منذ فترة أتساءل عما يحدث في حال أصاب الوقت مكروه، أدّى إلى تشوهه أو تخريبه، شيء يشبه ما يحدث للمكان، كزلزال أو فيضان، يراودني أن الوقت يعاني خللًا ما، لكننا نعجز عن التحقق منه، بما أننا نواجه كيانًا لا يرى ولا دليل على وجوده، سوى الشعر الأبيض في رؤوسنا والتجاعيد التي تغزو وجوهنا. مشكلتي الأساسية ليست مضي الوقت بسرعة، بل في رؤيتي لتلك اللحظات من بعيد، وكأنها لم توجد، كأنها وجدت فقط في لحظة تواجدي داخلها، حسنًا سيقول بعض العلماء، هذا ما يحدث أصلًا أن الوقت يوجد خلال وجودنا داخله، إذ وبحسب نظرية النسبية الخاصة بأينشتاين فتجربة تدفق الوقت مرتبطة بالمراقب ووضعه، المراقب هنا هو أنا، لكن ليس هذا ما أشعر به، بل كأنَّ نسخة أخرى مني عاشت تلك اللحظات، نسخةٌ لا أعرفها جيدًا أخذت لحظات واحتفظت بها في مكان ما.
الوقتُ وهمٌ عنيد...
ككل عام يفاجئنا انتهاء عام آخر، كيف أن الوقت مضى سريعًا، فبالكاد بدأنا السنة حتى أتت التالية، وهذا ينطبق على رؤيتنا لأعمارنا التي تبدو أنها مرت سريعًا. الوقت كتعريف بسيط، هو التقدم الذي نراه في الأحداث من الماضي إلى المستقبل، ورغم أننا لا نمتلك دليلًا ملموسًا للوقت إلّا أننا نتحدث عنه من خلال تجاربنا أو أحداث فارقة ونتذكر الماضي فقط ولا يمكننا تذكر المستقبل وللآن يبدو أن الوقت مستمر ولا رجوع فيه.
يقول أينشتاين إن "الفاصل بين الماضي، الحاضر، والمستقبل هو وهم عنيد مستمر"، في النظرية النسبية اكتشف أينشتاين أن الزمن ليس نفسه، في حال تغيرت سرعة الضوء، بمعنى أنه كلما ازدادت سرعتك لتقترب مثلًا من سرعة الضوء يتباطأ الزمن في الساعة خاصتك فتمر عشر دقائق عليك بينما تمر خمس ساعات على صديق يتواجد على الأرض، رغم أنكما تقومان بنفس الفعل في نفس اللحظة، حسنًا هذا هو الجانب العلمي باختصار، لكن داخل كلّ هذا يبدو الإنسان في رحلة غريبة ومثيرة، إذ أنه وبحسب أينشتاين كل شيء حدث، أو يحدث، أو سوف يحدث، موجود بالفعل، لكننا لا نستطيع رؤية الوقت بهذه الطريقة إنما فقط كسهم منطلق إلى الأمام.أحب الفن والأدب لأنه يتلاعب بالوقت كما يتلاعب الوقت بنا، ربما الكتابة هي الوحيدة التي تمنحنا فرصة التحكم بوقت الحدث، فحين نكتب، نصنع اللحظة، ونحدد مسار الشخصية بما فيها كل لحظات حياته، أمّا القارئ فهو يمنح التجربة بعدًا آخر، بمعنى حين يبدأ القارئ بقراءة رواية ما، فهو يُحيي زمنها، وحين يتوقف يجبر زمن الشخصية على التوقف، تحتوي بعض الروايات مخططًا زمنيًّا واضحًا لحياة شخص ما، يمكن التعرف على كل تفاصيل حياته من خلال 200 أو 300 صفحة، إذًا نتمكنّ هنا من التلاعب بالوقت من خلال أن نكون راصدًا أو مراقبًا لحياة شخص حدثت في زمن غير زماننا، ليس هذا وحسب بل نستطيع تسريع الوقت من خلال قراءة الرواية في ساعة أو ساعتين أو قد تأخذ معنا أسبوعًا وقد نتركها في منتصفها وهكذا نجبر الوقت على التوقف.
تمنح الكتابة الزمن مخططًا وشكلًا، من خلال حياة الشخصية أو حتى ذلك الجزء من حياتها. وطوال قرون كان خط الزمن وبخاصة في الرواية كلاسيكيًا، بمعنى أن له اتجاهًا واحدًا، من الولادة إلى الموت، يبدأ الحدث وينتهي وفق التسلسل الزمني الذي يحدث في الواقع. في أوائل القرن العشرين، كان مارسيل بروست واحدًا من الكتّاب الحداثيين الذين بدأوا تجربة تشويه التسلسل الزمني في أدبهم. قبل أن يبدأ في رائعته "بحثًا عن الزمن المفقود"، كان يشعر أن الوقت ضاع والجمال والمعنى تلاشى من كل ما سعى إليه وفاز به، إلى أن عاش لحظة من اللاوعي أيقظت داخله إدراكًا جديدًا للوقت، تلك اللحظة حين تذوّق طعمًا أعادته مباشرة إلى طفولته حين كان يغمس فيها كعكة "كوكيز" داخل الشاي، في تلك اللحظة أدرك بروست أن كل الجمال الذي اختبره في الماضي لا يزال حيًا إلى الأبد ولم يندثر كما اعتقد، أدرك أنه يستطيع استعادة الوقت من خلال إعادة كتابة تلك اللحظة.
