ الذي عاشه صاحبها، فتنقلنا إلى عصره وزمانه، فينقل لنا معه خبراته وتجاربه في نجاحه وفشله، فنتمكن بذلك من تحاشي السلبيات وتعظيم الإيجابيات، فضلاً عن كونها مصدراً أساسياً ورئيسياً للتاريخ، بل سنداً عالياً له، يمكن الاستناد إليه والاعتماد عليه، ولذا رأينا كثيراً من كتاب التاريخ يحرصون على قراءة المذكرات، والاعتماد عليها كمصدر أساسي في توثيق مرحلة زمنية معينة، خصوصاً إن كان صاحب المذكرات بطلاً، وعنصراً فاعلاً في تلك المرحلة التاريخية.

لكن هذا لا يعني أن كل ما يذكره صاحب المذكرات حقيقة واقعية، فلا بد من السعي إلى تقاطعه مع ما يقوله خصومه ومنافسوه، وهنا تظهر قدرة المؤرخ والكاتب على فرز الزيوان من القمح، فالمذكرات في كثير منها مرافعة تاريخية شخصية يحرص عليها العظماء لاسيما السياسيون منهم، لتبرئة أنفسهم، فهي في أصلها وفصلها، مذكرات للدفاع عن الشخصية ومواقفها، ولكن هذا لا يمنع من وجود كثير من الحقيقة فيها، ولا يمنع من بثه لكثير من الاعترافات والوقائع التي تفيد المؤرخ، وتجعله يملأ كثيراً من الفجوات التاريخية التي يحتاجها أثناء عملية الكتابة التاريخية.

وما دامت المذكرات مرتبطة بالقراءة، فإن قادة الدول الكبرى يحرصون أشد الحرص على تدوين مذكراتهم، مما يجعلهم يتركون إرثاً مهماً لمن خلفهم يساعدهم في الاستفادة من الخبرات الإيجابية وتجنب السلبيات، ويساعد مؤرخيهم في كتابة تاريخ حقيقي واقعي، مع فهم لشخصيات عالمية عاصروها، مما يساعد أكثر في فهم الآخر والتعامل معه، ولذا رأينا القوى الغربية والمنفتحة على الكتابة والعلم أكثر قدرة على فهم الآخر، وعلى تدوير الزوايا خلال عمليات التفاوض معه، ورأينا أيضاً أن القوى الكبرى التي لديها كتاب مذكرات ومراكز دراسات أقل في الاشتباكات العسكرية من غيرها، وتحديداً مقارنة بالدول الصغيرة العاجزة على تدوير الزوايا، وعلى فهم نقاط الاتفاق والاختلاف، فترى العسكرة والسلاح هي الأسرع لتحقيق رغباتها وأهدافها.

فبالقراءة نرتقي، وأول سورة أنزلت على نبينا عليه السلام اقرأ باسم ربك الذي خلق، كما أن أول خطوة لحافظ القرآن في الجنة «اقرأ وارتق»، ونهايتك عند آخر آية تقرؤها، وبدون المكتوب فلا مقروء، وكذلك دون المذكرات لا قراءة تجارب ولا فهم شخصيات، ولا معرفة تاريخ، ولا تجارب شعوب.

المصدر: 
جريدة " الشرق " القطرية