في مايو/أيار الماضي، نشر مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بيانا غامضا على موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، طالب خلاله بإيقاف جميع المحاولات الرامية إلى ترهيب مسؤولي المحكمة ومحاولة التأثير عليهم "بشكل غير لائق".
ورغم أن البيان لم يحدد ماهية تلك التأثيرات "غير اللائقة"، كما أنه لم يذكر إسرائيل صراحة، لكنه صدر في أعقاب توجيه انتقادات للجنائية الدولية من قِبَل مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، وتحذيرهم من "العواقب" التي قد تطول أعضاء المحكمة بعدما طالب مُدّعيها العام، البريطاني كريم خان، بإصدار مذكرة اعتقال لقيادات إسرائيلية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة.
أبعد من تلك الانتقادات العلنية، ربما تحيل إشارة المحكمة الجنائية حول "التأثيرات غير اللائقة" إلى ما كشفت عنه وسائل إعلام غربية في وقت سابق حول استخدام إسرائيل أجهزتها الاستخباراتية ووكلائها في مراقبة كبار مسؤولي الجنائية الدولية واعتراض اتصالاتهم، بما في ذلك المكالمات الهاتفية والرسائل والبريد الإلكتروني، بغرض ابتزازهم وتشويه سمعتهم، كجزء من عملية استخباراتية تهدف إلى إحباط تحقيقات المحكمة حول إسرائيل.
نتيجة لذلك، استدعت وزارة الخارجية الهولندية في يونيو/ حزيران الماضي سفير إسرائيل لديها، مودي إفراييم، على خلفية اتهام إسرائيل بالتجسس على أعضاء الجنائية الدولية، وفي مقدمتهم المدعي العام كريم خان، وذلك بعد أن طُرحت القضية من قبل نواب في البرلمان الهولندي. ويدفعنا ذلك إلى تسليط الضوء على سوابق إسرائيل في مثل هذه الممارسات السوداء، وإمكاناتها المتوسعة في مجالات التجسس والمراقبة، والتي لا تقف اليوم عند حدود خصومها لكن تتوسع إلى العالم بأسره.
القصة لم تبدأ الآن
ثمة ما يشير إلى أن الاستهداف الاستخباري الإسرائيلي لمسؤولي المحكمة الجنائية الدولية لم يبدأ مع الأحداث الجارية، لكنه يعود إلى عام 2015، حيث دشنت دولة الاحتلال حملة منظمة لتعقب أعضاء المحكمة بعد حصول فلسطين على عضويتها رسميا في أبريل/نيسان من ذلك العام.
وقتها، قررت القانونية الغامبية "فاتو بنسودا"، التي شغلت منصب المدعي العام للمحكمة بين عامي 2012-2021، فتح تحقيق أولي حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإجراء تقييم أولي لـ"شبهة" ارتكاب جرائم في غزة والضفة الغربية، مما أثار خشية إسرائيل من تعرض بعض مسؤوليها وجنودها للملاحقة القضائية.
وبمجرد بدء التحقيق الأولي، أطلقت "بنسودا" وفريقها تحذيرات عدة، أعربوا خلالها عن قلقهم من تواصل أجهزة استخبارات إسرائيلية معهم، ومحاولة تجنيد "بنسودا" من قِبَل الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي "يوسي كوهين"، الذي التقى بها مرات عدة وحاول خلالها إقناعها بعدم المضي قدما في التحقيقات، وتغيير بوصلتها "للتعاون مع مطالب إسرائيل".
ورغم أن سلوك "كوهين" اتسم بالود في البداية، فإنه سرعان انتقل إلى الترهيب حين أدرك أن "بنسودا" لن تتخلى عن إجراء التحقيق ولن تستجيب لأغراضه بسهولة. وفي مرحلة لاحقة، أرسل إليها تهديدات مبطنة، تطرّق خلالها إلى مسيرتها المهنية وسلامتها الشخصية وسلامة أسرتها، كما نشطت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في التجسس على اتصالات "بنسودا" الشخصية واتصالات أفراد عائلتها، بغرض الحصول على معلومات مسيئة يمكن استخدامها ضدها، بما في ذلك تسجيلات سرية لزوجها.