يقول الكاتب والفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون إن بروست يبرز بذكاء الطريقة التي يمكن أن تظهر فجأة أمامنا لمحة من ماضينا، حفنة من الذاكرة، عندما نشم رائحة مرتبطة بماضينا أو نتذوق طعما كنا قد جربناه في طفولتنا المبكرة. "يمكن لهذه اللحظات الضالة الصغيرة أن تعيد إلينا فجأة فترة من حياتنا كنا نظن أنها ضاعت إلى الأبد"، هذه اللمحة هي جزء من الزمن، عاد بشكل ما، رائحة، طعم أو ملمس.
مع أوائل القرن العشرين وما بعد الحرب العالمية الثانية، ذهب الكتاب إلى التشويه الزمني والتلاعب به كفرجينيا وولف، وجيمس جويس، وويليام فولكنر، وفرانز كافكا، وصمويل بيكيت، وبات الوقت المشوّه أو غير المنتظم ميدانًا جديدًا للكتابة.
تمنحنا الكتابة شعورًا مختلفًا ومتفاوتًا في الوقت، وقد اختلف تناول مفهوم الزمن من كاتب لآخر ومن عصر لآخر، على سبيل المثال في رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، تتلاحق الأجيال واحدًا تلو الآخر، دون أن تخلق شعورًا حقيقيًا بالوقت، يحيا جيلٌ ويموت آخر ويبقى الوقت أقرب إلى الهلامي، لا تتعرف إليه، فهو سريع يسحب خيطًا طويلًا من الحيوات خلفه. اللعب بالزمن يعكس من جهة أخرى لعبة الوقت الكبيرة التي ربما لم نكتشفها كلها، في فيلم "الحالة المحيرة لبنجامن بتن"، وهو فيلم أميركي مستوحى من القصة القصيرة للكاتب الأميركي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد والتي يحمل الفيلم عنوانها، يولد بنجامين عجوزًا، وعلى عكس البشر كلما تقدم بالزمن كلما غدا شابًا إذ يعيش الحالة المعكوسة للبشر حتى يتحول إلى رضيع ويموت، يعكس فيلم "الحالة الغريبة" حالة لا نراها، وهي أننا بالفعل كبار في العمر في زمن ما أو حتى أطفالٌ في زمن آخر، حالة قد تكون موجودة بالفعل كما افترض أينشتاين.
يذهب علم الكونيات البوذي والهندوسي القديم إلى مكان آخر، مختلف، إذ يصنع من ضخامة الزمن هدفًا، فيتمُّ وصف الكون بحجم وتنوع ومدّة لانهائية تقريبًا، عن طريق "الكالبا" وهي فترات طويلة من الزمن في علم الكونيات الهندوسية والبوذية، بشكل عام بين خلق وإعادة تكوين عالم أو كون، ويتجاوز "الكالب العادي" حجمه الضخم: 16.000.000 سنة، غالبًا ما يتم استحضار الكالبا على أنها تشجيع للممارسة الروحية، لتذكيرنا بمدى ندرة أن تولد بشريًا وأن تسمع التعاليم البوذية.
حكاية الوقت موجودة في كل الأزمان حتى الكتاب المقدس يحتوي على العديد من الإشارات إلى الزمن وآثاره، ففي سفر الجامعة يقول الملك سليمان: "لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ، لكل شيء زمان... للبكاء وقت وللضحك وقت... للمعانقة وقت وللانفصال وقت". حتى في هذه الأسطر يخيل لنا أن وقت البكاء محدد ووقت فعل الأشياء موجود بالفعل.
هوس الوقت مرّ على جميع الكتاب إذ كانت معضلة فهم الوقت وهزيمته هاجسًا، ولا تحدث هزيمة الزمن إلا بالخلود. في ملحمة جلجامش، واحدة من أقدم الأعمال الأدبية، وهي قصة رجل يبحث عن الخلود أو الحياة الأبدية، يحاول البشر السيطرة على الزمن والسيطرة عليه تعني البقاء الدائم، الأبدية، اللانهاية، إذ أن الوقت يميز ببدايته ونهايته، فماذا لو لم يستطع الزمن تحديد نهايتنا؟ من جهة أخرى هنالك كتابات أخرى عرّفت الزمن بطريقة معكوسة تمامًا، يقول الشاعر البنغالي طاغور: "الفراشة لا تحسب شهورًا بل لحظات، ولديها وقت كافٍ". بحسب طاغور وقت الفراشة قصير على الأرض إلا أنه كافٍ، على عكس فكرة ملحمة جلجامش، ما يدفعنا للتساؤل هل سيكون الخلود ممتعًا حقا أم أن الفراشة تختبر متعة مكثفة أكثر في لحظات قصيرة للغاية؟