تخطي إلى المحتوى
موجة رومانسية تشكل خمس الإنتاج العالمي من الكتب الأدبيّة سنوياً... احتلت القوائم الأكثر مبيعاً حسب معطيات معرض لندن موجة رومانسية تشكل خمس الإنتاج العالمي من الكتب الأدبيّة سنوياً... احتلت القوائم الأكثر مبيعاً حسب معطيات معرض لندن > موجة رومانسية تشكل خمس الإنتاج العالمي من الكتب الأدبيّة سنوياً... احتلت القوائم الأكثر مبيعاً حسب معطيات معرض لندن

موجة رومانسية تشكل خمس الإنتاج العالمي من الكتب الأدبيّة سنوياً... احتلت القوائم الأكثر مبيعاً حسب معطيات معرض لندن

مع تكرّس هيمنة البرجوازيّات على عالم الغرب في القرن التاسع عشر أصبحت الرّواية أهم الأشكال الأدبيّة وأكثرها انتشاراً وأقدرها على التعبير عن مجمل تجارب وتطلعات وخبرات ونوستالجيات الطّبقة الصاعدة. وقتها طغت كتابات الروائيين الرومانسيين الأوائل على هذا النوع الأدبي الجديد، وشهدت فترة الخمسين عاماً ما بين 1775 و1825 ظهور عدد كبير من التجارب التي لقيت رواجاً كبيراً بمقاييس تلك الأيّام - لا سيّما في فرنسا - وأصبحت تعدّ اليوم الأعمال المؤسسة للرواية الرومانسيّة مثل (بول وفيرجيني - 1789) لبرناردين دي سان بيير، و(آتالا – 1801) لشاتوبريان، و(كورين 1807) لمدام دوستايل وأيضاً (أدولف 1816) لبنجامان كونستان، وغيرها.
ويقول مؤرخو الأدب إن تلك الأعمال قدمّت للطبقة البرجوازية المتعلمة، التي تمتعت بفضل ثرواتها المستجدة بأوقات فراغ مديدة، متعة عيش بطولات وأجواء غراميّة خيالية أخذتهم من فروسيّات العصور الوسطى إلى واقعيات راهن أيّامهم، ومن استكشاف أغوار النفس البشرية وأقدارها في الحبّ إلى قراءة الرموز والدوافع الاجتماعيّة وراء العلاقات الغراميّة، وساعدتهم على إعادة اكتشاف ذواتهم بعدما تراجعت مساهمة الكنيسة والدّين في تفسير علاقتهم بالعالم.
وإذا كانت الرومانسيّات تراجعت تالياً وأفسحت المجال لصعود أنواع أدبيّة أخرى في فضاء الرواية، فإنّ بريقها لم يخب بالكليّة، واستمرت دائماً، وحتى وقتنا الحاليّ، مساحة أساسيّة من مجمل الإنتاج المطبوع للعالم.
وعلى الرّغم من أنّ النّقاد الأدبيين قد لا يعترفون بقيمة معظم الأعمال الرومانسيّة ويصنفونها ضمن الأدب التجاري أو الكتابة الشعبيّة، فإن حجم الصّناعة يتجاوز الآن ملياري دولار أميركي في مجال الكتب - مطبوعة وإلكترونيّة ومسموعة – أي نحو خمس كل إنتاج الكتب الأدبيّة العالمي سنوياً، وتُنشر شهرياً آلاف العناوين التي يترجم العديد منها سريعاً إلى معظم لغات العالم الرئيسيّة، ناهيك بالطّبع من عدّة مليارات أخرى في سوق إنتاج الرّومانسيات على الشّاشات، سينمائيّة وتلفزيونيّة. وهناك ملايين القراء الشّرهين الذين يشترون كتابا تلو الآخر في هذه الفئة أساساً، ويتابعون الإصدارات الجديدة باهتمام، وهم بالمناسبة ليسوا جميعاً من النساء، إذ إن 18 في المائة من قرّاء روايات الغرام هم في الحقيقة – وفق دراسات واستطلاعات شركات التسويق المتخصصة - من الذّكور.
