بعد نحو نصف قرن على انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب في 1976، يعود هذا العام إلى مكانه الأول الذي انطلق منه (جامعة الملك سعود) بالرياض، تحت شعار "وجهة ملهمة" حيث يتجدّد الاحتفاء بالكتاب في المملكة العربية السعودية عبر أربعة معارض سنوية في الرياض وجدة والمدينة والشرقية، لكن أكبر هذه المعارض هو معرض الرياض الدولي للكتاب الذي تنطلق فعالياته اليوم الخميس 28 سبتمبر/ أيلول الجاري وتستمر لعشرة أيام حتى 7 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بتنظيم من هيئة الأدب والنشر والترجمة. وتشتمل فعاليات المعرض على برنامج حوارية وأمسيات شعرية ومسرحيات وحفلات موسيقية وورش عمل في مختلف مجالات المعرفة بمشاركة عدد كبير من المثقفين والأدباء السعوديين والعرب والأجانب الذين سيشاركون في أكثر من 200 فعالية، كما تشارك في المعرض أكثر من 1800 دار نشر من 32 دولة، وهيئات ومؤسسات ثقافية، تتنافس على تقديم آخر الإصدارات والعناوين لأكثر من مليون زائر، إلى جانب دُور عالمية تعرض المقتنيات النادرة والثمينة من كتب ومخطوطات ولوحات الفنية.
لا يرى حسين علي حسين تهديدا لدور الكتاب التقليدي:"لا أعتقد أن الكتاب الورقي سيختفي قريبا، فلن تحدث للكتاب حاله مماثلة لما يحدث للصحف والمجلات والدوريات الورقية. لكن هذا لا يعني اليوم بالضرورة، أن من كان يطبع ثلاثة آلاف نسخة سوف يطبع ضعف هذا الرقم. الأمر الثاني هو أن طرائق القراءة تتطوّر وفقا لطبيعة الوسائط التي نستخدمها، وكلما تطورت تلك الطرائق وضعتنا أمام خيارات مفتوحة وأكثر تنوعا وغنى، يبقى المهم عادة القراءة وليست آلياتها، فمن كانت عادته أن يقرأ الكتاب الورقي سيكون أكثر قدرة واستعدادا لقراءة المحتوى الرقمي في هاتفه المحمول، أو عبر الكمبيوتر المحمول أو الثابت. شخصيا لا أطيق قراءة كتاب بواسطة الهاتف المحمول أو الكمبيوتر، وان كنت أكتب وأراجع ما أكتب عبر الكمبيوتر. الكتاب الورقي بخير، وما يدل على ذلك انتظارنا بشغف ما تعدنا به المعارض من كتب".
من ناحيته يؤكد الناقد د. سامي جريدي ذلك بالقول: "صراع الكتاب الورقي مع الإلكتروني لا يزال قائما، وقد يتطلب الأمر وقتا طويلا حتى تتضح الرؤية الصناعية والتطور التقني للمعرفة والآداب، لا سيما وأن معدل المعلومات باللغة العربية يقلّ على منصات الإنترنت مقارنة بالمعلومات في لغات أخرى، ولهذا نحن بحاجة إلى مؤسسات وجامعات عربية وجهات علمية ترعى وتسهم في توفير الكتاب التقني بطرق ميسرة وسريعة، بدلا من الجهد والوقت الذي ينفقه بعض الباحثين للحصول على المعلومة، وهذا الأمر من الإسهام التقني لن يضعف كما يرى بعض الخبراء من الإقبال على الكتاب الورقي. ولا ندري حتى الآن إن كنا سنشهد أو يشهد أبناؤنا أو أحفادنا وسائل تهدد الكمبيوتر نفسه، فكل شيء وارد".
ويعتبر د. جريدي أن "رهان المعرفة مأخوذ بالتأرجح، وهذا أمر بديهي لأن الكتاب الورقي، كما يبدو، تماهى مع التقنية والبرامج الرقمية إلى حد كبير، وضاع المثقف العربي بين إرادتين: إرادة الخوض في غمار التقنية والثقافة السائلة، أو البقاء في جلباب الأداة والآلية القديمتين وعدم الانصياع للتحديث وهيمنة التقنية، وهناك من راوح بينهما دون أن تغيب روحه الفنية والأدبية بين هذا وذاك".
