في الأيام الأخيرة من كل عام نبدأ بمراجعة ما عشناه من تجارب وأحداث وأفكار، وفي هذا السياق يبدو من المفيد الوقوف أحيانا على ما قرأناه، إذ يتيح لنا هذا الطقس معرفة إلى أين وصلنا؟ وما الجديد في الكتب التي اقتنيناها وقرأنا جزءا منها، على أمل قراءة الباقي في وقت لاحق، وقد لا يأتي في الغالب. كما أن النظر في علاقتنا بالكتب يقدم لنا فرصة إجراء مقارنة بين يوميات القراءة في العام المنتهي، مقارنة بالأعوام التي سبقته. ولأن تاريخ القراءة هو حصيلة مئات أو آلاف التواريخ الشخصية، يمكن القول، على صعيد كاتب هذا المقال، الذي اعتاد في السنوات الست الأخيرة على إعداد مادة أسبوعية، تتناول كتاباً جديدا في الغالب، أن تكون المقالة الأخيرة لهذا العام بمثابة فرصة للاطلاع على يومياته كقارئ (قبل أن يكون كاتبا) في عام 2021 وما الجديد فيها مقارنة بالسنوات السابقة.
في هذا السياق، تبدو لنا يوميات القراءة قد اختلفت على صعيد بعض المواضيع والأفكار عن السنوات السابقة، وإن بقيت ثيمة القصص والحكايا الأنثروبولوجية تحكمها في الغالب، لكن ذلك لم يمنع من ظهور مستجدات غير متوقعة على صعيد شراء الكتب وقراءتها في الفترة الماضية.
طقس تقليدي
في السنوات الأخيرة، حاولنا قراءة كل ما يكتب أو يترجم تقريباً حول الأنثروبولوجيا في العالم العربي، وكانت بدايات 2021 استمرارا لهذا الاهتمام، كما بدا من خلال قراءة كتابين، الأول للأنثروبولوجي الأمريكي ناداف سامين، الذي قدم مادة جديدة تمثلت بدراسة ظاهرة إرسال مئات الرسائل للعلامة السعودي حمد الجاسر، للسؤال عن النسب. وفي السياق ذاته، حمل كتاب» العشيرة والدولة في بلاد المسلمين» جديداً على صعيد اعادة قراءة دور القبيلة في هذا العالم، فخلافا لمن كان يرى أن القبيلة تصعد في ظل انهيار الدولة، دار تصوّر جل المشاركين حول أن عودتها في القرن العشرين هو وليد الدولة، ولذلك فهي لا تعد رديفا أو بديلاً عنها. وفي موازاة هذا الاهتمام ومع استمرار وباء كورونا، حاولنا استكمال قراءة السلسلة المهمة، التي أصدرها مشروع «كلمة للترجمة» حول تواريخ الأوبئة وكيف تعامل المؤرخون مع هذه الظاهرة، إذ يرى مثلا بول سلاك مؤرخ التاريخ الاجتماعي المبكر في أكسفورد في كتابه «الطاعون» أنه لا يمكن نفي دور الأوبئة في الأحداث الاجتماعية، لكن في المقابل وجد أن هناك بعض الحتميات في هذا الشأن، وأن قدوم الطاعون في أوروبا لم يكن السبب الوحيد في تطور بعض الأحداث، بل ربما سرّع في نشوء بعض التطورات، وهذا ما نراه فعلاً على مستوى كورونا، الذي سرّع ووسع من دور وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو سيناريو لم يكن يتوقعه أشد المتفائلين قبل عقد أو أكثر تقريبا.