لكّن المراقبين الذين تابعوا فعاليّات معرض لندن للكتاب في نسخته الأخيرة (18 - 20 أبريل «نيسان» الماضي) - الذي يعد أهم تظاهرة على الإطلاق لصناعة الكتاب في هذه الجهة من الأطلسي - أشاروا إلى تكرّس اتجاه متعاظم لسيطرة الرومانسيّات على قوائم الأكثر مبيعاً لدى متاجر الكتب. وقدّمت شركة نيلسون لدراسات التسويق لجمهور المعرض أرقاماً من أسواق العالم الرئيسيّة للكتاب تظهر تقدّم قصص الحب والغرام على أنواع الرواية الأخرى بمجموع المبيع من النسخ، وأظهرت تصدر رواية (It Ends with Us) للأميركيّة كولين هوفرز القوائم منذ 2016 وإلى 2022 لدى ثلاثة آلاف من تجار الكتب في بريطانيا وأستراليا والبرازيل ونيوزيلندا وآيرلندا وجنوب أفريقيا وغيرها من الأسواق التي تتابعها الشركة، هذا بالطبع سوى مبيعاتها المليونيّة في الولايات المتحدة، لتزيح بذلك ثلاثية (Fifty Shades of Grey) للكاتبة البريطانية إريكا ميتشيل (التي تكتب باسمها الأدبي إي. إل. جيمس) من هذا الموقع الذي تمسكت به منذ صدور جزئها الأوّل عام 2011. وقد تجاوزت مبيعات أربعة من أعمال هوفرز حاجز المليون نسخة، بما فيها رواية (It Ends with Us) التي باعت إلى اليوم وحدها أكثر من عشرين مليون نسخة.
واللّافت كما يقول الخبراء أنّ هذه الموجة الشاهقة من التعطش للحب والعواطف الفائرة والنهايات السعيدة لا تقتصر على دنيا الكتاب، لكنّها ملحوظة أيضاً في النتاجات البصريّة. وبحسب أرقام مواقع متخصصة فإن ما لا يقل عن 36 فيلماً سينمائياً رومانسياً جديداً سيطلق هذا العام، سوى مجموعات كاملة من المسلسلات والقصص الرومانسيّة المبرمجة للعرض على منصات البث عبر الإنترنت (نيتفليكس وأخواتها).
فمن هذا الجمهور الذي يشتري هذه الكتب ويتابع هذه الأعمال؟ وما سرّ هذا الإقبال المتفجّر عليها خلال السنوات القليلة الماضية؟
يقول الخبراء إن قرّاء الرومانسيات ينتمون غالباً إلى المجموعة العمريّة (من 30 – 54 عاماً)، وهم بشكل عام متعلمون تعليماً جامعياً، ويتمتعون بدخل يضعهم ضمن الجزء العلوي من الطبقة الوسطى، وستون في المائة منهم مرتبطون بعلاقات دائمة – زوجيّة، أو ما يماثلها -، ويقرأون أكثر بعشر مرّات من معدل عدد الكتب التي يقرأها الفرد (في الولايات المتحدة مثلاً)، ويحمل ثلثهم في حقائبهم الشخصية رواية رومانسيّة يرجعون إليها كلّما تسنى لهم الوقت، ومعظمهم ينهي النصّ الذي في يديه خلال سبعة أيّام كمعدل.