مجالات المعرفة
وحيال ما تطرحه اختيارات القراءة من مجالات غنية للمعرفة، في ظل ملاحظة الإقبال على نوعية محددة من الكتب ككتب الروايات في المعارض العربية ومدى اقتراب تلك الظاهرة من كونها سوية عادية لفعل القراءة، يعتبر حسين علي حسين أن "الأصل هو التنوع في كل شيء، وإن كانت الغلبة أحيانا لشيء دون شيء آخر. هناك من يبحث عن الكتاب الخفيف للمتعة والتسرية عن النفس، وهناك من يبحث عن كتب الدرس، والمعلومة، والعلاج، وقد قيل في الامثال: لولا اختلاف الناس لبارت السلع، والكتب سلعة، وأن كانت سلعة راقية ثمينة الهدف والفائدة، زهيدة القيمة المادية. وفي النهاية كل ناشر او مؤلف يعرف سوقه ويعرف زبائنه، وهو يعمل ويجتهد في العمل لتحقيق ذلك".
الكتاب الجيّد يفرض نفسه في كل زمان ومكان، لكن يحدث أن بعض الكتب المهمة والغنية بالمعرفة تغيب في موج الكم الهائل من النتاجات الضعيفة والمتواضعة
أما د. سامي جريدي فيرى أنه "من البديهي أن الكتاب الجيّد يفرض نفسه في كل زمان ومكان، لكن يحدث أن بعض الكتب المهمة والغنية بالمعرفة تغيب في موج الكم الهائل من النتاجات الضعيفة والمتواضعة وبخاصة تلك التي أخذت دورها من الدعاية وحقها في الإعلام، ولهذا يخسر القارئ الكتاب الجيّد متأثرا بمؤثرات وضغوط أصحاب دور النشر الذين يسعون لترويج منتجهم غير الجيد وذلك لكسب المال لا المعرفة".
وسائط وفعاليات
وحول القيمة التي تضفيها الأنشطة الثقافية الموازية على معارض الكتب، من دعاية متبادلة في الإحالة للكتاب يقول حسين علي حسين: "يفترض أن تكون جلّ الفعاليات المصاحبة لمعرض الكتاب ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بإشاعة المعرفة بكافة فروعها، وليس شرطا أن تكون الإحالة او الفائدة قصرا على الكتاب، فهناك الوسائط الرقمية المقروءة والناطقة، وهناك تقنيات صناعة المعرفة العلمية والترفيهية، اعتقد أن الكتاب هنا سيكون المحور الرئيس كمحتوى، لكن ثمة وسائط تقنية جديدة اليوم إلى جانب الكتاب، وهي وسائط ربما كانت أكثر إغراء في جذب الناس للمحتوى المعرفي، فتعدّد الوسائط يغري بدخول آخرين إلى حقول المعرفة من خارج آليات القراءة التقليدية للكتاب، لذا من المهم ألا نخسر هواة الوسائط الجديدة فالتنوع مطلوب".
أما د. سامي جريدي فيرى أن "من الضروري وجود فعاليات ثقافية على هامش حدث كبير كمعرض الرياض الدولي للكتاب، وأن يصاحب ذلك أحداث صغرى مثل المحاضرات والندوات والأمسيات الشعرية والقصصية ومعارض الفنون التشكيلية إلى جانب استضافة كتّاب مشهورين لهم دور فاعل في المشهد الأدبي العربي. هذه الأحداث المصاحبة للمعرض تعطي ثمارها، لا سيما إذا كانت ذات أهداف أدبية وتربوية وتنموية توجه خطاباتها المتنوعة إلى شريحة كبيرة من المجتمع ولاسيما الناشئة والطلاب إلى القراءة وتذوق الفنون والآداب والسعي إلى احترام الثقافات من أجل إيجاد جو من التوازن بين القراءة وغيرها من الهوايات، ذلك كله يصب في تشجيع الناس على المعرفة بطرق مشوّقة ومحفزة، كما يساهم المعرض في رسم صياغات جديدة لخدمة الكتاب وصناعته ونشره، فهو يضفي نوعا من الصراع المعرفي والممانعة الرافضة لفكرة أن الكتاب الورقي قد غاب أو قد مات دوره أمام التحولات التقنية والمعرفية التي أخذت تعصف به في العالم".
عُمان ضيف شرف
وأخيرا، إذ تحل سلطنة عمان هذا العام ضيفا ثقافيا في معرض الرياض الدولي للكتاب ثمة إمكانات وفرص لتعبيرات بينية محتملة للعلاقات الثقافية بين أكبر بلدين في الخليج . يقول الناقد د. سامي جريدي: "لعل التنوع في اختيار دول عربية وأجنبية ضيف شرف في معارض الكتب أمر جيّد، لكن كنت أرى أن يكون هناك اتساع في الرؤية والاختيار لأن التلاقح الثقافي واللغوي لا يكون إلا من خلال التعدّدية والتنوع والانفتاح على ثقافات أخرى عربية وغير عربية. سلطنة عُمان من الدول التي لها تاريخ حضاري وثقافي كبير، ولديها شعراء وأدباء احتلوا مكانهم في المشهد العربي والعالمي وبخاصة في السنوات الأخيرة، كما لا ننسى أن الشاعرة التي حصلت التي على لقب أميرة الشعراء لهذا العام هي عائشة السيفي كانت من عُمان، كذلك الأمر في مجال الرواية، فالروائي الذي نال جائزة البوكر العربية لهذا العام 2023 هو الروائي زهران القاسمي عن روايته تغريبة القافر، وغيرهما من الأدباء والكتّاب الذين أخذت أعمالهم تترجم إلى لغات عالمية كأعمال سيف الرحبي وجوخه الحارثي وآخرين. الأمر الذي يدل على دخول سلطنة عمان بقوة في المنافسة الإبداعية في المشهد الأدبي والثقافي العربي في ظل تراجع بعض الدول العربية الأخرى التي كانت تتسيّد الجوائز وأخذت حقها في الظهور فترة طويلة من الزمن".
