النقد رفيق الإبداع وحارسه. يمشيان معاً في خطين متوازيين. ويتغذّى أحدهما من الآخر.مع ذلك، ظلّت هذه العلاقة شائكة، وغالباً ما تحوم حولها إشكاليات متعددة. فإذا كان الإبداع هو تعبير مباشر بين المبدع والمُتلقّي، تبقى التساؤلات حول النقد هي أكبر وأعقد، خصوصاً حول دور الناقد باعتباره وسيطاً بين المبدع وجمهوره.
انشغل الباحثون بإشكالية النقد كثيراً، وثمة إجماع على أنّ النقد يحتل موقعاً بارزاً ومتقدّماً في الحركات الثقافية الحديثة، حتى مُنح الناقد سلطةً معرفيةً لا التباس فيها.لكنّ مستجدات الزمن الراهن غيّرت كثيراً في مسار الإبداع والنقد على حدّ سواء. كتب الباحث البريطاني رونان ماكدونالد "موت الناقد"، ليقول إنّ الناقد خلال السنوات الأخيرة خسر مكانته ومكاسبه. ولعلّ دور الناقد هو الاكثر تأثراً، بعدما منحت وسائل التواصل أي صحافي أو أي "متابع" سلطة النقد، فصار ممكناً كتابة أي منشور أو رأي على أساس أنّه "نقدي". أعداد المتابعين صارت بإمكانها اليوم رفع شأن هذا الكاتب او هذه الفنانة او ذاك الرسام، من دون وجود أي معايير نقدية، منهجية واضحة، ومفهومة.هذه الفوضى قلّصت ربما مساحة النقاد الحقيقيين وأفرزت في معظم الأحيان مجرد آراء ومقالات نقدية مكتوبة على عجل، أو مبينة على حسابات شخصية او دعائية.
فهل مواقع التواصل الاجتماعي أثّرت فعلاً على النقد؟ هل ممكن الإعلان عن "موت الناقد" في ظلّ ولادة "مسوخ" يعتبرون أنفسهم "نقّاداً"؟ أم أنّ النقد، على عكس ذلك، استفاد من "السوشيل ميديا" ومنح حق التعبير للجميع، بعدما كانت السلطة الثقافية محصورة بفئات معينة أوجدت نوعاً من "الشللية" المضرّة بالحالة الثقافية عامة؟
صعب أن تحوط بكل جوانب هذه المسألة الإشكالية، ولكن توجّهنا بالسؤال الى ثلاثة من النقّاد الأكاديميين المعروفين، لنفهم منهم رأيهم حول دور النقد في زمن التحولات والتطورات التكنولوجية…
أحمد المديني: كاتب وناقد مغربي
لمعالجة هذا الموضوع، نحتاج إلى استaرجاع تعريفات أولية لمعناه، ووظيفته، ومجاله، واستقباله. النقد الأدبي يختص بالنص المحدّد والمتعيّن بخصائص أدبية، من لغة وأسلوب وبناء. أي أنّه نظام، يقابله ويحاوره نظام نظري، اصطلاحي ومنهجي وذوقي، أيضًا، من جنسه.
وظيفة النقد الأولى تمييز الجيد من الرديء والصحيح من الزائف، وفق قواعد معينة، بفهمٍ ووعيٍ وفحصٍ للنص لا لمؤلفه. إذا لم يتقيّد بقاعدة، ومعيار، ومنهج، ولم يُقرأ النص ـ الأدب بوصفه عملية تحويل (كيميائية) للواقع، للحياة، للإنسان، ونقلها عبر الذات وبواسطة اللغة وبلاغة التعبير، إلى صعيد مختلف للوجود، تصنع الإبدال الذي يلبّي حاجة الإنسان (القارئ)، واكتفى بقول (يعجبني )؛ (لا يعجبني) ومثلهما مفردات وصياغات على سطح النص وبنت المزاج ونتاج ذائقة غير مدربة، فهذا تعليق أو (نقد) انطباعي.
لا يجوز، حسب هذه المحدّدات، الخلط بين طريقتين: واحدة عالمة، منهجية ونسقية؛ وثانية اعتباطية، متفاوتة، عامة، منها الرأي الشخصي، وسُمّيت خطأً التعليق الصحفي، وهي غير التعريف بالعمل نفسه في أعمدة الصحف.