وبالتأكيد، فإن ثمة غايات متفاوتة يحققها هؤلاء الأشخاص من متابعتهم للأعمال الرومانسيّة. فالرّجال مثلاً يشيرون إلى أنّها تساعدهم على استعادة مزاج العواطف الغراميّة بعيداً عن أجواء الابتذال التي تسود الثقافة المعاصرة وترّوج للتّطرفات والجنس والعلاقات غير السويّة. أمّا النساء – وهن الأغلبية الساحقة من مستهلكي الكتاب الرومانسي – فقد عبّرن عن أسباب عديدة، مثل الحاجة إلى جرعة من الهدوء والعواطف في مواجهة سيل الأخبار السيئة التي تتدفق من دون توقف عبر الشاشات والصحف والهواتف الذكيّة، لا سيما أن القارئة تضمن أنّها في نهاية الرواية ستجد نهاية سعيدة – ورغم أن بعض الكتب الرومانسيّة تصف حكايات أكثر قتامة مثل سوء المعاملة أو الصدمات العاطفيّة لكن تجنبها سهل في زمن الإنترنت -، أو فرصة للهروب من العالم الحقيقي والانغماس في عالم شخص آخر، واختبار مشاعره وعواطفه دون شعور بالذنب أو التناقض مع الحياة الواقعية أو الأدوار الاجتماعيّة المتعددة التي تلعبها بصفتها زوجة وأما وموظفة وابنة وشقيقة وصديقة. وبالطبع، فإن الخيال الرومانسي يتيح لنا الهرب إلى زمن آخر، أول بلد مختلف، أو حتى تجربة مشاعر الحب الجياشة في عمر غير عمرنا، وربما في ظرف اجتماعي أو وظيفة لم نختبرها من قبل، ما يتّفق علماء النفس على أنّه يساعد على تحسن الصحة العقليّة عموماً، ويمكن أن يعيد الحيوية حتى لعلاقاتنا القائمة.
ولكن هذه الأسباب التي تدفع البعض لقراءة الرومانسيّات على وجاهتها تظل في النهاية مسائل شخصيّة مرتبطة بتجربة الفرد ذاته وعلاقاته وتجاربه الإنسانيّة المختلفة، ولا تفسّر لنا بالضرورة تلك العودة المحمومة لهذا النوع الروائي ليوسع قاعدته بهذا الشكل الذي شهدناه، واكتساحه الأنواع الأخرى. على أن تأمّل أمور عالمنا في العقد الأخير قد يجعل من الإقبال على قصص الحب الخيالية أمراً مفهوماً وغير مفاجئ. لقد أصبحت أحوال الجيل الحالي من أبناء الطبقات الوسطى في المجتمعات الغربيّة أكثر كآبة بعد أن تكالبت عليهم عدّة مصائب متلاحقة لا تجتمع عادة جميعاً في جيل واحد: الأزمة المالية العالميّة في 2008 وما ترتبت عليها من بطالة وإفلاس وسياسات تقشف حكوميّ، قبل أن تلحق بها تهديدات المناخ، وكوابيس وباء كوفيد - 19، وأزمات اللجوء، ثمّ حرب أوكرانيا، والصراع الروسي – الأميركي هناك، وأزمة التضخم المفرط التي نتجت عنهما، وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشة وانقطاعات الطاقة، وأيضاً الاستقطابات الثقافيّة الحادة بين مكونات المجتمع الواحد.
ويبدو أن الفن الأدبي يميل في النهاية إلى معارضة الأوضاع القائمة والسعي إلى توفير ملجأ للهروب منها، كما لو كان أفيوناً للشعوب - وفق توصيف كارل ماركس لحاجة الفقراء والمهمشين إلى السلوى في مواجهة شظف العيش - وهكذا عندما تكون أمور العالم مستقرّة ومتفائلة، فإننا نذهب في التعبير الأدبي نحو الديستوبيا القاتمة، وعندما نغرق في القنوط والظلمات، نفرّ إلى حيث الحبّ المتخيّل، والفرح الموعود، والنهايات السعيدة. وإذا كان هذا التقييم صحيحاً، فإن تعاطينا الزائد للرومانسية خلال الأعوام الأخيرة دلالة يأس، وعلامة خلل في هذا العالم.

المصدر: 
الشرق الأوسط