أشرف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بنفسه على عمليات المراقبة والتنصت، وأبدى اهتماما يصل إلى درجة "الهوس" بالاستماع إلى المكالمات الهاتفية الخاصة بمسؤولي الجنائية الدولية، فيما أُرسلت المعلومات المستقاة من عمليات التنصت إلى وزارات العدل والخارجية والشؤون الإستراتيجية، إضافة إلى فريق سري من كبار المحامين والدبلوماسيين، وذلك للاستفادة منها واتخاذ آليات استباقية تضمن إحباط تحقيقات المحكمة.
لم تقتصر عمليات التنصت على مسؤولي المحكمة فقط، بل توسعت لتشمل 6 منظمات حقوقية غير حكومية، تعاونت مع الجنائية الدولية وقامت بإرسال مواد تثبت انتهاكات الاحتلال بحق الفلسطينيين، منها منظمات: الحق، والضمير، وبيسان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
وتُظهر التحقيقات أن عمليات التجسس أفضت إلى علم وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، بيني غانتس، بوجود اسمه ضمن الوثائق المقدمة من قِبَل المنظمات الحقوقية، بسبب دوره رئيسا للأركان أثناء حرب غزة عام 2014، ووزيرا للدفاع عام 2021، مما دفعه إلى تصنيفها منظمات إرهابية في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
تتوافق هذه النتائج مع خلاصات أبحاث أجرتها منظمة حماية المدافعين عن حقوق الإنسان (FLD)، بالتعاون مع مختبر الأمن في منظمة العفو الدولية، خلصت خلالها إلى تعرض هواتف مجموعة من العاملين في مجال حقوق الإنسان الفلسطيني للاختراق ما بين عامي 2020-2021، بواسطة برمجية التجسس الشهيرة "بيغاسوس" (Pegasus)، التي طورتها طورتها مجموعة "إن إس أو" (NSO) الإسرائيلية.
ويُعد بيغاسوس أحد أقوى برامج التجسس في العالم، ويجري تثبيته في نظام الهاتف المحمول دون علم المستخدم، أي بدون الحاجة إلى النقر على رابط خداعي أو استقبال مكالمة وهمية، كما في حالة أنظمة التجسس الأخرى، وهو ما يُعرف باسم "النقرة صفر". ويحدث ذلك باستغلال الثغرات في البرامج الأخرى الموجودة على الهاتف، أو من خلال الخداع المتطور للنظام. وفور تثبيت بيغاسوس يبدأ في الاتصال بخوادم القيادة والتحكم الخاصة بالمُشغل (مُرسل بيغاسوس) لتلقي الأوامر وتنفيذها.
وأُخرى أكثر خطورة من بيغاسوس!
وليست بيغاسوس وحدها، بل تمتلك "إن إس أو" (NSO) أداة مراقبة أخرى من تطوير شركة سيركلز، التي استحوذت عليها المجموعة الإسرائيلية عام 2014 مقابل 130 مليون دولار. والجديد هنا أن منتجات سيركلز تعمل بأسلوب مغاير، حيث لا تحتاج إلى اختراق الهاتف، بل يمكنها التجسس عبر استغلال الثغرات في البنية التحتية لشركات الاتصالات المحلية.
هذا يعني أن نظام المراقبة في هذه الحالة لا يستهدف الهاتف مباشرة، وإنما يقوم بالتجسس من خلال اختراق الشبكة التي يجري الهاتف عليها اتصالاته، وهي التقنية التي استخدمها الاحتلال على الأرجح في اعتراض الاتصالات الأرضية التي تمت بين "فاتو بنسودا" والفلسطينيين.
هذه الطريقة المعقدة للتجسس يصعب جدا اكتشافها أو التحقق من وجودها، نظرا لأنها لا تترك آثارا على الجهاز المستهدف. كما تواجه شركات الاتصالات الخلوية تحديات فنية في تحديد البرنامج على بنيتها الأساسية وتحييده، رغم أن استخدام المسح الضوئي أكد انتشاره على شبكات الاتصالات المحلية في 25 دولة على الأقل، مما يشير إلى استخدامه على نطاق واسع.
ولإيضاح كيفية عمل برنامج سيركلز، يلزمنا أولا فهم طبيعة نظام الإشارات SS7 المسؤول عن تبادل المعلومات وتوجيه المكالمات الهاتفية، وهو مجموعة من البروتوكولات التي تم تطويرها عام 1975. ونظرا لأن شبكة الهاتف العالمية في ذلك الوقت تكونت من مجموعات صغيرة من مشغلي الاتصالات، وكانت هذه الشركات تثق في بعضها البعض بشكل عام، لم ير مصممو نظام SS7 حاجة لتضمين مصادقة أو تحكم في الوصول.
