من الإنصاف القول بأنَّ الكتاب يعدُّ من أهم وسائل المعرفة والتثقيف واكتساب الخبرات الجديدة، ويمتاز بتأثيره الإيجابي الكبير في حياة الإنسان وبناء المجتمعات وتطوّرها، فهو يرمي إلى تنمية الشخصية الإنسانية وتعزيز الاتجاهات المرغوبة فيها، وإثراء حصيلته من الأفكار والمعارف وإغناء خياله، وبثِّ البهجة والإمتاع في نفسه، ليشكِّل – بذلك – رافداً من أهم روافد الثقافة، ومُدخلاً ضرورياً لتنمية الإبداع والابتكار رغم تقدّم الوسائط الثقافية الأخرى وتعدّد أشكالها وظائفها.
يخضع الكتاب عموماً لمعايير عدَّة، تتعلَّق بالشكل والمضمون، فمن حيث المضمون لا بدَّ أن يحتوي على الفكرة الجيدة، وعلى منظومة متوازنة من القيم الإنسانية، إضافة إلى الإعتبارات الفنية والتذوّقية، أما من حيث الشكل فأن يكون حجم الكتاب وإخراجه وطباعته مناسباً وجذاباً للفئات القارئة.
لكن واقع القراءة في المجتمعات العربية للأسف، هو واقعٌ متردٍّ، ولعل أهم الأسباب وراء هذا الواقع: قلة الوعي بأهمية القراءة، وندرة العناوين الجادّة، وتدني القيمة العلمية للكتاب، وندرة معارضه وقلَّة الارتياد لها، يُضاف إلى ذلك ارتفاع سعر الكتاب الجيد، والنَّفس التجاري الذي يحكم صناعته غالباً، هذه الأسباب وغيرها تؤدي إلى ضعف القراءة وقلة الإقبال عليها، فحسب إحصائية ذات صلة، يستهلك العالم العربي من الورق المستخدم في طباعة الكتب، أقل من 10 بالمائة من استهلاك دولة متقدِّمة كبلجيكا، التي لا يتجاوز عدد سكانها بضعة ملايين نسمة، كما تشير إحصائية أخرى تبعث على الأسف أيضاً، تشير إلى أن مجموع ما تستهلكه كل الدول العربية مجتمعة من ورق ومستلزمات الطباعة أقلّ من استهلاك دار نشر فرنسية واحدة.
تثير هذه الإحصاءات تساؤلات كثيرة حول واقع الكتاب في العالم العربي، وتعكس التأثير السلبي على المستوى الثقافي عموماً، إذ أن العلاقة بين الإقبال على الكتاب وبين مستوى الثقافة والوعي العام هي علاقة متجذّرة، من جانب آخر فإنَّ صناعة الكتاب طباعةً ونشراً وتوزيعاً في البلدان العربية تواجه مشكلات وتحدِّيات كبيرة، لعل أهمها: إنتاج بعض دور النشر لكمٍّ هائل من الكتب الضعيفة من الناحيتين الأدبية والفنية بهدف الربح الماديّ، ومنافسة الكتاب الإلكتروني للكتاب الورقي، رغم مزايا الأخير وتفرّده بخصائص عدّة.
ولعلَّ معارض الكتاب سواءً المحلية أو الدولية، والمقامة في شتى مدن العالم، تشكِّل حالة ثقافية صحية، بل من أكبر التظاهرات التي تضيف للحياة الاجتماعية في تلك المدن؛ بهاءً ورونقاً وجمالاً، كما أصبحت إقامتها من التقاليد الراسخة للأمم المتطوّرة، ذلك لدورها في ربط الإنسان بعلاقة حميمية مع الكتاب، حيث للقراءة والكتاب قيمة إنسانية عالية، على الرغم من تطور أساليب الوصول إلى المعرفة.
ومعارض الكتاب بوصفها منابع للفكر والثقافة والفنون، فإنها تؤسِّس – أيضاً – لتلاقح الأفكار بين الشعوب، وتحقِّق التعارف والالتقاء بين القائمين على المؤسسات المعنيّة بالنشر، ناهيكم عن كونها تشكّل صلة وصل بين الكتّاب والأدباء والمفكرين من جهة، وبين الآلاف من الناس الراغبين بالاطلاع على نتاجاتهم من جهة أخرى.
يستهلك العالم العربي من الورق المستخدم في طباعة الكتب، أقل من 10 بالمائة من استهلاك دولة متقدِّمة كبلجيكا، التي لا يتجاوز عدد سكانها بضعة ملايين نسمة، وتشير إحصائية أخرى إلى أن مجموع ما تستهلكه كل الدول العربية مجتمعة من ورق ومستلزمات الطباعة أقلّ من استهلاك دار نشر فرنسية واحدة!
إنَّ معرض الكتاب يعدّ بمثابة سفيرٍ يمثّل الشعوب في المحافل الدولية، حيث تتشارك فيها دور النشر المحلية والإقليمية والعالمية والمكتبات والمؤسسـات الثقافيـة ومراكـز البحوث والجمعيات والجامعات بعناوينها المتميزّة، والتي تتنوّع ما بين الإصدارات العلمية والثقافية والأكاديمية وغيرها، وبما يجسِّد الإنتاج الفكري والإبداعيّ، ولمعرض الكتاب قيمة أخرى تتمثَّل بالفعاليات والنشاطات المصاحبة، التي تهدف بمجموعها إلى تنشيط الحركة الثقافية، كتخصيص الجوائز للكتب المتميزة في مجالاتها، ولأفضل التصاميم والمطبوعات، إلى جانب الندوات واللقاءات والبرامج ذات الصلة، التي تحوّل المعارض إلى ورش فكرية وثقافية.