رائحة الطعام وعالم بلا جهاديين
وعلى الرغم من أن القراءات في عالم الطعام لم تكن جديدة، لكنها حملت هذا العام رائحة مختلفة، فعالم الطعام لم يعد مجرد حامل للتغيرات والروائح الثقافية الجديدة، بل أصبح في بعض المدن التي هرب لها اللاجئون العرب (السوريون بالأخص) المكان الأغنى الذي يمكن من خلاله رصد هذه المجتمعات الوليدة حديثاً، كما غدت المطاعم هي القنوات الاجتماعية الأكثر فعالية للتعبير عن الهوية والثقافة والعلاقة بالآخر، وبدا أن ذاكرة الطعام توفر عشرات الحكايا والقصص عن ماضينا وواقعنا، في الوقت الذي غدت فيه الذاكرة الاجتماعية وحتى العائلية عصية على الفهم أو الجمع. ولذلك كان لا بد من الخوض في القراءات في هذا الجانب، خاصة مع انخراط كاتب هذا المقال في تجربة ميدانية صغيرة مع الأنثروبولوجي الفرنسي فرنك ميرميه حول الطعام السوري، والهوية في مدينة إسطنبول، وهنا تبدو يوميات أي قارئ هي عبارة عن تفاعل ومزيج مع الأحداث والقصص والأعمال، وقد ساقنا الغوص في التاريخ الثقافي واليومي للطعام إلى نصوص عديدة تعنى بهذا الشأن «في المطعم… حكايات في بطن الحداثة» للمؤرخ الألماني كريستوفر ربات، الذي كشف فيه كيف أن بدايات علماء وأدباء كبار من أمثال جورج أورويل وأرفينغ غوفمان، انطلقت من المطعم كمؤسسة ومختبر ميداني لفهم الواقع وتحولاته. وربما من القصص العجيبة التي سنكتشفها في هذا العالم، تلك التي تقول إن السياسي السوري البورجوازي فخري البارودي افتتح مطعما صغيرا في مدينة عمان خلال الأربعينيات، بسبب أوضاعه المادية الصعبة، لكن مصيره كان الفشل، وربما هذه القصة الحزينة للبارودي، فتحت مسارا موازيا للقراءة في كل ما كتب عن البارودي، لنصل إلى أحد الكتب الجديدة التي أعادت نشر رحلاته في أوروبا (والتي جاء على ذكرها في سيرته وفي أوراقه المنشورة من قبل دعد الحكيم بشكل مزاجي) لكن إخراج الكتاب ومقدمته وأسلوب تحقيقه، جعلتنا نحجم عن إكماله ونتحسر على سعر شرائه، وبالعودة لمسار الطعام، سنعثر في نهاية هذا العام على ما يشبع شغفنا، وهي سيرة بلقيس شرارة، التي تطرقت في بعض فصولها لتاريخ المذاق في العراق في النصف الثاني من القرن العشرين وربما قبل ذلك بقليل. اللافت أيضا في عالم القراءة لهذا العالم أنه بدا دون رائحة أو وجود للجهاديين، مقارنة بالفترة الممتدة بين 2015 ـ 2018 التي عرفت بفترة قراءة كتب الصداقة والجهاد والسوق الديني، وفق تعبير أوليفيه روا، وهو ما قد يعكس غياب النقاش حول هذا الجانب بعد سقوط «خلافة الموصل الأخيرة» التي فتحت أيضا بوابات السؤال عن ذاكرة ومستقبل المنطقة في ظل الدمار الذي عاشته وما تزال.
لم تخل قراءتنا في السابق من نصوص روائية، لكن الجديد لهذا العام شعورنا بأن الرواية السورية اليوم تبدو وكأنها تحمل إمكانيات أفضل وأكثر قدرة على التخيل لفهم ما جرى في البلاد، وربما هذا الشعور سيدفعنا إلى إعادة ترتيب أولويات القراءة، والمشتريات أيضاً.