من هنا، لا علاقة للنقد الأدبي بمفهومه ومعناه النظري والأداتي والتحليلي، بالانطباعات والتعليقات العامة في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن قبيله (اللايكات) والمحاباة والتلميعات المتبادلة، بالنقد.
لا بأس أن نستحضر في هذا السياق رأي السميائي والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932-2016) عن التحريف والشطط الذي تسبّبت فيه هذه الوسائل، بقول حظي بالإجماع من أنّها أصبحت: "تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فورًا. أما الآن، فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنّه غزو البلهاء".
بسبب هذه الغزوة، ولتقلّص المنابر والمجلات المختصة، لا يُخفى تراجع ملحوظ للنقد المختص والجدي، وطغيان التعليق العام بلا حساب ولا حسيب، بالضبط، مثل طغيان بل تفشّي روايات ونصوص عصية على التصنيف، خواطر عائمة وكلمات مبعثرة باسم الشعر و(حدّوتات) تنتحل الرواية، وتركب أي موجة ثم تتبخّر زبدًا. ومن حسن حظ الأدب والإنسانية، أنّ مصيرهما ليس بيد الحمقى والبلهاء وحدهم، إذ يوجد دائمًا العقلاء والكابحون للجامحين، يُعرفون بالفرنسية les gardes fous، يوجد الدارسون والأساتذة، يوجد النقاد المؤمنون بضرورة الأدب وقوته، يعرفون كيف يجلّون النصوص المنيعة، وإعلاء وتحصين تعبير ونظام الجمال، ويحرصون على نخل الحب من الزّؤان.
النقد بعد هذا وذاك باقٍ بناس من هذا العيار، وما بقي الأدب، وكلاهما إبداع وصنع نخبة لا العامة بلا جدال، يحتاجان إلـى موهبة وثقافة وتجربة، لا هراء. وإلّا، هل العالم قابل للعيش من دون الأدب، الإبداع، الفن؟ سيكون قفراً، ومن دون النقد سيُمسي فوضى، لأنّ النقد الحقيقي، العارف والمحنّك، يمنع هجوم الدمامة والتشوهات على وجه الأدب، ويضع الحدود بين الفوضـى والنظام، الخلل والتناغم، القبح والجمال.
سلمان زين الدين: شاعر وناقد لبناني
في الأصل، النقد سلطة معرفية، تقتصر ممارستها على من أُوتي أدوات الممارسة، من معرفةٍ بأدبيّات النص، وإلمامٍ بمناهج النقد، وقدرةٍ على التفكيك والتركيب، وغوصٍ على الأعماق، وقبضٍ على روح المعنى، والخروج بالقيمة الأدبية، فيما يتعدّى الحرف.
ولمّا كان امتلاك هذه الأدوات وقفًا على القلّة القليلة من محترفي القراءة، بقي النقد حكرًا على النخبة، وقلّما تجرّأ أحدٌ، ممن لا يمتلكونها، على خوض هذا الغمار، حتى إذا ما فعل، سرعان ما يسقط في فخّ تجرُّؤه، وتنكشف هشاشة بضاعته. ولعلّ هذا ما يفسّر قلّة النقاد في مقابل كثرة الذين أدركتهم حرفة الكتابة.
أمّا اليوم، وفي ظلّ "السوشيل ميديا"، فقد أصبح الجميع "كتّابًا" و"نقّادًا" في الوقت نفسه، وتمّ كسر احتكار السلطة المعرفية، وتحوّلت ممارستها إلى مشاعيّة نقدية، لا يتورّع عن خوض غمارها، الصغير والكبير، والجاهل والعالم، على حدٍّ سواء، بمعزلٍ عن الأدوات اللازمة لممارسة هذه السلطة، فاختلط الغثُّ بالسمين، ودخلنا في برج بابل نقدي ما أنزل الله به من سلطان.