وبسبب افتقار النظام للمصادقة فبإمكان أي مهاجم اعتراض اتصالات الضحية، وذلك عبر إحدى طريقتين، إما عن طريق شراء حق الوصول إلى SS7، وإما عبر قيامه بإنشاء شركة اتصالات وهمية، كما هي الحالة مع سيركلز التي أشارت تقارير إلى سابقة إنشائها شركة هواتف وهمية في بلغاريا.
وفيما تؤكد سيركلز التزامها ببيع منتجاتها للدول القومية وفقا لأغراض قانونية محددة، كاستغلالها في مكافحة الإرهاب والجريمة، يشير مختبر "سيتزن لاب" المهتم بالأمن الإلكتروني وحقوق الإنسان ومقره مدينة تورنتو الكندية، إلى أن بعض الحكومات المحددة باعتبارها عملاء للشركة، لها تاريخ سيئ في استغلال التكنولوجيا الرقمية في انتهاكات حقوق الإنسان وفي السيطرة على المعارضين.
ومن أمثلة ذلك ما أوردته صحيفة بريميوم النيجيرية عام 2016، من حصول اثنين من حكام الولايات في نيجيريا على برنامج سيركلز واستخدامه للتجسس على معارضين سياسيين، كذلك استهداف 3500 صحفي وناشط سياسي في رواندا من قبل السلطات بواسطة بيغاسوس، إضافة إلى واقعة مماثلة في غانا، حيث تعاونت حكومتها مع "إن إس أو" لاستخدام بيغاسوس للتجسس على شخصيات معارضة قبيل انتخابات عام 2016.
هذه مجرد أمثلة فقط على سياسة إسرائيلية ممنهجة تعمد إلى مشاركة "تقنيات القمع الإلكتروني" مع العملاء الراغبين من أجل دفع علاقات إسرائيل الدبلوماسية والتغلب على محاولات الحصار والعزلة، بمعنى أن إسرائيل تسعى إلى تعزيز علاقاتها الدبلوماسية ومحاربة حملات المقاطعة عبر مقايضة الحكومات القمعية ببرامج التجسس.
ورغم أن مجموعة "إن إس أو" التي تأسست في عام 2010 تصنف كشركة خاصة، لكن ذلك لم يضعها بعيدا عن سيطرة الدولة، فيما يُرجح أن تمويلها الأساسي تم من قبل وحدة الاستخبارات النخبوية 8200، المتخصصة في الأمن السيبراني والتابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان).
وفي هذا الصدد يعلق شير هيفر، الباحث الاقتصادي ومدير تحالف من أجل العدالة بين الإسرائيليين والفلسطينيين قائلا إن إسرائيل "تخلق ثقافة تواطؤ تغض خلالها جهاتها الحكومية الطرف عن شركات المراقبة العسكرية الخاصة"، وذلك عبر منح الضباط المتقاعدين والعاملين السابقين في المؤسسة العسكرية فرص عمل ثانية في سوق الأمن الخاص، حيث أن أكثر من 80% من موظفي المراقبة في القطاع الخاص حاليا، انتموا في السابق إلى وحدات الاستخبارات الإسرائيلية وإلى وحدة الأمن السيبراني 8200 تحديدا.
الوحدة 8200: ذراع إسرائيل الاستخباري الأطول!
رغم أن الاعتراف بوجود الوحدة 8200 لم يحدث إلا في مطلع القرن الحالي، لكن التقارير تشير إلى أن تشكيلها بدأ في ثلاثينيات القرن الماضي، وقد عُرفت آنذاك باسم "شين ميم" (بالعربية: خدمة المعلومات)، وكان إنشاؤها بغرض التنصت على اتصالات العرب في القدس.
وفي عام 1948 أُطلق على الوحدة اسم كودي هو "Rabbit"، وظل التنصت على مكالمات الفلسطينيين هدفا لها لكن من خلال تقنيات بدائية. وبحلول عام 1960 قام الجيش الإسرائيلي بشراء جهاز كمبيوتر "فيلكو" من الولايات المتحدة، وتزامن ذلك مع إنشاء مركز أجهزة الكمبيوتر وإدارة السجلات (المعروف باسم: مامرام)، وقد ساهمت هذه القوة الحاسوبية في اعتراض الاتصالات الجوية المصرية والسورية وفك رموزها أثناء حرب 1967.