نصوص محلية
ولعل الانكباب على تاريخ الطعام وتفاصيله، أعاد ترتيب الأولويات والخيارات بعد النصف الثاني من هذا العام، فبعد أن كان النص المترجم يحظى بالأولوية، بدا في يومياتنا للقراءة خلال هذه الفترة ميل أكثر من السابق نحو النصوص المحلية، وربما قد يعود ذلك للشعور بأن الحديث في الحداثة والتغيرات الحضرية والعنف والكتابة والتاريخ لا يكون من خلال الانطلاق مما هو عام أو من تواريخ أخرى، بل يتوجب النظر إليها من زوايا التواريخ المحلية، ولذلك غدا الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والسير الذاتية والأوراق العائلية ودفاتر التجار شيئاً أساسيا في جدول القراءة في هذه الفترة. وهنا لن يقتصر الأمر على قراءة الكتب الصادرة حديثا، بل سيكون موضوع الكتاب هو محور الاهتمام بغض النظر عن تاريخه، لكن هذا الاهتمام بالمحلي لا يعني أنه وليد فترة قصيرة، بل هو وليد فترات أبعد أحيانا، وإن فرضت أجنداتها في هذا العام، وهو ما وجدته في قراءة نص التاجر الحلبي «كمال حائك ويومياته» في القرن السادس عشر، الذي جاء في سياق اهتمامات السنة السابقة بنصوص العامة في المدن العربية العثمانية، فخلافا لما ذهبت إليه دانا السجدي من أن نص البدير الحلاق (القرن الثامن عشر) قد يكون الأول على مستوى نصوص العامة، نعثر في نص التاجر الحلبي، الذي حقق عن المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، أن هناك عاميا آخر قد سبق البدير وكتب عن أوضاع المدينة وطقوسها وأهلها. كما سيترافق الاهتمام بهذه اليوميات مع اهتمام آخر بالأوراق العائلية، وهنا سيلعب نص «أفندي الغلغول» دوراً في تفجيرها داخل يومياتنا القرائية (على الرغم من صدوره قبل عشر سنوات) فبعد الاطلاع على هذا الكتاب الذي تناول حياة أسرة بيروتية خلال مئة سنة، من خلال ما تركه الجد والأولاد من أوراق صغيرة ومبعثرة وصور، بدا البحث عن تلك النصوص التي تحاول نقل الهامش العائلي وجعله متناً ونصاً لفهم ما جرى في فترات زمنية معينة، كما أن هذا النوع من القراءات كان يلبي أو يشبع شعور الخوف من فقدان قصصنا وذاكرة مدننا، الذي نعيشه اليوم، في ظل الحصار الذي تعانيه بعض المدن العربية على صعيد الذاكرة وحتى الواقع، ولذلك رمى بنا أفندي الغلغول إلى أوراق العائلات والسير أينما وجدت، لنجدها تارة لدى سعاد العامري في رواية «دمشقي» وأخرى لدى محمد شعير في الأوراق التي كشفها عن محفوظ وولعه بكرة القدم، ومرة لدى خيري الذهبي وسيرته في كفرسوسة والحلبوني في دمشق خلال الخمسينيات، أو لدى تاجر دمشقي بدر الدين الشلاح، الذي ستكشف رسائله مع ابنه راتب الشلاح، أن المدينة العربية لطالما صنعت الأساطير حول أبنائها خلافا لما يقال عادة عن عقلانيتها مقارنة بالريف، وأن العائلات الدمشقية بقيت منعزلة وترفض الزواج الخارجي، ولا نعرف لماذا؟ هل لأسباب اجتماعية أم محاولة منها للدفاع عن وجودها مع تغير موازين القوى في المدينة؟ لكن الاهتمام بيوميات التاجر الدمشقي لن تتوقف هنا، فكثيرا ما تنقلنا الكتب الجيدة من ضفة لأخرى، كما جرى مع هذا الكتاب بعد همس أحد الأصدقاء بمعلومة تقول، إن من كتب هذه اليوميات ليس التاجر، فهو عامي ولم يكمل دراسته، بل هو الكاتب السوري نجاة قصاب حسن، وقد غيرت هذه المعلومة من جدول القراءة لدينا، فبدلاً من استكمال البحث في دروب العائلات، كنا نسير نحو نصوص نجاة حول سيرته الدمشقية، علنا نعثر في أسلوبه على دليل يربطنا بالشلاح. وعلى الرغم من محاولات قصاب حسن أن يقلد حلاق القرن الثامن عشر، وهو يتحدث عن دمشق، لن يتمكن من أن يمتلك أسلوب البدير أو الشلاح (العامة) لكننا سنكتشف معه عشرات الأسماء السورية التي تستحق القراءة والاهتمام بنصوصها، وفي مقدمتها شاكر مصطفى. أما الاكتشاف الغريب في هذه السيرة (نجاة قصاب حسن) بعد مرور سنوات طويلة على صدروها، معرفة أن الجزء الثالث من الكتاب والذي بشرنا به المؤلف في الجزء الأول، لم يطبع رغم مرور 26 سنة على صدور الجزء الثاني!