ثمة اشتباك لابد منه مع التكنولوجيا الرقمية بهدف تسويق الكتاب الورقي. ونظرا لما تشهده المملكة من نهضة كبيرة، تلعب هيئات وزارة الثقافة لعب دورا كبيرا في تخفيف الأعباء عن دور النشر
كذلك، يرحب الروائي حسين علي حسين باستضافة سلطنة عمان ضيف شرف لمعرض الرياض الدولي للكتاب قائلا: "أهلا بسلطنة عمان وأهلا بالكتاب العماني والمثقف والأديب والمفكر العماني. سلطنة عمان، دولة ذات تاريخ عريق، والإنسان العماني طموح، وخاض الصعاب لتكون بلاده بالصورة المشرفة التي نراها اليوم".
النشر... شؤون وشجون
وبمناسبة استضافة المملكة مؤتمرا دوليا للناشرين على هامش معرض الرياض للكتاب بتنظيم جمعية النشر السعودية، ورعاية هيئة الأدب والنشر والترجمة، يقول الاستاذ عبد الله فهد الغبين المدير العام لدار أثر للنشر والتوزيع إنّ "صناعة الكتاب هي تحدٍ ثقافي بالمقام الأول، فإنتاج الثقافة في غياب الرؤية يعتبر جهدا ضائعا. لهذا فإن من أهم شروط النجاح في صناعة الكتاب، امتلاك رؤية ثقافية تختبر معنى الكتاب بوصفه وسيطا حيويا بين الناس والثقافة، وتأتي الآليات والوسائط المسهّلة لتفعيل تلك الغاية كعامل ثانوي". ويضيف الغبين: "ظللنا نراهن في دار أثر على هوية المعنى الثقافي للكتاب تحديدا وهذا بالضرورة يضع أمامنا مهمة الاضطلاع بقضية الإبداع كشرط وجودي للمحتوى الكتابي الذي نصدره عن الدار. بطبيعة الحال الرهان على الثقافة في واقعنا الثقافي العربي، والشروط التي تحكم سوق النشر رهان صعب ويحتاج إلى الإيمان بجدوى الثقافة وضرورتها أولا كي نستعين بعد ذلك على مصاعب الطريق في عالم عربي أصبحت فيه تحديات النشر من أخطر المهدّدات الوجودية لصناعة الكتاب، ففي ظل صناعة ورقية أصبحت فريسة للغزو الرقمي الذي يكتسح سوق المحتوى، يتعيّن علينا إبداع مهارات جودة عالية في سبيل الحفاظ على التميّز الذي يغري القراء بالإقبال على شراء الكتاب".
ويؤكد الغبين أن "صناعة الكتاب الورقي إلى جهود أخرى كالتسويق الإلكتروني والنشر الرقمي، إلى جانب الوسائط الصوتية من نسخ الكتاب، بمعنى آخر ثمة اشتباك لابد منه مع التكنولوجيا الرقمية بهدف تسويق الكتاب الورقي. ونظرا لما تشهده المملكة من نهضة كبيرة عبر الجهود المتميزة للسياسات الثقافية من خلال هيئات وزارة الثقافة، كهيئة الأدب والنشر والترجمة، فإن التعاون المثمر مع بعض هيئات وزارة الثقافة لعب دورا كبيرا في تخفيف الأعباء عن دور النشر".
هذا، وسيقام مؤتمر الناشرين الدولي يوم الأربعاء 4 أكتوبر/ تشرين الأول بتنظيم من جمعية النشر السعودية، ورعاية هيئة الأدب والنشر والترجمة، وستشارك فيه نخبة من الناشرين وأصحاب دور النشر في العالم العربي، إلى جانب مشاركة ناشرين دوليين، حيث يناقش المؤتمر تحديات صناعة النشر ومستقبلها، ويشكل فرصة كبرى للاستفادة من تبادل الخبرات في مجال نشر وتسويقه.