يحضرني في هذا المقام: (معرض مسقط الدولي للكتاب) الذي انطلقت دورته الـ 26 بتاريخ 24 فبراير، في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض بمدينة العرفان، حتى 5 مارس، بأكثر من 700 دور نشر، منها 33 دار نشر مختصّة بالكتاب الأجنبي، وأكثر من 361 ألف عنوان، وبلغ عدد الدول المشاركة 27 دولة حول العالم.
أقيم المعرض تحت رعاية كريمة، من صاحب السّمو السيد ذي يزن بن هيثم بن طارق آل سعيد، وزير الثقافة والرياضة والشَّباب، وبحضور عدد من أصحاب السمو والمعالي والسعادة والمكرمين أعضاء مجلس عمان، وأصحاب السعادة السّفراء، وجَمع غفير من الأدباء، والكتّاب والمثقفين والإعلاميّن.
وكان زوار المعرض، والمهتمين به على موعد مع العديد من الفعاليّات الثقافية والأدبية المتكاملة، والمتنوعة بين محاضرات وأمسيات ثقافية وأدبية، ومناشط الطفل والأسرة، التي تشتمل على مسرح للفعاليات، والركن العلمي والثقافي، وركن القراءة، وإقامة حلقات العمل، كما يوجد محرك البحث في الموقع الالكتروني للمعرض، وتطبيق المعرض، إلى جانب فريق الفهرس المتحرك اثناء المعرض، كما سيكونون على موعد مع مئات آلاف العناوين الحديثة التي تتوزع بين مجالات تخصص دور النشر في المعرض، مثل: التراث، التاريخ، علوم القرآن الكريم، العلمية، الأكاديمية، الأدب والفكر والفلسفة، كتب الأطفال، وغيرها.
هذا المعرض الذي أصبح شاهداً على حضور لافت ومتميِّز في المشهد الثقافي العربي، ويستقطب اهتماماً محلياً كبيراً، وبات يحتل مكانة مرموقة بين معارض الكتب على المستوى الإقليمي، يعدُّ اليوم من أهم التقاليد الثقافية والحضارية في سلطنة عمان، ويصنَّف كأهم معارض الكتب عربياً، ويمثِّل فرصة ثمينة يلتقي خلالها القائمون على الشأن الثقافي وصنّاع الكتاب وناشروه، كما يلتقي الأدباء والمثقفون، ويحرصون على المشاركة والاستماع إلى القرّاء من أبناء السلطنة ومقيميها، ولا ننسى النشاطات الثقافية المتنوعة، والمعارض التشكيلية والتراثية وأنشطة الأطفال، التي تستمر طيلة فترة إقامة المعرض، وتهدف إلى خلق أجواء أدبية وثقافية راقية، وتنشيط الحركة الاقتصادية لصناعة الكتاب على المستوى المحلي والعربي.
تكاد لا تخلو معارض الكتاب في العالم العربي من السلبيات عموماً، التي يتصدرها على الإطلاق: قلة الكتب العلمية الحديثة، والتي تقدّم قراءات استشرافية لمستقبل المنطقة العربية، أو التي تعالج الأزمات التي يعاني منها الواقع العربي، كأزمات الماء والغذاء وحال الديمقراطيات فيه، وفي هذا الإطار هناك أمور عدّة يجب الأخذ بها، وأولها: تنشيط المؤسسات المتخصِّصة وتفعيل قوانين العمل، بهدف إخراج هذا النوع من المعارض عن دوائرها التقليدية الضيقة إلى فضاءات أوسع وأرحب، وأيضاً الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة للتغلّب على المشكلات التي تعيق نجاح عملها، ناهيكم عن الحاجة لجهود الحكومات في نشر وتوزيع الكتاب بين الأوساط القارئة خلال هذه المعارض وغيرها من الأوقات، والإسهام في دعم أسعار الكتب، وتوفير الخدمات الإلكترونية للزوار لمساعدتهم في الوصول إلى العناوين ودور النشر المطلوبة بسهولة، والعمل على اكتشاف طرق جديدة لترويج الكتاب.
ختاماً فإنَّ معارض الكتاب هي مواسمٌ ثقافيةٌ مزدهرة، بل مؤسسات ثقافية بحدِّ ذاتها، وهي إحدى الواجهات الحضارية التي تهدف إلى تعميق الوعي الثقافي للإنسان وتقريبه من الكتاب روحاً ومعنىً، وإلى زيادة الشّغف بالقراءة والنشاطات الثقافية، ومن جهة أخرى فتح آفاق جديدة للمعرفة في الأطر المحلية المدنية، والإسهام بفعالية في الحراك الثقافي الفكري، ولعل هذا ما يفسر سبب الاهتمام المتزايد للبلدان المتطوّرة بإقامة هذا النوع الهام من المعارض.
مجلة قناص