عالم الرواية.. الضيف الجديد
لم تخل قراءتنا في السابق من نصوص روائية، لكن الجديد لهذا العام شعورنا بأن الرواية السورية اليوم تبدو وكأنها تحمل إمكانيات أفضل وأكثر قدرة على التخيل لفهم ما جرى في البلاد، وربما هذا الشعور سيدفعنا إلى إعادة ترتيب أولويات القراءة، والمشتريات أيضاً؛ فبعد أن كانت الكتب الفكرية تحتل 90%، جاء معرض إسطنبول الأخير لنكتشف أن 60% من مشترياتنا انصبت على الروايات، وبالأخص تلك التي ألفها كتاب شبان، فهؤلاء الروائيون الجدد بدوا أحيانا أكثر قدرة على رصد ما يجري على الأرض، كما أن بعض الأعمال الروائية السورية حملت مهمة التأريخ لمدننا الصغيرة، وهذا ما نراه مثلاً من خلال أربعة نصوص روائية كتبت في السنة الأخيرة فقط عن مدينة القامشلي الصغيرة والقرى المحيطة بها، والطريف في رواياتنا هذه أن هموم الأجيال بدت متحكمة في خطاب الذاكرة وصورة المدينة، إذ بدا الجيل الكبير (نزار آغري، عيسى الشيخ حسن) مهموما بجمع بقايا الماضي، وبقيت صورة المدينة لديه تتمثل في الأحياء التقليدية، بينما ظهر الجيل الآخر من الروائيين (ريدي مشو، محمد خليل) أكثر شجاعة على رصد الواقع وعلى رسم صورة أخرى للمدينة، تظهر فيها هذه المرة بعض الأحياء المهمشة (حي العنترية) وهي تلعب أدوراً أخرى على صعيد المشهد اليومي الروائي، ولذلك استطيع القول إن الرواية باتت تحظى بمساحة أكبر في يومياتنا القرائية لهذا العام بعد أن كانت مكانتها ثانوية مقارنة بالنصوص الفكرية والمترجمة، ولا أعرف إن كان ذلك أمراً شخصيا أم تحولاً عاماً؟
وفي النهاية، يستحضرني كتاب المؤرخ الفلسطيني طريف الخالدي «أنا والكتب» الذي حاول فيه، من خلال الحديث عن قصصه مع القراءة والكتب، أن يدفع قارئه للبوح بقصصه الموازية وذكرياته ويومياته. وهذه اليوميات في القراءة أيضا، ليست هي الهدف بحد ذاتها، فهي يوميات مثقلة بالقراءة بحكم عمل كاتبها في الحقل الثقافي، والقدرة على شراء الكتب، واستعمال العلاقات الشخصية أحيانا لاقتنائها، واستخدام التقنيات الحديثة، وأهمها الكيندل، الذي اشترته له زوجته بعد مقاومة لسنوات، ما ساهم في تغير يوميات قراءته بعد أن أصبح بالإمكان توفير بعضها بكبسة زر؛ وإنما الهدف من هذه اليوميات دعوة القارئ للخوض ولو للحظات في يومياته لهذا العام مع القراءة ومسارها، فالتاريخ اليوم هو تاريخ الأشياء الصغيرة وقصصنا وذاكرتنا ويومياتنا، التي تستحق التدوين والكتابة أو التذكر حتى لو بدت بسيطة..