رغم أن المرأة بهمومها وأوجاعها تشكل ملمحاً رئيسياً من ملامح العالم الروائي للكاتبة السعودية من أصل فلسطيني، هيلانة الشيخ، فإنها لم تزعم يوماً أنها أديبة «نسوية»؛ بل ترفض سعي بعض الأديبات لخلع صفة «الضحية» على تجاربهن من بوابة الأنوثة.
مؤخراً صدرت لها روايتها «بماذا أخبر الله» التي تنتصر فيها للمرأة «وسط عالم متوحش يموج بالقبح». وهي تصف نفسها بأنها «مجرد كائن يتنفس حروفاً، ويأكل حبراً، وينام متوسداً الورق».
هنا حوارنا معها على هامش زيارتها مؤخراً للقاهرة، حول روايتها الجديدة وهواجس الكتابة:
> في روايتك الأخيرة «بماذا أخبر الله» ترصدين معاناة كاتبة عربية في وسط أدبي متوحّش، قائم على معاداة المرأة أو استغلالها. إلى أي حد يعكس النص بعضاً من الخبرة الشخصية للمؤلفة؟
- هو انعكاسٌ عكسيٌّ، قياساً على تجربتي الشخصية، ومحاكاة كاملة لرؤى وتجارب كاتبات عرفتهن عبر الواقع. العداوات دعمت وجودي، وحفّزتني على مراقبة أخطائي وإصلاحها، وعدم تركها لمن يتصيّدون ويحفرون في الخفاء والعلن. الرجل أيضاً مُستغَل ومُستهدَف؛ لكن للأسف، أغلب النساء يحمّلن فشلهنّ على عاتق «الأنوثة»، بينما أعتبرها أعظم أسلحتي التي أتذرّع بها.
> تبدو اللغة موجعة وجارحة في هذا العمل، كما في تلك الجملة التي وردت على لسان الراوية: «اليد! رغم كثرة الأيادي التي حاولَتْ مراراً دفني حيّة، كان باستطاعتي قطعها، والخروج بيدٍ واحدة، ممتدّة لي وحدي!»؛ فمن أين تأتي كلّ هذه القسوة؟
- تأتي من القُبح الذي قتل جماليّات الحياة البدائية، من الصدق الذي نفتقده، حتّى بيننا وبين أنفسنا، من التجرّد عن تكلُّفات الحياة ومظاهرها، من التماهي مع الوجع المُعاش والمُتخَيّل. القسوة حصيلة ظلم تجرعته، فلفظتُه عبر كلماتٍ ترجُمُ كلّ ظالم، وإنْ كنتُ أحدَ الظالمين. كلّما احتدم في داخلي وجعٌ ما، ازدادت قسوتي، ورجحت على ضَعفي وليونة طبعي التي أكرهها أحياناً.
> جاءتك الرواية مكثفة للغاية، قصيرة نسبياً، هل كان الأمر مقصوداً؟
- لا، أبداً. لكنّي -دون قصد- لا أجيد الثرثرة، وأقتصّ الزيادات من كلّ شيء. المهم عندي هو أنه عندما نفقد صوت الحقيقة ووجه الحاضر، نعتكف في عزلة عن الواقع القبيح، نرفض الصمت وننغمس في الخيال، نتنفسه كبديلٍ للهواء المسمم الملوّث بدماء الأبرياء، أو دنسِ الجهل والظلم ومرارة الحرمان والفقر الذي تحول إلى كابوسٍ قاتل أو حلمٍ واهٍ.
هكذا نطلق العنان لأوجاعنا وذكرياتنا، حتى لا تتفشى كالأورامِ في دواخلنا وتقتلنا.
> في روايتك «امرأة أمسكت في ذات الفعل» وصف مكثف مشحون لفتيات من جنسيات عربية مختلفة، يقفن بمفردهن في وجه عواصف عاتية لعالم غير عادل. إلى أي حد امتزج الواقع بالخيال في هذا العمل؟
- الواقعُ محضُ خيالٍ يا صديقتي. كلُّ ما نعيشه اليوم عارٍ من الحقيقة المطلقة. لذا، أنسجُ خيالاً من خيوط الواقع. أتصيَّد حدثاً، وأبني عليه مجموعة من الوقائع. أقف دائماً على منطقية الفكرة، فلا أستهين بذكاء القارئ، حتّى يكاد يجزم بأنه حدثَ بالفعل.
> أليس غريباً أن جميع النماذج الذكورية في العمل جاءت تقريباً غير سوية ومشوّهة على المستوى النفسي؟
- لا. مثلاً: والد «هلا» رجل فقير يعتدّ برجولته وشرفه. وهذا بديهيٌّ، الزوج والأبناء لا يعانون من أي تشويه. وحدها «هلا» تعاني من تشوّهات، نتيجة انجرافها في رغباتها. الرجل ليس مُتّهما بالتشوّهات النفسية في أعمالي. وأضع المرأة في تهمة لا أعتبرها تشوهاً بقدر ما فيها من جماليات.
