في درنة شرقي ليبيا ينتصب مبنى فريد في معماره، شُيد في العهد الإيطالي وتحديدا في 1920 ليكون مقرا للحاكم الإيطالي، واكتسب "قصر الزهور" رمزية خاصة لدى سكان المنطقة، فقد خُصص بعد الاستقلال ضمن القصور الملكية، ليشهد سنة 1956 افتتاح الدورة البرلمانية الثانية، وبعد 8 سنوات وبمبادرة ملكية مُنح إلى مديرية التعليم في درنة.
تماما مثلما خُصِص قبله مبنى "قصر المنار" في بنغازي شرقي البلاد ليكون نواة الجامعة الليبية، في زمن كان فيه مؤسس ليبيا الحديثة -الملك إدريس السنوسي- "زاهدا في القصور وبهرجها، متخذا من استراحات صغيرة بمساحة أكشاك السجائر مصلى له على الطرق بين المدن"، كما يروي عبد الفتاح بوحورة، صاحب كتاب حكايات المدينة القديمة والمعاصر للعهد الملكي.
الانقلاب الثقافي
ويضيف بوحورة المهتم بتاريخ درنة أن "المبنى ذا الرمزية التاريخية ظل خاضعا لإدارة التعليم بالمنطقة منذ ذلك الوقت وحتى انقلاب سبتمبر/أيلول 1969، عندها سلم لما كان يعرف بالقيادة الشعبية حتى أهمل تماما وعلاه الغبار، إلى أن قامت ثورة 17 فبراير/شباط 2011".
ويروي بوحورة للجزيرة نت عن زحف جموع الثائرين على المبنى الذي اعتبروه رمزا لنظام القذافي في المدينة، مما تسبب بأضرار للمبنى التاريخي بشكل كبير، ثم سيطر عليه أحد المسلحين لاحقا واتخذ منه سكنا خاصا لعائلته.
ولكن أهالي درنة كما يستذكر بوحورة وفي أحد أيام الجمعة وبعد الصلاة مباشرة "قرروا الزحف على المبنى وإخراج مغتصبيه وتسليمه للمجلس المحلي بالمدينة، مطالبين باستغلاله بما يعود بالنفع على الجميع، وبشكل يحافظ على رمزية المبنى ومعماره الفريد".
وأضاف بوحورة أن المجلس المحلي -الذي كان عضوا فيه- تلقى طلبا كتابيا بتحويل مبنى "قصر الزهور" إلى مكتبة تحمل اسم الملك إدريس، ليصدر قرار بتخصيص المبنى وتشكيل لجنة تأسيسية تطوعية له.
اللجنة التي ترأسها المؤرخ المختص في تاريخ العائلة السنوسية يوسف عبد الهادي والمدعومة بالمبادرات الخيرية لم تكد تباشر أعمال الصيانة والتجهيز حتى توقفت جهودها لمدة قاربت 6 سنوات، بفعل الظروف الأمنية التي عانتها المدينة كما يؤكد عبد الهادي للجزيرة نت.
وأضاف أن المجلس المحلي تغير بعد الانتخابات وأوقف خَلَفه تمويل المشروع بعد صرف 10% فقط من الميزانية المخصصة، والتي كانت تبلغ 490 ألف دينار ليبي (100 ألف دولار).
مكتبة برتبة جامعة
وعن سر التسمية يوضح عبد الهادي "هذا المبنى استقبل الأمير إدريس السنوسي في أول زيارة لدرنة سنة 1944 حين كان يتبع الإدارة البريطانية، وحين خصص للملك بعد الاستقلال تبرع به لتطوير التعليم في المدينة وجعله مكتبة تابعة للقطاع، وهذا أقل واجب تجاه مؤسس ليبيا وأحد أهم رموزها التاريخية".
المكتبة "الملكية"
المكتبة القصر توثق في مضمونها وشكلها شيئا من تاريخ ليبيا زمن الاحتلال الإيطالي وفي حقبة الملكية ثم الانقلاب فالثورة، فهي تاريخ حي في باطنها وظاهرها.
ويقول "راعينا خصوصية المبنى معماريا أثناء أعمال الصيانة والترميم، وحرصنا على أن تتخذ الملحقات الجديدة الطابع المعماري ذاته وحافظنا على الحديقة التي تعد الأخيرة في المدينة بعد أعمال التخريب والتجريف، التي شهدتها درنة خلال السنوات الماضية"، فحتى القبة التي أضيفت للقصر صنعت من الألومنيوم لتعطي انطباعا بأنها طارئة ولا تعد تشويها للمبنى الأصلي.
يصف الأديب الليبي المكي المستجير المكتبة بالمولود الذي وُلِد كبيرا، مبديا تفاؤله بـ"إعادة الإعمار الثقافي في مدينة درنة".
وإذ يجد البعض صعوبة في تصور خلو مدينة -مثل درنة- من أي مكتبة عامة، يقول المستجير "يعلم المهتمون أهمية المكتبات العامة في نشر الوعي والتنمية الثقافية، والتشجيع على القراءة، وإتاحة المراجع المتنوعة ورقيا وإلكترونيا، واحتضان الأنشطة، وتقديم الخدمات لفئات المجتمع كافة، وعلى السواء، وذلك من خلال مكتبة ورقية، وأخرى إلكترونية لتعويض صغر المبنى وندرة المصادر في بعض الموضوعات".
تفاعل "غير متوقع"
المستجير، وهو أحد الفاعلين في هذا المشروع، يؤكد للجزيرة نت أنه "رغم عدم افتتاح المكتبة رسميا، وعدم الانتهاء من تهيئتها كليا، فإن تفاعلها مع محيطها ابتدأ منذ اللحظة الأولى لإنشائها، فهي تستقبل الزوار والمهتمين والرحلات المدرسية، وتحتضن النشاطات الأدبية والثقافية والعلمية".
الأمر الذي يؤكده البروفسور نجيب الحصادي في حديثه للجزيرة نت، ويقول "شاركت بالحضور في مؤتمر المكتبة العلمي الأول، حول الكتابة التاريخية في العهد السابق، وقد لاحظت ضعف معظم الورقات المقدمة. غير أن الحال تغير كثيرا في مؤتمرها الثاني، حول المنظومة القيمية المحلية، حيث أعجبت بما لا يقل عن نصف الورقات المقدمة".
وإضافة إلى الأمسيات الشعرية التي تفاعل معها الحاضرون، لا يخفي الحصادي إعجابه بالشباب الذين كانوا يشرفون على الأمور اللوجستية، ويضيف "يبقى أن أقول إن وجود مؤسسة ثقافية على شاكلة مكتبة الملك إدريس الأول في مدينة درنة مهم لأسباب كثيرة، أبرزها في تقديري هو إيقاد جذوة التنافس الشريف مع مؤسسة ثقافية أخرى، وأعني جمعية بيت درنة الثقافي، خصوصا أن هناك تعاونا وتكاملا من شأنهما أن يثريا الرصيد الثقافي في البلاد".