ثم كان عام 1973 مفصليا في تاريخ الوحدة، بعدما واجه الاحتلال أكبر فشل استخباراتي في تاريخه في أكتوبر/تشرين أول على الجبهة المصرية، إضافة إلى أسر الضابط الإسرائيلي "عاموس ليفنبرغ" من قبل السوريين، وفشله نفسيا في الوقوف أمام المحقيين. ونظرا لأن "عاموس" كان مطلعا على أسرار الوحدة، أدت اعترافاته إلى إلحاق ضرر كبير بالاستخبارات الإسرائيلية، حينما أخبر السوريين باختراق إسرائيل لكابلات الاتصالات السورية، وتنصتها على كافة وسائل البث العسكرية السورية، بما في ذلك الاتصالات بين الرئيس السوري وقادة الفرق، مما اضطر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية ومدير استخبارات الجيش الإسرائيلي إلى الاستقالة آنذاك.
والجدير بالذكر؛ أنه بينما يُنسب إلى الوحدة نجاحها في عدد من عمليات القرصنة والتجسس، إلا أن مكانتها المرموقة لم تجعلها بعيدة عن الإخفاق الذي تعرضت له الاستخبارات الإسرائيلية بكافة أفرعها، خلال هجمات المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، وهو ما أدى إلى استقالة قائدها يوسي شاريئيل في سبتمبر/أيلول الماضي.
ماذا في قاعدة "أوريم" أيضا؟!
"واحدة من أكبر قواعد استخبارات الإشارة في العالم".. هكذا توصف قاعدة "أوريم"، حيث يمكنها تنفيذ عمليات اختراق للكابلات البحرية ومراقبة الاتصالات المنقولة عبرها، خاصة الكابلات المارة خلال البحر المتوسط والتي تربط بين إسرائيل وأوروبا، كما أن لديها مراكز تنصت سرية في مباني السفارات الإسرائيلية في الخارج، إضافة إلى وحدات مراقبة سرية داخل الأراضي الفلسطينية.
كان إنشاء أوريم، ابتداء، بغرض مراقبة الاتصالات الدولية المنقولة عبر أقمار "إنتلسات"، ثم توسعت لتشمل القدرة على اعتراض الاتصالات البحرية المتبادلة على أقمار "إنمارسات"، ثم استهدفت عددا متزايدا من الأقمار الصناعية الإقليمية. وعلى هذا النحو، تشكل أغلب الأقمار الصناعية في القوس الممتد بين المحيطين الهندي والأطلسي، أهدافا محتملة للقاعدة الإسرائيلية.
ومن نافلة القول هنا الإشارة إلى ما يلحق بالفلسطينيين جراء هذه الأدوات فائقة القدرة في مجال الرقابة والتجسس، حيث يُشار عادة إلى أن الاحتلال يعدّ سكان الأراضي المحتلة بمنزلة منصة اختبار لأدوات المراقبة والسيطرة الجماعية، ومن ثم يعتبر ذلك نوعا من الدعاية والترويج لمنتجاته التجسسية بين الأنظمة القمعية الأخرى في أنحاء العالم.
ووفقا لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، تعد عملية المراقبة الموجهة ضد الفلسطينيين الأضخم من نوعها في العالم، وتشمل مراقبة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والسكان بالمجمل، ويعتمد فيها الاحتلال على طبقات متعددة من التقنيات، على غرار مشروع "مابات 2000″، وهو نظام أمني يتألف من شبكة معقدة من كاميرات مراقبة تنتشر في الضفة الغربية، من تطوير مؤسسة "مير" الإسرائيلية وبمخصص بلغ 15.26 مليون دولار في عام 2015، كما تم تعزيزه لاحقا بنظام للتعرف على الوجوه.
ومن جهة أوسع؛ يثير الاستخدام العالمي للتقنيات الإسرائيلية مخاوف الخبراء، نظرا لأنه من المرجح أن تحصل إسرائيل على كافة المعلومات المتوافرة من استخدام تقنياتها التجسسية، حتى وإن كان هذا الاستخدام يجري بواسطة حكومات مستقلة في دول أخرى، باعتبار أن إسرائيل المطور الأساسي للتقنية، الذي يحتفظ بأسرار ربما لن يعرفها المستخدم بتاتا مهما بلغت قوته أو نفوذه.