- حيرتُ من حولي. هذا الهدوء وتلك السكينة، اكتسبتهما عبر ممارسة الكتابة؛ أفرغت سوادي وحزني ووجعي عبر كلماتي، دون التجمّل. ضريبة الرّقة دفعتها على الورق. كلماتي امتداد للأنوثة التي طغت على كينونتي، فسلبتني كثيراً من الفرح الذي لا أجده إلا في نجاح عملٍ لي. ربما تجاهلي لـهيلانة خلقَ عالماً مغايراً، لا يشبهها، رغم الشبه المريب بيننا.
> هناك أيضاً نَفَس شعري في نصوصك، فما علاقتك بالشعر عموماً؟
- قال لي ذات مرّة، الشاعر الجميل فاروق جويدة: «اكتبي الشعر يا هيلانة. أنتِ شاعرة بالفطرة، وإن كسرتِ الوزن». فورّطني فيه. على الرغم من العداوة الشديدة بيني وبين الشعر، فإنه يغلبني مرّات، وأنتصر عليه مرّات أُخر. لستُ شاعرة، وإنْ أجدت كتابة بعض الأبيات. فهي نزوة عابرة، تنتهي لذّتها عند حضور السرد.
> كيف ترين ظاهرة الشعراء الذين تحوّلوا إلى كتابة الرواية؟
- الرواية امرأة فاتنة، تمارس غوايتها على كلّ كاتب. البعض يسقط أمامها ولا يعود، البعض يسقط وينهض، والبعض لا يسقط؛ لكن هؤلاء يحلمون بها. الرواية خلاصة الأجناس الأدبية، وإن كنتُ أعتبر الشعراء أعلى منزلة من الروائيين. فالشعر أوّل أبواب الجحيم وآخرها.
> تعرّفين نفسك بأنك «مجرد كائن يتنفس حروفاً، ويأكل حبراً، وينام متوسداً الورق»، فكيف بدأت علاقتك بالكتابة؟
- بدأت مُذْ باشرَتْ ملامح أنوثتي تتناثر على جسدي. فلسفة الجمال شغلتني. قرأت الشعر والقصص، استفزّني الأدب، كوحي لم أستطع مقاومته! قال لي: «اكتبي، فلن يفهمك غير الورق». علاقة عشقٍ تجسّدت على هيئة نصوص. الخاطرة تحوّلت رواية. وأنا أستمد هويتي من كلّ التفاصيل التي تخترق حواسي؛ كالرقص، والموسيقى، والرسم، والسباحة، والركض، والطبخ، والسفر، وأمومتي، وآدميّتي، حتّى الأعمال المنزليّة جزء من هويّتي كروائية وكاتبة.
> على ذكر الرسم، ما الذي تبقى من علاقتك به الآن بعد أن صاحبك في بداياتك الأولى؟
- شغفي بالرسم لن يغيب، هو أحد الروافد والنوافذ المهمة للسرد، ومقوم جمالي خاص.
> وصف بعض الإعلاميين والنقّاد كتاباتك بـ«المتمرّدة» و«الجريئة»، كيف تنظري إليه؟
- إن لم تكن الكتابة تمرداً وخروجاً عن المألوف، فلا حاجة لنا بها. الكتابة رجسٌ نحاول التخلّص منه، سخطٌ نحتجُّ به على الكون، ونجتاحه. قناعاتٌ نسطّرها، وإن تعصّى علينا فعلها، تنتهي كنصٍّ حبيس الورق.
> يبدو أن لك رأياً سلبياً في الجوائز الأدبية على الساحة العربية؟
- انتقدتُ فقط «البوكر». أنا قارئة جيّدة إلى حدّ ما. وما وصل في السنوات الثلاث الأخيرة إلى القائمة القصيرة، وصل عن استحقاق. لكن الفوز ليس عادلاً. عندما تفوز رواية هدى بركات «بريد الليل» على «النبيذة» لإنعام كجه جي، أو على كفى الزعبي، في عمل أقلّ منافسة، فلا بد أن نتساءل: لماذا؟ ما هي معايير هذا الفوز؟! وعندما تفوز رواية «دفاتر الورّاق» لجلال برجس على رواية عبد اللطيف عبد ربه الجزائري، فهذا ظلم ظاهر، لا يمكن تبريره بالذائقة أو الصمت عليه، ولا أريد الخوض أكثر.
> يتردد اسمك أكثر من مرة في عناوين مؤلفاتك، كما في «مقتطفات الهيلانة»، وهي نصوص نثرية، و«الهيلانة» وهو ديوان شعري، ألم تتخوفي من اتهامك بالنرجسية وتضخم الأنا؟
- لا أخاف الاتهامات، ولا أعيرها اهتماماً. قناعاتي ابنة فعلٍ ووثوق، لا تتأثّر بمَن حولي. داخل كلّ كاتب أو كاتبة نرجسية ما. من الغباء أن يتلذذ بها أحياناً، ويتنصّل منها أحياناً أخرى. نحن بشر نعشق الأنا، مهما تظاهرنا بعكس ذلك.