وغدت القيمة ترتبط بعدد "اللايكات" التي يحصدها النص، بغضّ النظر عن عمقه أو ضحالته، وأصبحت كثرة المتابعين على "السوشيل ميديا" معيارًا لأهمّية المُتابَع. وإذا بنا إزاء حملة نفاق كبيرة، يتمّ فيها تبادل الإطراء والمديح، على نحو واسع، ما أحدث انقلابًا في ميزان القيم النقدية. ويعزّز هذه الحالة البرجبابلية استنكاف كثيرٍ من القادرين عن ممارسة النقد، وتخلّيهم عن أدوارهم، ما يجعل الساحة خالية للمنافقين ومحترفي العلاقات العامة وطلاّب الشهرة الخاوية.
غير أنّه، وعلى الرّغم من الأضرار المترتّبة على مشاعيّة "السوشيل ميديا"، فإنّي أميل إلى الاعتقاد أنّها مرحلة عابرة، ستنتهي عاجلًا أم آجلًا، وسيأتي يوم تعود فيه سلطة النقد الأدبي إلى أصحابها الشرعيّين، ممّن يمتلكون المعرفة والمنهجية، ويعود فيه المتطاولون إلى أحجامهم الحقيقية، وفقًا للمعادلة الإلهية/الطبيعية: "فأمّا الزبد فيذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". وإنّ غدًا لناظره قريب.
يسري عبدالله: أكاديمي وناقد مصري
ثمة لحظة تتسمّ بسيولة لا نهائية، ابنة الآن وهنا، تلعب فيها الوسائط التكنولوجية الجديدة دوراً مركزياً، حيث تعددت منافذ التلقّي، والإنتاج المعرفي في الآن نفسه، واتسعت.
والخطاب النقدي ليس كتلة واحدة، وإنما توجد ثمة مستويات مختلفة داخله، تبدأ من المستوى الكلاسيكي المتصل بتمييز الجيد من الرديء، وتمتد لتشمل الكشف عن جماليات النص الأدبي، ثم يتسع الخطاب النقدي ليصبح إبداعاً موازياً للنص، وصولاً إلى أن يصبح النقد رؤية منهجية للعالم.
ثمة فروق جوهرية بين الآراء الانطباعية التي تزخر بها عوالم "السوشيل ميديا"، والنقد المنهجي الذي يتماس مع كونه رؤية للعالم تلامس العصب العاري للنص، وتفكّك بنياته، وتعيد تركيبها وفق تصورات جمالية ورؤيوية موضوعية، ويقدّم اقتراحات جمالية ناتجة من خبرة التفاعل الخلاّق مع النصوص الأدبية في تحولاتها المتعددة، ومعرفة علمية عميقة بالنظرية النقدية، وتحولاتها، والطروحات المتجددة داخلها، منطلقاً من داخل النص ذاته، ومدركاً أنّ النص يطرح آليات التفاعل النقدي معه، تبعاً لمنطقه الجمالي الخاص.
ويمكن أن تلعب "السوشيل ميديا" دوراً في توسيع حيّز التلقّي للخطاب النقدي الحقيقي، الذي يتعامل معها في هذه الحالة بوصفها وسيطاً فاعلاً في النفاذ إلى جمهرة أوسع من المتلقّين، ومن ثم فهو لا يتعالى عليها، وإنما يوظفها في مساراته الموضوعية.
ويعزز خطاب النقد المنهجي من فكرة العقل النقدي المتكئ على المساءلة، والمراجعة النقدية المستمرة، وهذا ما يتسق مع فكرة العالم النسبي المتغيّر الذي نحياه، فالخطاب النقدي يحرّر التلقّي من النظرة الأحادية للعالم، والواقع، والأشياء، ومن ثم فهو يتفاعل مع الوسائط الجديدة، ليس بوصفها غاية في حدّ ذاتها، ولكن باعتبارها وسيلة ناجعة للوصول إلى قطاعات أوسع من الجمهور، أقرب إلى القارئ العام، وليس القارئ النوعي المتمرس،؛ ولذا تلعب لغة الخطاب النقدي دوراً مفصلياً في هذا المسار، حيث يجب أن تكون عميقة، ودالّة، وممتعة، وبحيث تتسمّ أيضاً بما يمكن أن نسمّيه البساطة الآسرة التي تخفي داخلها طبقات متعددة من المعنى.